اعتاد الباحثون عن السبق
الإسلاميّ بأيّ ثمن اجترار كلام عن انتشار المثلية في المجتمع الإسلاميّ
لإيهام الناس بتسامح حضارة الإسلام ’العظيمة’ مع المغايرين جنسيا. لكن، هل
وجدت حرّية جنسية أو تسامح جنسيّ حقيقيّ عند المسلمين، قدامى كانوا أو
معاصرين؟
إن كان انتشار المثلية ماضيا وحاضرا بين المسلمين والمسلمات دالا على
استحالة التزامهم المطلق بما يقول قرآنهم وسنّتهم، فإنّه لا يعني أبدا أنّ
المجتمع الإسلامي سمح ويسمح بتعدّد الهويات الجنسية والاستمتاع الحرّ
بالجسد. هل اختار الغلمان في الحضارة العربية الإسلامية أن يكونوا غلمانا؟
ألم يكونوا لعبا، عبيد جنس بين أيدي الخلفاء والأمراء والفقهاء وقادة
الجيوش وغيرهم؟ ألم يكونوا يباعون ويقدّمون كهدايا للأصحاب؟ هل كانت هناك
علاقات مثلية ندّية حرّة في فترة الحضارة الإسلامية المسمّاة ذهبية؟
لا يجيب بالإيجاب سوى من كان يحمل تصوّرا قهريا عن الجنسانية، ذاك
الذي لا ينظر إلى ’الجماع’ سوى على أنه مسألة فاعل ومفعول به، وإلى الحبّ
بوجه عامّ على أنّه مجرّد احتكاك بين الأعضاء.
بغضّ النظر عن الجامعيين المتأسلمين الذين ينظرون إلى المثلية بمنظار
القرن السابع، ويُجرّمون المثليين كما يأمرهم دينهم، لم يتخلّص حتى
الباحثون الاجتماعيون غير المنحازين علنا للدين من ذلك التصوّر التراتبي
للعلاقة الجنسية، فنجد بعضهم يتحدّث في الجامعات العربية عن المثليين
الإيجابيين والمثليين السلبيين! الفاعل والمفعول به بكلام العامّة العرب،
و’الواد والعم’ بتعبير أهل الحجاز وهو العنوان الذي اختاره الإعلاميّ
السعودي مفيد النويصر لعمل روائيّ رائد حاول عبره أن يغوص في عالم العلاقات
المثلية في أحياء مدينة جدّة، وفضح طبقيتها، بل طبيعتها العنصرية، إذ أنها
لا تخرج عن كونها علاقة قاهر ومقهور، قائد ومقاد، مستمتع ومستمتع به..
تنقل صفحات الكتاب الـ175 قارئ ’الواد والعم’ إلى لندن وبالتحديد إلى منطقة
سوهو، ليكتشف أنّ المثلية حرية وخيارٌ هناك واستمتاعٌ متبادلٌ، لا قهرٌ
واغتصابٌ كما هو الحال في مدينة جدّة وأخواتها العربيات. تحت سماء
الديمقراطية تتحرّر الرغبات وتتحقّق وتكون الليبيدو في المجتمعات
الديكتاتورية على صورة تلك المجتمعات: ليبيدو قامعة/ ليبيدو مقموعة.
لا يمكن أن نتحدث عن مثلية حقيقية في وطن عربي يستوحي قوانينه من قواعد
فقهية إسلامية منغلقة تعتبر مشتهي المماثل شاذّا جنسيا يستحقّ العقاب
الشديد. تقول المادة 338 من قانون العقوبات الجزائري بالحرف الواحد إنّ :
"كلّ من ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسيّ على شخص من نفس جنسه يعاقب
بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة مالية ما بين 500 إلى5000 دينار
جزائري." لكن لم يشف هذا غليل الإسلاميين وراحوا يطالبون السلطات بتطبيق
القصاص على المثليين في الأماكن العامّة ليكونوا عبرة للآخرين. في البحرين
تصل أقصى عقوبة إلى 10 سنوات سجنا فضلا عن العقاب الجسدي أحيانا. في
الإمارات العربية المتحدة 14 سنة! عقوبة المثلية سنة وراء القضبان حسب
المادة534 من قانون العقوبات اللبناني و كذلك في المغرب.. في ليبيا من 5
إلى 7سنوات وفي مصر تتراوح العقوبة من سنة إلى ثلاث سنوات.
أما في البلدان التي تطبّق
الشريعة وحدها لا شريك لها كموريتانيا والعربية السعودية والسودان واليمن
وإيران، فالعقوبة هي الإعدام والجلد، كما اتّفق عليه فقهاء السنة والشيعة
على حد سواء.
لا مجال للحديث عن مثلية حرة في بلدان ما زالت تعتمد على الدين في سنّ
القوانين، ونعلم أنّ كل الأديان التي تسمّي نفسها سماوية معادية للهويات
الجنسية المغايرة، فالإسلام يعتبر المثلية خروجا عن الفطرة التي خلق الله،
هي شذوذ جنسيّ وأصحابها من الواقعين في الرذيلة كما وقع قوم لوط في
الأسطورة.
المثلية لِواطة، انحراف محرم بإجماع المسلمين؛ إذ نقرأ في سورتي الشعراء
والأعراف آيات تجرّمها صراحة. أمّا في السنة فقد جاء أنّ الرسول قد
قال"غطّ فخذك فإنّ فخذ الرجل من عورته"، و" لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل
ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد،
ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد". و"إذا أتى الرجل الرجل فهما
زانيان". لم يرحم المشرع السنّي ’لا الممارس ولا الممارس عليه’ رغم أنّ هذا
الأخير مغتصَب في أغلب الأحيان في بلدان الإسلام، وسلط عليهما أشنع
العقوبات. فاللائط يعاقب عقوبة الزاني حسب الحنفية، يرجم المحصن ويجلد غير
المحصن. حدّ اللواط هو نفس حدّ الزنى لدى الشافعية.
أما المذهب الشيعيّ فقد اعتبر اللواط من أشنع الذنوب وأفظع المعاصي ومن
الكبائر التي تغضب الله ولا يستحق مرتكبها ’فاعلا’ أو ’مفعولا به’ عقوبة
أقل من القتل.
لا وجود للمثليين في إيران! صرح الرئيس أحمدي نجاد ذات عام في جامعة
أمريكية. جاء في خطبة أمام الطلبة بطهران سنة 1998 ألقاها آية الله موساوي
أردبيلي وقد كان ممثلا لحكومة الملالي آنذاك :" إذا قبضتم على مثلي اتركوه
واقفا ثم اقطعوه نصفين بواسطة سيف واحرقوه فور موته أو ارموه حيا من قمة
جبل ثم احرقوا ما تبقى من جثته، أو احفروا حفرة واضرموا فيها نارا ثم ارموه
داخلها. لا يجب أن تأخذكم به .(L.G.B.T.Tرحمة ولا شفقة.." (موقع
لا ينطق هذا الــ ’آية الله’ عن الهوى فقد اتفق فقهاء الشيعة على
وجوب قتل الفاعل والمفعول به إن كانا بالغين عاقلين، ولا فرق إن كانا
محصنين أم لا، مسلمين أم غير مسلمين. أمّا كيفية القتل فالحاكم مخيّر بين
أن يضرب عنقيهما بالسيف أو يحرقهما بالنار أو يلقيهما من شاهق أو يهدم
عليهما جدارا!
فــ "من جامع غلاما جاء جُنُبا يوم القيامة لا يُنقّيه ماء الدنيا وغضب
الله عليه ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيرا"، قال الرسول حسب الإمام جعفر
الصادق. نقرأ في كتب الشيعة أن الرسول قال أيضا " حرمة الدّبر أعظم من
حرمة الفرج إنّ الله أهلك أمّة بحرمة الدّبر، ولم يهلك أحدا بحرمة الفرج".
ربما يكمن هنا تفسير ذلك الكره الشديد لا للذي يلوّط بل للذي تمارس عليه
اللواطة :"حينما استيقظ أثناء الليل ليتبوّل، تذكر تلك الإهانة التي تعرض
لها من طرف الدكتور غارسيا. لم يفهم لماذا أدخل الطبيب أصبعه في شرجه
ليطلع على أخبار مثانته. لماذا لا يستعمل التصوير الإشعاعي؟ ألا يكون هذا
الـ ’غارسيا’ فاسقا ؟ يا للعار! "
(Benjelloun T .Au pays, éd. Gallimard,2009, P.94)
من بطل رواية الطاهر بن جلون الأخيرة إلى حكاية أحد أبطال الثورة
الجزائرية، وسواء كانت القصة حقيقية أو خيالية فهي تُشدّد على حرمة الدّبر
وقدسيته، حيث يحكى أن الثائر وقع في قبضة المظليين الفرنسيين المعروفين
بهمجيتهم فذاق على أيديهم أمرّ العذاب، ولكنه لم يفش سرا ولم يَفتكوا منه
شيئا رغم وحشيتهم، ولكن بإيعاز من أحد الجزائريين المتعاونين مع المستعمر
هُدّد بالإغتصاب إن استمرّ في صمته، وهنا انهار معنويا وباح بكل ما كان
يعرف. حينما سأله أصدقاؤه بعد الإستقلال عما جرى له ذلك اليوم ولماذا سقط،
هو المعروف بتحمّله وجلده وإيمانه العميق بالثورة؟ أجاب في جملة أصبحت مثلا
شعبيا في الجزائر:’’ لعن الله استقلالا يأتي عن طريق الدّبر". وإلى اليوم
يرفض كثير من الجزائريين استعمال التحميلة الشرجية (السيبوزتوار) معتقدين
أنّ إدخال شيء في شروجهم ولو لضرورة طبّية هو إهانة لفحولتهم.
لم يسلم حتى العرب الذين يعيشون في الغرب من جهل أسرهم وعقلية أحيائهم
المؤسلمة. يقول الطالب الجامعي سليم الذي خضع لمحاولة إعادة تربية: "لم
أفهم نيّة أبي عندما أخذني إلى الجزائر. تحولت العشرة أيام التي ذهبت
لأقضيها هناك إلى حجز عنيف دام ستة أشهر، عشت فيها محروما من جواز السفر
ومجردا من أي دينار. أخضعوني لعلاج أسموه علاجا ذهنيا لتخليصي من المثلية
حسبهم". لم ينجُ عند عودته إلى فرنسا من ضرب إخوته بمباركة أبويه إلى درجة
غادر المنزل العائلي ولم يعد أبدا.
(kelma.org)
في رسالة مفتوحة ومطولة إلى أمه عنونها بالفرنسية "المثلية كما فسّرتها
لأمي’’، طرح الكاتب المغربي عبد الله الطايع مسألة المثلية في المغرب
الأقصى بشجاعة لم يعرفها المجتمع المغربي ولا العربي قطّ، إذ لم يكتف
بالجهر بمثليته (كان قد جعلها مادة أساسية للإبداع في كتبه: كآبة عربية،
مغربي أنا، أحمر الطربوش)، وإنما دعا إلى احترام اختيارات الفرد في جميع
مناحي الحياة، معلنا أن رياح التغيير آتية لا ريب فيها : "أمّاه لست وحيدا
في المغرب! لقد تحرّك شيء ما في هذا البلد، نحن نعيش قطيعة حقيقية[..]أنا
أكتب، بمعنى أنني أتحمل مسؤولية ما تجاه نفسي ونحو المجتمع الذي جئت منه،
إنني في خضم حرقة السؤال إذ يخرج الكتاب من الذات ليستنطق العالم والمجتمع.
لم يعد بإمكاني الإكتفاء بنصف الحلول،لذا فأنا أتحمل مسؤوليتي كاملة وإلى
النهاية. لا أريد أن أعيش مطأطئ الرأس. لست بطلا، فقط لم أعد أطيق النفاق
وأضراره الجسيمة في المغرب. لا أقبل أن تقدم صور مختزلة فولكلورية عنا
لجلب السياح[..]متى نقطع مع هذه السياسة الشكلية؟ ألا يستحق المغرب أحسن من
ذلك؟ حداثة حقيقية؟ ثورة حقيقية في الذهنيات؟ لماذا لا نجرؤ على أن نكون
أنفسنا: نتحرر، حتى ولو كان ذلك عن طريق الإستفزاز والفضيحة.."
من البداهة والحال هذه أن ينظر المسلمون إلى العلاقة المثلية نظرة
دونية، لأنهم لا يرون فيها سوى لواطا، ميلا من جانب واحد للجنس المماثل،
الأضعف عموما. فكأنها اعتداء جنسي على الآخر لا غير. لم تفسح الترسانة
الأخلاقوية الدينية المتوارثة الموبوءة بالأحكام المسبقة المجال لنظرة
إنسانية أخرى للمثلية تقوم على علاقة ندية متبادلة، وتنظر إلى المثلية
كهوية جنسية، وليس كردّ فعل تولده الحاجة يؤدّي إلى اغتصاب جنسي مثلي.ّ
تجربة الاستغلال الجنسي التي عانى منها ’الغلمان’ تاريخيا، والهجمة
الدينية المعاصرة التي يعاني منها المجتمع العربي، شوّهتا تصوّر الناس
للمثلية وجعلتهم يسقطون في تمييز جنسي وهموفوبيا، خوف غير عقلاني من
المثليين وكرههم، واعتبارهم مرضى ينبغي معالجتهم أومنحرفين يجب ردعهم. لا
يرى فيهم الشيخ القرضاوي ’في الحلال والحرام في الإسلام’ سوى كائنات مضرة
ينبغي تطهير المجتمع الإسلامي منها وليس غريبا أن يطالب الشيخ عبد السلام
العاصمي سنة 2007 بقتل المثليين الجزائريين جميعا لمنع الفساد كما يقول!
هل يعلم الشيخان أن الذين يريدان قتلهم لا يشتهون المماثل بمحض إرادتهم
ولا من أجل إغضاب الله، إذ تؤكد الدراسات العلمية كل يوم أن مجموعة مركبة
من العوامل هي التي تفرض الميل الجنسي في مرحلة مبكرة جدا من عمر الإنسان؟
فالله هو الذي خلقهم هكذا إذا ما نهجنا منطق الشيخين! هل سمع الشيخان عن
مثلية الحيوانات؟ هل لحم الحيوان المثليّ حرام أم حلال؟ هل تجوز التضحية في
عيد الأضحى المقبل بخروف مارس اللواط؟
ينبغي التفريق بين الأفعال الجنسية المثلية المناسباتية والتوجه
المثلي الأصيل. في الوطن العربي هناك مثلية موسمية نتيجة الجدران المنصوبة
بين الذكور والإناث، وهذا الفصل التعسّفي بين الجنسين المفروض من طرف دين
الشيخين هو المسؤول الأول عن تكاثر المثليين المزيّفين. المجتمعات العربية
سجون تمتلئ بمثليين موسميّين، هي مثلية مؤقتة عابرة (قد تصبح دائمة عند
البعض) تكون مجرد نزوة مرحلية، إشباع حاجة عضوية، تفريغ كبت، وليس خيارا
حرّا واعيا عاطفيا ..كما نجد بعض النساء يملن إلى السحاق لإشباع رغباتهن
الجنسية للمحافظة على عذريتهن حتى الزواج.
لهذه الاعتبارات يمكن القول أن ’الممارسات المثلية’ هي أكثر انتشارا في
العالم العربي الإسلامي من غيره، إذ أن أغلبها مجرد تعويض عن تقلص فرص
اللقاء مع الجنس المغاير. لا أبالغ كثيرا إن كتبت أن كل عربيّ (ة) مسلم (ة)
قد يكون مثليا أو كان أو سيكون، ليس لأنه عربيّ وإنما لعيشه وسط ظروف
ومعتقدات تفصل بين الجنسين كثيرا ما تفرض عليه أن يكون مزدوجا جنسيا.