لا مراء أنّ المثلية الجنسية إن
كانت ـ وما تزال ـ محطّ النبذ والإقصاء، فليس إلا لأنّها تخلخل كلّيا أسس
مجتمعاتنا القائمة على الغيرية الجنسية ولا تفتأ تطرح إشكالات لا حصر لها،
من قبيل إشكالية المتعة والوراثة والإنجاب والصداقة والجسد والفرد والحرية
والجنس والحقّ في الاختلاف والسلطة والحياة والسعادة والهوية … إنّها
بتعبير آخر ما يؤسّس لنوع من العلاقات المتنافية مع منطق رجال السياسة
والدين، الكهنة والجنود، الدماغوجيين ومريدي الترسيمات القطيعية أي كلّ
خدّام أعتاب النظام الاجتماعيّ الذين يكرهون الفرد ولا ينظرون إلى الجسد
إلا باعتباره ما يستوجب الاستعباد والامتلاك؛ مادام بحسبهم مدنّسا على
الدوام ويستدعي التطهير ثمّ الإخضاع.
مع المثلية إذن انفصلت الجنسانية إلى جنسانية طبيعية وجنسانية غير
طبيعية، فظهر المثليّ جنسيا كما لو كان حالة غير عادية أي شاذّة تستدعي
التقويم والتهذيب. لكن هل الأمر حقا كذلك؟ أم أنّ خلف هذه الاتّهامات نياّت
مغرضة تحكمها منظورات إيديولوجية موصولة بالصراعات السياسية التي تروم
باستمرار الإبقاء على نظير تلك الأدوار التقليدية العائدة للرجل والمرأة
داخل المجتمع كما هي؟ فخطورة المثلية لا تتجلّى فقط في كونها ما يناقض
الحالة الغيرية جنسيا، بل في كونها تؤسّس لنوع من العلاقات جديدة تغدو
فيها المتعة مثلا متاحة بدون إنجاب؛ ويذكّرني هنا جسد المثليّ بجسد المرأة
أو الرجل العقيم (المنبوذ دينيا لا لشيء إلا لأنّ جنسانيته تسعفه على
الاستمتاع والإمتاع بعيدا عن مسارات الأمومة والأبوة، شأنه في ذلك شأن
الأعزب غير الراغب في الزواج، بحيث أنه لا يعتبر بحسب التلمود مثلا إلا نصف
رجل بينما في الإسلام هو على إيمان ناقص)، أي ذلك الجسد المتحرّر الذي
بوسعه الاستمتاع دونما هلوسة الإنجاب، ولا مخافة أن يتحوّل بالرغم منه إلى
أمّ أو أب .
المثليون إذن أحرار، لأنهم يمتلكون هذه القدرة على الانفلات، المحلوم
بها من لدن المغايرين جنسيا، منذ أمد بعيد والتي شاءت الأقدار أن نحياها
اليوم بفضل الاكتشاف العلمي الخارق لوسائل منع الحمل، رغم أنف إكليروس
العائلة الذي لا يرتاح إلا إذا صار الرجل فينا أبا والمرأة أمّا. تذكّرت
مقولة أدونيس الرائعة:"يولد العربيّ أبا" …والحال أنّ تقنية منع الحمل
تعبير عن نوع من الارتداد عن هذا الأقنوم والتحرر الذاتي والسيادة الفردية
تجاه الجنس، على اعتبارها تقنية أفرزت جسدا في أقصى درجات التحرّر، جسد
سيّد نفسه، يستمتع دونما مخافة أن تطاله لعنة الإنجاب بلا رغبة أو قرار
ذاتيين. وهو ما لم يكن متاحا بالأمس القريب حيث كان الناس تفاديا لإنجاب
غير مرغوب فيه يمارسون الجماع المتقطع أو يحسبون الدورات الشهرية أو
يتعاطون الجنس بدون إيلاج، أو يعملون على إطالة مدّة الرضاعة بالنسبة
للأنثى، إلى غير ذلك من الحلول الترقيعية؛ تفاديا للكارثة الميتافزيقية
بتعبير "أونفراي"،هذا دونما التذكير بِتَوَسُّلِهم سلسلة من تقنيات الشعوذة
كالطلاسم والحُجُب وبول المخصيّ أو براز التمساح أو غلي كِلية البغل،
ناهيك عن عرق الفرس وخِصْيَتَيْ الحصان المُجَفَّفَتين، فضلا عن طقوس
الأدعية والابتهالات …وكلّها مساعي تنطوي على رغبة دفينة تروم الفصل ما بين
الجنس والإنجاب، وهو ما أضحى اليوم بفضل تقنيات الطبّ المعاصر، متاحا.
إلى هنا يتبدّى جلّيا أنّ إشكالية المثليين هي في الوقت ذاته إشكالية
الجسد والمتعة المنفلتة من آليات النظام الاجتماعي، باعتبار الرغبة مسألة
صيرورة لا تقبل الحصر، وككلّ الجنسانيات الهامشية فهي دوما مُهَدِّدة
للممأسسة وكذا التنميط. والحال ألا شيء أكثر وقاحة من النظر إلى اللذّة من
حيث هي ما يستوجب تنظيما اجتماعيا أو مؤسّساتيا أو تعاقدا قانونيا. لا شيء
أكثر وقاحة من اعتبار المتعة واجبا اجتماعيا أو حفلا قُرِّر بموجب مرسوم
إداري. ذلك لأنّ الاجتماعيّ والجماعيّ هما أبدا وحتما في تناقض مع المتعة
مادام أنّ نفرا من الجموع لا يستطيع أن يتغذّى وينتعش ويستمرّ في الوجود
إلا على حساب طاقة الأفراد الذين يتألّف منهم. فإسمنت الجماعة هو دم
الأفراد المؤلفين لها. على هذا النحو لَقِيَ الجسد البغض الذي ما بعده بغض
في كلّ الأديان التوحيدية، وهو، أقصد الجسد، ملعون بكلّ اللغات التيولوجية
التي تتقاطع كلها في كراهية النساء والجنس والرغبات والأهواء والغرائز كما
في الحقد على العقل والفكر الحرّ والتفكير المستقِلّ والحياة الحرّة
و.و.و…بديهيّ إذن أن تكون المثلية الجنسية محرّمة في الإسلام بإجماع كلّ
الفقهاء لورود نصوص في القرآن: في سورة الشعراء :"أتأتون الذكران من
العالمين"(الآية 165) وفي الأعراف :"إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء
بل أنتم قوم مسرفون"(الآية 81) .وبحسب الشافعية فـ"حدّ اللواط هو حدّ
الزنى" بدليل ما رواه البيهقي عن أبي موسى الأشعري أنّ النبي قال:"إذا أتى
الرجل الرجل فهما زانيان" وذهب المالكية والحنابلة إلى وجوب الرجم في
اللواط بينما خالفهم أبو حنيفة وقال إنّ اللوطيّ يُعزَّرُ فقط ولا يحدُّ من
منطلق أنّه ليس زنى كما قد يعتقد لأنه لا اختلاط للأنساب في المثلية، أما
فقهاء المذهب الشيعي فقد اتفقوا على أنّ اللواط من أشنع المعاصي والذنوب بل
أشدّها حرمة وقبحا، وهو من الكبائر التي يهتزّ لها عرش الله ويستحق
مرتكبها فاعلا كان أم مفعولا القتل.
والمعلوم أنّه من بين 80 بلدا حيث المثلية الجنسية تعتبر رسميا جريمة،
34 بلدا هي بلدان إسلامية. وثمة البعض من الدول حيث عقوبة المثلية هي
الإعدام، وهذه الدول كلّها دول إسلامية تطبّق بحسبانها الشريعة. لكن إذا
كان الأمر كذلك بالنسبة للبلدان الإسلامية، فبالنسبة للبلدان الغربية يكاد
الأمر يختلف كليا، سيما إذا عرفنا أنّ المثلية غدت معترفا بها قانونيا في
حوالي 12بلد أوربي: منها بلدان الشمال(الدانمارك وفنلندا وإيسلندا والنرويج
والسويد)، حيث تكاد الحقوق المخولة للمثليين توازي الحقوق المخولة للأزواج
من جنس مختلف؛ وكدا ألمانيا والمملكة المتحدة؛ ناهيك عن فرنسا واللكسمبورغ
حيث يعترف فيهما بحقّ المعاشرة المثلية، وفق نوع من التعاقد يبرم بين
الأزواج الراغبين في ذلك بغضّ النظر عن جنسهم. كذلك الشأن في هولندا
وبلجيكا مع فارق واحد مؤدّاه أنه إلى جانب التعاقد المعمول به في فرنسا ثمة
إمكانية إبرام عقد زواج تماما مثلما هو معمول به في نظام الزواج العادي.
هذا في حين أن إسبانيا خطت خطوات غير مسبوقة بحيث أنها استطاعت أن ترخّص
بشكل مباشر لزاوج المثليين دونما ضرورة اعتماد تعاقد خاصّ.
والظاهر إذن أنّ المثلية من حيث هي جنسانية هامشية بدأت تلقى نوعا من
الاعتراف، بعدما عانت الكثير من الإقصاء، وصارت تجد لها بنودا داخل عقود
التشريع بعد أن كانت إلى وقت قريب تُعَدُّ مسّا بالكرامة الإنسانية ومعاكسة
للإرادة الإلهية. فهل نكون أمام هذا النزوع التحرّري، قد أخرجنا المثلية
من عنق الزجاجة وخلصناها من إرث القمع الطويل الذي كابدته؟ ألا يحقّ لنا أن
نسائل تاريخ المثلية ذاته على نحو ما فعل "فوكو" فنذهب معه إلى القول بأنّ
تاريخ المثلية الجنسية ليس هو تاريخ القمع المتزايد للممارسات الجنسية
المختلفة؟ ذلك لأنّ تاريخ الجنسانية تاريخ إديولوجي ما دام يخدم بالضبط
الصراعات السياسية أكثر ممّا يروم توضيح كيف يصل بنا الأمر حدّ اتهام
ممارسات جنسية بعينها ونعت أصحابها بالمثليين. وتوضيحا لذلك يدعونا صاحب
تاريخ الجنسانية إلى فهم لماذا تشكّلت في مجتمعاتنا بعض السلوكات
والممارسات في صيغة خطابات؟ ولماذا غدت فجأة موضوع اهتمام الأطباء (وأخيرا
سحبت المثلية من قائمة الأمراض العقلية سنة1985ولم تعد تصنف كمرض منذ
مؤتمر1992من لدن كل الدول الموقعة على ميثاق المنظمة العالمية للصحة"OMS "
)والقضاة والفلاسفة والفنانين وعلماء الاجتماع؟ والحقّ أنّ هذه الممارسات
سرعان ما تحوّلت إلى مشكلة لا لشيء إلا لأنها موضوع خطابات؛ فمسألة الكلام
والتحدث عن شيء ما إن كان يدلّ على شيء فإنما يدل أساسا على مدى أهميته
وكذا وجود انشغال بهذا الشيء داخل المجتمع. لكن في حالة الممارسات الجنسية
التي نحن بصددها، ليست المسألة تدعو إلى معرفة لماذا هي هذه الممارسات
موضوع اهتمام (لقد كانت كذلك دوما حتى عند اليونان)، بل المسألة تدعونا إلى
معرفة كيف أصبحت منذ ق.19، بعض الممارسات الجنسية موضوع اهتمام الأطباء
وخاصة منهم أطباء الأمراض العقلية؟ وبتعبير آخر، ما الدواعي الكامنة وراء
هذا الوضع المختلف الذي راحت تأخذه هذه الممارسات بحيث لم تعد موضوع اتهام
أخلاقيّ منذ ق.17 و18 ؟ ولماذا أصبحت لها مكانة أخرى مختلفة في سياق نظام
الخطاب؟ فقضية المثلية الجنسية ليست فحسب قضية جنس بل هي أيضا قضية علاقات
اجتماعية ونظام سياسي. إذ مع التطور الحضاري وقيام السلطة المطلقة جرى
البحث عن نوع من الانسجام الثقافي والمؤسساتي مما نتج عنه تقوية النظام
الكنسيّ والمدني والإداري. فالكنيسة تسعى إلى توحيد قوانينها وحذف كل ما
يفرق من آراء؛ أي تنحية كلّ ما لا ينسجم وقواعدها التيولوجية؛ هكذا حصل
اللاتسامح مع المثليين وتمّ تفخيم الخطاب الجنسيّ حدّ جعله آلية لرقابة
العلاقات إما بتقزيمها وإما بالسماح لها واعتماد الجنس سيما طريقة ممارسته،
معيارا حاسما لتحديد هوية الأشخاص(مغايرين أو مثليين…)وتصنيفهم. وبذلك غدا
الجنس قضية شرطة، لا يستدعي الأمر قمعه بصرامة أكثر مما يستدعي تنظيمه
بواسطة الخطابات الفعالة والمجدية، ابتلاعا للمتع غير المنتجة، المهددة
للصرح الاجتماعي. هذا الصرح الذي كان بحسب فوكو يقوم على علاقات الصداقة ما
بين الرجال، والتي ميّزت المجتمع الأرستقراطي .
لكن هذه العلاقات العاطفية السائدة مابين الرجال، شرعت تتغير منذ ق .17
وبخاصة ق.18. ويعود ذلك إلى قيام بنيات سياسية جديدة حالت دونما استمرار
الصداقة في لعب الأدوار الاجتماعية والسياسية التي كانت تلعبها فيما قبل،
ناهيك عن تطور مؤسسات الحياة السياسية. هكذا دخلت الصداقة في صراع مع
مجموعة من المؤسسات والأجهزة من قبيل البوليس والقضاء والمدرسة …إلخ، فغدت
من ثمة إشكالية problematique .وفي سياق هذا التحول والأَشْكَلَة التي
عرفتها الصداقة، كشكل من أشكال العلاقات الاجتماعية المسموح بها وسط
الرجال، بدأت مساءلة بعض السلوكات الجنسية وتعيين الأشخاص الذين يمارسونها
من حيث هم مثليون. ويرجع هذا التحول في الصداقة إلى سيادة الوجدان العائلي
وانبعاث مسلسل من التخليق المصاحب له بوازع الهمّ التربوي. ويوضّح "فيليب
أرييس "(1973) أنّ انتشار هذا الوجدان العائلي وذيوعه في المجتمع بأسره
خلال ق .17 و18 نتج عنه تَقْوِيَّةُ حَمِيمِيَّة الحياة الخاصة على حساب
كلّ العلاقات الاجتماعية الأخرى كالصداقة؛ فظهرت العائلة كحصن ضد المجتمع،
حفاظا على هوية أفرادها وحميميتهم .
إن نشوء الوجدان العائلي صار يعمل على عزل الأفراد عن المجتمع كما عن كل
أشكال المؤانسة القديمة التي تقع خارج العائلة والبيت: كالتجمع في الكنيسة
والشارع أو مع الجيران…أما الهمّ التربويّ الذي صاحب هذا الوجدان العائلي،
والذي ظل يدعو إليه الإصلاحيون والوعاظ الأخلاقيون، فهو الذي جعل العائلة
تلعب دورا أخلاقيا و تهذيبيا: تهيئة الأطفال للحياة وتأهيلهم لمرحلة الرشد
التي هم مقبلون عليها. وبما أنّ العائلة ملزمة بأن تكوِّن أجساد أبنائها
وأرواحهم وتسهر جاهدة على تربيتهم، فالكبار سرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرين
إلى تسخير المزيد من الوقت لهذا الدور الأخلاقي والروحي الجديد. لكن كيف
تمّ المسّ بالصداقة جرّاء انبثاق الوجدان العائلي والهمّ التربويّ الذي دعا
له الأخلاقيون وأهل الإصلاح؟ لقد تمّ ذلك على نحو مزدوج: حيث أصبح من جهة
أولى، شكلا من أشكال الاجتماع مشكوكا فيه .
وبدأنا نلاحظ ليس فحسب ارتداد الأشخاص والتفافهم حول النواة العائلية،
بل أيضا انشغال الآباء على نحو غير مسبوق بدافع الهم التربوي، بأبنائهم حدّ
أنهم باتوا يقضون معظم وقتهم ويُسَخِّرون كل ما أوتوه من طاقة من أجلهم.
وعلى نحو ما تناقص البعد الاجتماعي على نحو ما غدت العلاقات من قبيل
:الأسياد/الخدم، الأغنياء/الفقراء، الأصدقاء/الزبناء…من الآن فصاعدا، أكثر
مأسسة. فصِيغت بالتالي كل العلاقات التي قد تجمع شخصا بآخر وفق معيارية
السنّ والجنس والوسط الاجتماعي والانتساب العائلي. من ثمة أضحى كلّ فرق
شاسع في السنّ مثلا، ما بين صديقين من الرجال يثير الكثير من الشكوك. وشرع
التخمين في أنّ هذه العلاقة قد تنطوي على شيء آخر غير الصداقة من قبيل تلك
الأنواع من العواطف والروابط الحميمية غير الموكولة إلا لأفراد العائلة،
آباء وأبناء. ومن جهة ثانية يمكننا القول بأن الطابع الحميميّ المميز
للصداقة، عرف في ق .18 اختزالا غير مسبوق. ذلك أن الصداقة التي بلغت قمة
الأمْثَلَة عند الإغريق حدّ اعتبارها فضيلة مصحوبة بشكل من اللامبالاة تجاه
الحبّ القائم مابين المغايرين جنسيا، سرعان ما وجدت نفسها مع حلول عصر
الأنوار في تنافس حادّ مع هذا الصنف من الحبّ حدّ تهديده الكلّي لعلاقات
الصداقة. وعليه صارت المؤانسة لا تُتَعلَّم إلا داخل العائلة كما بدأت
الصداقة لا تُعاش إلا في أحضانها. لقد أصبحت علاقات الصداقة تجري داخل
العائلة وفي فضائها (البيت)،وليس في المجال العمومي الخاص بالمجتمع. بيد أن
كل أنواع العلاقات الاجتماعية التي تُقَام خارج الفضاء العائلي والبيت،
كالصداقات مابين الرجال أو الصحبة وكل تجليات الوجدان في المرفق العمومي
سواء مابين الرجال أو مابين الرجال والغلمان، أو مابين الشيوخ والشباب،
كلها غدت موضع ارتياب وشكوك. وفضلا عن ذلك، فهذا التحول الذي بموجبه تمّت
أَشْكَلَة الصداقة، يعود من ناحية أخرى إلى ظهور ما يدعوه فوكو بـ"السلطة
الحيوية " le bio-pouvoir (1976)أو بما أسماه كذلك بـ"السياسة الحيوية" la
biopolitique (1977)؛ ويعني بذلك مسألة التحوّل الذي طرأ على حياة الناس
إبان ق .19 بحيث غدت الحياة موضوع انشغال سياسي على كل المستويات :الصحة
العمومية والنمو الديمغرافي ونسب الولادات والوفيات والهجرة والحفاظ على
الأعراق وانتقال الأسماء والثروات … إذ بدل الانشغال بأجساد الناس من حيث
هم أفراد أصبح الانشغال بهم من حيث كونهم نوعا .
فالسياسة الحيوية من حيث هي شكل جديد لحكم الناس بممارسة السلطة على
أجسادهم بفضل المؤسسات الطبية، راحت تهتم بالحياة وبكل ما ينتجها أو
يهددها (الصحة، الموت)، كما بكل ما يضمن مراقبتها ويسهل ضبطها، فأدت
بالتالي إلى أشكلة الصداقة وساهمت من ثمة في ظهور المثلية الجنسية
والمثليين على نَحْوَيْن إثنين: أولا بمساءلتها لما يسميه فوكو بالجنسانية
الهامشية، أي تلك السلوكات الجنسية التي لا تحترم القوانين ولا الطرق
المتبعة ولا غايات العلاقة الزوجية القائمة مابين الأشخاص من جنس مختلف.
هكذا عملت المعرفة الطبية على تِعْدَاد وإحصاء الممارسات الجنسية(جنسانية
الأطفال، الاستمناء، الحبّ القائم مابين أناس من نفس الجنس …)، وتسميتها
وتحديد ما إذا كانت ذات أثر مرضيّ سواء على أصحابها أو على محيطهم. وفي ذات
السياق انطرح السؤال عما تكونه العلاقات التي يقيمها الرجال فيما بينهم؟
وماالذي يحدث في إطارها؟ وتزايد هذا الانشغال الجديد بحياة الناس مما نتج
عنه حدوث نوع من التغَيُّر في شكل الصداقة، لكن دونما اختفاؤها من حيث هي
ضرب من ضروب العلاقات الاجتماعية. ومن ناحية ثانية يلاحظ أن هذه المعرفة
الخاصة بالحياة والتي تعنى في حالتنا هاته بالجنس هي ما سيمنح امتيازا ما
لسلطة التدخل والمراقبة. فالمعرفة الطبية حتى لا نتوقف عند هذا المثال
لوحده(لأن الخطاب القضائي يساهم بدوره في هذا النوع من السلطة)، لا تنتج
المعرفة فحسب بل تحدد وتؤسس للمعيار: معيار الجنس العادي وغير العادي. إنه
معيار يُعَيِّنُ بالموازاة للممارسات الجنسية المقبولة، عالما بأكمله من
الانحرافات هو ما يبرّر ويشرعن مسبقا لتدخل السلطة الطبية بدعوى لزوم
معالجة هؤلاء الأشخاص المرضى؛ من هنا نستوعب لماذا لا يقبل فوكو بتلك
التفسيرات التي تقول بأن منهج القمع هو مابه يتم التحكم في الجنسانية
الهامشية. فالأمر لا يستدعي تجريم هذه السلوكات ولو كانت دوما موضع تجريم
أكثر مما يستدعي مساءلتها وفهم آليات اشتغالها الخفية مع ربطها بحياة
الأشخاص.
وفي سياق هذه المعرفة التي تشكّلت بخصوص الجنس والجنسانية، فَقَدَت
الصداقة كعلاقة اجتماعية وضعها المعقول، فلم يعد بإمكانها أن تتجلّى على
نحو ما كانت عليه قديما (أي قبل ق.17)جراء هذا التدخل البحثي للمعرفة
وتفتيشها لأشكال وأنماط تجلّي الجنسانية والوجدان كما جراء الخاصية والسمة
المجهولة التي قد يتخذها هذا الشكل من العلاقات الاجتماعية الفريدة. إن
المعرفة المعيارية أسست لتكنولوجيا سلطة أكثر ميكروفزيائية، تشتغل على نحو
شبكاتي مستولية كليا على الجسد الاجتماعي باسم المعيار: مما نتج عنه قيام
مجتمع معياري تمكنت السلطة فيه من تغطية كل الفضاء الاجتماعي الممتد من
العضوي حتى البيولوجي، كما من الجسد إلى السكان، وذلك بفضل التقنيات الأكثر
تطوّرا سواء منها الانضباطية أو التنظيمية. ضد هذا الاختراق الجهنمي
للسلطة إذن يدعونا فوكو إلى نزع الطابع الجنسي عن المتعة أي الكفّ عن وصل
كلّ متعة جسدية بالمتعة الجنسية. فمن الخطأ اعتبار أنّ المتعة الجنسية هي
أساس كلّ ملذاتنا الممكنة، إذ توضح الممارسات السادومازوخية مثلا أنه
بوسعنا أن ننتج المتعة بواسطة أشياء أخرى غريبة وبفضل أطراف من جسدنا
عجيبة، وفي وضعيات مختلفة. إن المثليّ جنسيا يستطيع، باتخاذه جنسانيته
كمسكن وجوده، أن يخلق ويضاعف أشكالا جديدة، من العلاقات الاجتماعية والحب
والوجدان. ولئن غدت المثلية الجنسية مُمَشْكَلَة problématisée فليس لأن
العلاقات الجديدة سواء منها علاقات الحبّ أو الوجدان، تنتج وتفرز الحد
الفاصل مابين المثلية الجنسية والغيرية الجنسية التي هي عماد جزء من
علاقاتنا الاجتماعية بل بالأحرى، لأنها تفسح المجال رحبا أمام إمكانية
انبثاق علاقات أخرى .
إن المثلية الجنسية من حيث هي اختيار حرّ للمرء لتدبير جنسانيته، يمكن
أن تعتبر كما يقترح فوكو، شكلا من الأشكال التي تتيح إمكانات لابتكار
علاقات اجتماعية جديدة. لذلك فالمثليّ جنسيا يمثّل مشكلة قائمة الذات في
مجتمعاتنا. فهو من يساهم في قيام ونشوء ثقافة مغايرة مادام لا يكف يؤسس
لعلاقات اجتماعية جديدة كما لأشكال من الصداقة أجدّ. وعليه ينبغي النظر
للمثلية باعتبارها أسلوبا للحياة un style de vie لا يمكن اختزاله في سلوك
جنسي مختلف. إنها نوع من العلاقات الاجتماعية المركبة حيث تلعب الجنسانية
دورا هاما مُضْطَلَع به على نحو واع. فالمثليّ جنسيا هو من يعي مدى الدور
الذي تلعبه جنسانيته في حياته، ويسعى جاهدا إلى أن يكون لها تأثير كبير في
حياته بأكملها، لا لشيء إلا لأن الجنسانية جزء من سلوكنا وطرف هام من
حريتنا. من ثمة، يُمَيز فوكو مابين التحرر libération وممارسة الحرية
pratique de liberté .ومن الضرورة بمكان استيعاب هذا التمييز لفهم كيف يطرح
مشكلة المثلية الجنسية سياسيا. ذلك أنّ التحرر إن كان يحيل إلى الأطروحة
المعروفة للطبيعة الإنسانية المقموعة التي ينبغي تحريرها، فممارسة الحرية
أساسا يتوقف على كل ما نقوم به واقعيا وننجزه بحريتنا. وبمعنى آخر، لا
يستدعي الأمر أن نخوض الصراع والعراك من أجل تخليص الفرد مما يطاله من قمع،
بل أن نجعل من بعض الحريات من قبيل حريتنا الجنسية، إمكانا إيتيقيا
condition de l’ethique أي فرصة للاشتغال على الذات التي تقتضي من المرء أن
يضفي على وجوده أسلوبا خاصا. والحقّ أنّ فوكو يدعو إلى خلق وابتكار أسلوب
في الحياة من خلال طريقة عيش المثليّ. فالجنسانية قد تصلح مادة لبناء الذات
ونحثها وابتكار أنماط في العيش جديدة خلقا لثقافة الفرح بتعبير صاحب"
الإنهمام بالذات" الذي عاش المثلية الجنسية كما اختبرها هو نفسه، كقوة
إبداعية وأسلوب آخر لمقاومة كل الآلات القطيعية التي مافتئت تمارس الحصر
الأنطولوجي للرغبة حتى لا يكون الاختيار الجنسي أداة لأَسْلَبة حياتنا.