ومضات من التاريخليس من السهل الكتابة برصانة في موضوع كالمثليّة الجنسيّة، لم يتم
التعامل معه عبر الكتابات العربيّة، قديمها وحديثها، إلا من منظور الإدانة
أو التفكّه. إن شعباً يشكو من القحط المعرفي، كالعرب، يتعامل بنوع من
الخرافيّة المعادية للعقل والإنسان مع الجنسانيّة sexuality الأنثويّة التي
تعتبر طبيعيّة، لا يمكن أن نتوقع منه أن يتعامل بحياديّة موضوعيّة مع
جنسانيّة تصنّف حتى في بعض الدوائر ضمن الدول المتقدّمة بأنها غير طبيعيّة
أو " شاذّة "، كالمثليّة الجنسيّة. من هنا، فإن مقاربة هذه الظاهرة التي
استفحلت للغاية في الدول الناطقة بالعربيّة بجديّة بحثيّة بعيداً عن
الاستعراض الذي اعتمدته بعض المحطات التلفزيونيّة أو الصحف في مناقشة
الموضوع، يمكن أن يساهم ليس في حل هذه المشكلة، لأنها ببساطة ليست مشكلة،
بل في تقديم المثليّة الجنسيّة دون تزويق مبالغ به أو إدانة متطرّفة
لمجتمعات تعاني من رهاب الجنس. بالمقابل، قد يساعد هذا الملف في مصالحة
المثلي مع ذاته الجنسيّة؛ في تقبله لأناه، عوض رفضها عبر ممارسات ارتكاسيّة
لا تبعد كثيراً عما يمكن وصفه، بكل أسف، "العهر الذكوري".
في حلقات ملفنا الثلاث هذه سنتناول دون تفصيل ممل مسألة المثليّة
الجنسيّة: الحلقة الأولى تحكي عن المثليّة الجنسيّة تاريخيّاً، إن في
اليهوديّة – أول من أدان المثليّة الجنسيّة من الأديان – أو في الإسلام؛ مع
توقف سريع عند كتاب هام، اخترناه من مجموعة أعمال تراثيّة ليست كثيرة،
تناولت ضمن أمور أخرى المثليّة الجنسيّة في التراث العربي: نزهة الألباب
فيما لا يوجد في كتاب؛ الحلقة الثانية تتناول الحياة السريّة للمثليين
الجنسيين في دمشق كما عرفناها، مع تركيز على بعض مواقع الشبكة العنكبوتيّة
التابعة للمثليين الجنسيين ودورها في تسهيل التعارف المثل- جنسي؛ وأخيراً
نتناول بنوع من التبسيط مقاربة المثليّة الجنسيّة من منظور التحليل النفسي
وعلم الجينات.
الإعاقة المركّبةضمن عملنا التطبيقي على ملف المثليّة الجنسيّة الذي استغرق نحوا من عام
ونصف، كان السؤال الدائم الذي طرحناه على المثليين الجنسيين الذين عرفناهم
أو صادقناهم: " لو كان الخيار بيدك، هل كنت تفضّل أن تكون مثليّاً جنسيّاً
أو مغايراً جنسيّاً؟ ". كان الجواب الدائم، أنه لا أحد يفضّل أن يكون
مثليّاً جنسيّاً على الإطلاق؛ بل أقول بثقة بابوية، إن بعضهم بدا أقرب إلى
البكاء وهو يحكي عن معاناته من جنسانيته. من هنا، كان عنوان الملف: الإعاقة
المركّبة.
مما لا شكّ فيه أن المجتمعات كلها في السنوات الأخيرة صارت تبدي نوعاً من
التعاطف مع المعاقين، إن جسديّاً أو عقليّاً، لا يمكن إلا أن يلفت الأنظار.
بل إنها صارت ترفض التعبير "معاقين"، حفاظاً على مشاعر هؤلاء، ودخل
التداول العالمي مصطلح "ذوي الاحتياجات الخاصّة". والحقيقة التي لا غبار
عليها أن معظم الإعاقات أسهل تحمّلاً على صاحبها من المثليّة الجنسيّة. إن
أهم عنصرين في الحياة البشرية هما الاستمرارية والاستقرار. المثلي الجنسي،
عموماً، يفتقد هذين العنصرين. فهو غير قادر على الاستمرارية عبر التناسل
الطبيعي لأنه يميل فطريّاً إلى أبناء جنسه، الأمر الذي يحول بينه وبين
التواصل البشري من خلال الإنجاب، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، سوف نشرح
في الملف الثالث الأسباب التي تحول بين المثل-جنسي والاستقرار بكافة أشكاله
عموماً، وهو ما يبدو أقرب إلى المألوف في حياة المغاير جنسيّاً. إذن، إن
معظم المعاقين جسديّاً يتمتعون بوجودهم البشري أكثر بكثير من المثليين
الجنسيين، الذين يعيشون إعاقة مركّبة: معاقون عن الحياة الإنسانيّة
العاديّة، ومعاقون برفض المجتمع لإعاقتهم، عوض التعاطف معهم، ومساعدتهم.
ترجع مسألة المثليّة الجنسيّة في اليهوديّة إلى سفر اللاويين، الذي يصف
المضاجعة الجنسيّة بين الذكور بأنها "قبيحة"، يمكن أن يستحقّ فاعلوه عقاباً
كبيراً؛ مع أنّ المحاكم الهالاخيّة غير مؤهلة لتطبيق هذا النوع من العقاب
في غياب الهيكل في القدس. يقول سفر اللاويين، 22:18، " וְאֶת זָכָר לֹא
תִשְׁכַּב מִשְׁכְּבֵי אִשָּׁה תּוֹעֵבָה הִוא " : " والذكر لا تضاجعه
مضاجعة النساء، إنّها قبيحة ". ثمّ يقول السفر ذاته، 13:20، " וְאִישׁ
אֲשֶׁר יִשְׁכַּב אֶת זָכָר מִשְׁכְּבֵי אִשָּׁה תּוֹעֵבָה עָשׂוּ
שְׁנֵיהֶם מוֹת יוּמָתוּ דְּמֵיהֶם בָּם ": " وأيّ رجل ضاجع ذكراً مضاجعة
النساء، فقد صنع كلاهما قبيحة، فليقتلا: دمهما عليهما". إن تعبير"توئيفا"
المترجم عادة بلفظ "قبيحة"مستخدم في التوراة للإشارة إلى جملة من الممارسات
المحظورة. في التلمود، كعادة العبرانيين، نجد أن توئيفا اختزال لجملة
توئيه أتا فاه (أنت مضلل بها ).
لوط:أوّل إشارة في الأدب الدينيّ إلى المثليّة الجنسيّة في ما يسمّى
بالأديان السماويّة، هي حديث الإصحاحات 11-14، 19، من سفر التكوين، عن لوط
לוֹט، ابن أخ إبراهيم، الذي يقال إنّه غادر مدينتي سدوم وعمورة بسبب الآثام
التي كان يرتكبها سكانّهما، أي المثليّة الجنسيّة. فبعد أن ذهب لوط
وعائلته مع إبراهيم وعائلته من أور الكلدانيين إلى مصر، اصطحب إبراهيم
لوطاً معه بعد أن أمره الله بأن يذهب إلى أرض كنعان. لكنّ قطعان الماشية
عند كلا الطرفين والشّجار بين الرعاة جعل استمرار لوط وإبراهيم معاً أمراً
صعباً. فارتحل لوط نحو الجنوب الشرقي إلى السهوب المجاورة لمدينتي سدوم
وعمورة.
في الإصحاح 19 من سفر التكوين تصل الأسطورة التوراتيّة إلى إحدى قممها
الهامّة. فحين يقرّر الله تدمير مدن السهل الخمس وقلب عاليها واطيها، يرسل
ملائكة إلى مدينة سدوم حيث يلتقون لوطاً عند بوابات المدينة. يبدو قلق لوط
كبيراً في أنّه على الملائكة أن يمضوا الليل في منزله في حين يصرّ الملائكة
على البقاء في الشارع. لكنّ لوطاً يضغط عليهم بشدة ليقنعهم أخيراً في
البقاء عنده. مع ذلك يحاصر أهل المدينة بيت لوط وفي نيتهم "معرفة" الملائكة
(معرفة تعني تقليدياً المضاجعة الجنسيّة). يقدّم لهم لوط ابنتيه العذراوين
عوض الملائكة، لكن الأمر لم يكن يعنيهم. تقرّر الملائكة تحذير لوط من
الكارثة المريعة التي كانت على وشك الحدوث. ويطلب من لوط وزوجته وبناته
وأصهاره أن يغادروا. لم يأخذ أصهاره تحذير الملائكة على محمل الجدّ.
ويتريّث لوط. تأخذ الملائكة لوطاً وبناته وزوجته من أيديهم وتجبرهم بالقوّة
على مغادرة البيت، قائلين لهم: "انج بنفسك. لا تلتفت إلى ورائك ولا تقف في
السهل كلّه، وانج إلى الجبل لئلا تهلك". يستعطف لوط الملائكة، الذين
يوافقون على إمكانية لجوئه إلى صوعر، إحدى المدن الخمس المهددة بالدمار.
أمّا زوجته، التي تنظر إلى سدوم، فتتحوّل إلى عمود ملح. الأغرب في هذه
الأسطورة التوراتيّة أنه بعد أن يغادر لوط صوعر، يلجأ مع ابنتيه إلى كهف في
جبل مجاور. تعتقد الابنتان أنّهما وحدهما من بقي على قيد الحياة بعد
الكارثة [نلاحظ هنا غياب إبراهيم وعائلته بالكامل ]. وتعتقدان بالتالي أنّ
مسئوليتهما تكمن في أن تحملا من أجل استمرار الجنس البشري. وفي إحدى
الليالي، وفق خطّة أعدتها البنت الكبرى، تسكر الابنتان أبيهما، وتضاجعانه.
تحمل ابنتا لوط من والدهما. ووفق الأسطورة ذاتها، تنجب إحدى الابنتين ولداً
تسمّيه موآب (أب المؤابيين) [اسمه بالعبرية م-آب: أو من الأب، أي ولد من
والد الابنة] والثاني عمون أو بن-عامي [ بالعبريّة، ابن الشعب ]، الذي هو
أب العمونيين. فإذا افترضنا أنّ المثليّة الجنسيّة "قبيحة" يهرب منها لوط،
كيف يمكن أن نفسّر مضاجعته لابنتيه في فعل يبدو أكثر رفضية من المثليّة
الجنسيّة بكثير؟
داوود ويوناتان:
شخصيتان بطوليتان في تاريخ مملكة إسرائيل، دونت علاقتهما الحميمة للغاية في
سفري صموئيل من العهد القديم. يغطّي سفر صموئيل الأوّل معظم قصة الرجلين،
مع أنه يمكن أن نصادف عناصر من تلك القصة في سفر صموئيل الثاني. الروايات
تتناول قصّة صعود داوود إلى مركز القرار، التي تعتبر عموماً أحد مراجع
التاريخ التثنوي [ من سفر التثنية ] وإضافاته اللاحقة.
ما يهمّنا هنا هو قصة حياة داوود، من يوم قُدّم لشاؤول، إلى يوم توّج
ملكاً على إسرائيل، في الوحدة الإجماليّة المعقدة التي يسمّونها، "قصة
ارتقاء داوود العرش"، والتي تقع بين 1 صم 16 و2 صم 5. وقعت خصومة مميتة بين
داوود وشاؤول. فاضطر الأول للهرب والتخفّي. ورغم تدخّل يوناتان، ابن
شاؤول، لصالح حبيبه، إلا أن داوود أجبر على المغادرة. ورغم وضوح التعابير
العاطفيّة في السفرين، فالتفسير الديني أو التقليدي ينظر إلى هذه العلاقة
على أنها حبّ أفلاطوني ومثال على المثليّة- الاجتماعيّة homosociality [
تعبير يصف علاقات بين أشخاص من الجنس ذاته، لا تتضمن بالضرورة ممارسات
جنسيّة، لكن لا تنفيها]. في القرون الوسطى نجد في بعض أدب عصر النهضة
إشارات إلى قصة داوود ويوناتان باعتبارها أمثولة لعلاقات شخصيّة قويّة بين
ذكرين، لا تخلو من حبّ رومانطيقي. في العصر الحديث، أكّد بعض الباحثين، بمن
فيهم إسرائيليون، على ما فسّروه بأنّه عناصر مثليّة- إيروتيكيّة [ تعبير
يشير إلى نوع من الحبّ والرغبات بين أطراف من الجنس ذاته، كما ترد في
الفنون البصريّة أو الأدب المكتوب]. لنقرأ الآن ما يقوله 1 صم عن هذه
العلاقة: " ولما انتهى داوود من كلامه مع شاؤول، تعلقت نفس يوناتان بنفس
داوود، وأحبّه يوناتان حبّه لنفسه… وقطع يوناتان مع داوود عهدا، لأنه أحبّه
حبّه لنفسه. وخلع يوناتان الرداء الذي عليه ووهبه لداوود مع سائر ثيابه،
حتى سيفه وقوسه وحمالته " ( 18: 1-4). " وكلّم شاؤول يوناتان ابنه وكلّ
حاشيته بقتل داوود، وكان يوناتان بن شاؤول يحبّ داوود حباً شديداً " ( 19:
1-2 ). " عاد داوود وحلف فقال: إنّ أباك [ شاؤول ] قد علم أنّي قد نلت حظوة
في عينيك؛ فقال في نفسه: لا يعلم يوناتان بهذا لئلا يحزن" ( 3:20 ). "
فغضب شاؤول غضباً شديداً على يوناتان [ ابنه ] وقال له: يا ابن الفاسدة
المتمرّدة! ألم أعلم أنك قد تحزّبت لابن يسّى [ داوود ] لخزيك وخزي عورة
أمك؟ " ( 30:20 ). " فقام داوود من عند الأكمة وارتمى على وجهه إلى الأرض …
وقبّل كلّ منهما صاحبه، وبكى كلّ منهما إلى صاحبه، وكان بكاء داوود أشدّ" (
41:20 ). وبعد موت يوناتان،رثاه داوود؛ فقال: " كان حبّك عندي أعجب من حبّ
النساء " ( 2 صم 26:1 ).
وهكذا، ننهي مقاربتنا إلى المثليّة في الكتاب المقدّس العبراني برأي
مفاده أنّ علاقات داوود ويوناتان كانت أكثر من مثليّة- اجتماعيّة: هذا ما
أورده كلّ من الباحثة الكتابيّة سوزان أكرمان والمستشرق جان-فابريس
نارديللي. يرى الباحثان أنّ رواة سفري صموئيل قاموا بنوع من التشفير
للتلميحات المثليّة بحيث يدخلون في الذهن أنّ البطلين كانا محبيّن. وتفسّر
أكرمان هذا الوضع على أنه حالة مثليّة- جنسيّة ذات علاقة بعتبة الشعور،
استخدمها محرّرو السفر كوسيلة نصيّة لتأكيد حقوق داوود على يوناتان: الأخير
يتخلّى طوعياً عن مكانته الأميريّة عبر الانحناء، وهنا نتحدّث جنسيّاً،
إلى الأوّل. يخالف نارديللي أكرمان الرأي ويقول إنّ العهود التي أدخل فيها
يوناتان داوود بوصفه الشريك الأعلى رفعت تدريجياً من مكانة داوود ويمكن
النظر إليها على أنها أشبه ما تكون بالزواج.
نلاحظ هنا أنه رغم كون داوود متزوجاً، فهو يميّز بين علاقته بيوناتان
والرباطات التي تجمعه بالنساء. لقد تزوج داوود بنساء عديدات، كانت إحداهن
زوجة يوناتان المسماة ميخال، لكنّ الكتاب المقدّس لا يذكر أن داوود أحبّ
ميخال( مع أنه يقال إن ميخال أحبّت داوود ).
أخيراً، لا بدّ أن نذكر أنّ المدراش، هو واحد من نصوص قديمة قليلة جداً
تشير إلى زواج مثليّ. والتعاليم التالية ترد مرّتين في المدراش: " قال
حاخام حونا باسم حاخام يوسف: لم يمح جيل الطوفان حتى كتبوا وثائق زواج
لوحدة رجل مع ذكر أو حيوان".