بحكم اللامساواة أمام المرض:
الرأسمالية هي أيضا
الأمراض والأوبئة
24 فيفري 2009
إذا كانت الرأسمالية، كما أكد ماركس منذ
قرن ونصف، هي المجاعة. فإن وجها آخر من وجوه الرأسمالية، وتحديدا في عصرها
الإمبريالي، هو وجه الأوبئة والأمراض والموت والدمار مفند كذبة "الرفاه
والرخاء والحياة". ولعلّ "السيدا" في هذا الإطار هي إحدى مميزات عصرنا. ذلك
أن عصرنا، وخاصة في عقوده الثلاثة الأخيرة، ليس هو فقط عصر الثورة التقنية
والتكنولوجية، عصر اللاسلكي والأنترنيت والفضاء والتقدم العلمي وخاصة
الطبي والتكنولوجي، بل هو أيضا تفتق أكثر الأوبئة تخلّفا وبدائية، ممّا
يجعلنا ننتبه إلى وجه آخر من وجوه الإمبريالية وهو كون العلم والتقنية إنما
هما في خدمة أثرياء العالم والمتنفذين فيه، وليس في خدمة شعوبه وفقرائه.
يعود اكتشاف مرض السيدا إلى سنة 1981
بالولايات المتحدة الأمريكية التي أقرّ علمائها وأطبائها على تسمية الفيروس
بـ"الإيدز"، وهو فيروس تتعدد أسباب اكتسابه (الدم، الجنس، من الأم للجنين)
لكنّ صيرورته واحدة وهي أن يصاب جهاز المناعة في الجسد بالإنخرام ثمّ
بالتلف ويكون الموت هو نهاية حتمية إذ لم يهتد العلماء إلى حدّ الآن إلى
عقار أو علاج حاسم بل كل ما وجد (حتى الآن) مسكنات ومؤجّلات للموت. والسؤال
المطروح هنا هو: من يطال هذا المرض الفتاك؟ من هم أغلبية ضحاياه؟ لننظر في
خريطة هذا الوباء.
في سنة 2007 وصل عدد حاملي الفيروس إلى
33،2 مليون بشر منهم 2،5 مليون لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة. في السنة نفسها
توفي 2،1 مليون منهم 1،7 مليون كهل و380 ألف طفل (دون 15 سنة) علما وأن عدد
الوفيات الآن هو في حدود 5700 يوميا، ويعلن يوميا عن 6800 حالة جديدة. منذ
اكتشاف الفيروس هلك 30 مليون بشر، وهو يحرم كل 15 ثانية طفلا من أحد أبويه
مخلفا 15 مليون يتيم.
هذه الأرقام المفزعة هي أرقام عامة
ومجرّدة. لنمرّ الآن إلى عمقها الطبقي والاجتماعي، فالمرض أيضا يتحدّد
طبقيا، ولا يختلف إثنان في كون الفقر والجوع والأمية هي قاعدة موضوعية
لاستشراء المرض، فالمقدرة الشرائية للفرد محددة في كيفية تعامله مع كل ما
يعترضه في حياته لذلك فالأغنياء أقدر من غيرهم على التصدي للمرض بحكم
القضاء على قاعدته المادية، وقد أكدت عديد الدراسات الاجتماعية أن الشباب
العاطل والمشرّد هو الضحية الأولى لمثل هذه الأمراض وغيرها، وبما أن
إمكانيات هؤلاء في التمتع بالخدمات الصحية الباهظة خاصة لمرض السيدا، فإن
سيطرة الوباء عليهم وعلى محيطهم الأسري والاجتماعي أكبر وأوسع، وعلى
المستوى العالمي تعدّ البلدان الفقيرة والمتخلفة "فضاء" واسعا وشاسعا لهذا
المرض وغيره من الأمراض والأوبئة البدائية، إذ لا زالت شعوب بكاملها ضحية
للملاريا والجدري وسوء التغذية... ولعلّ القارة الإفريقية تمثل نموذجا لما
نقول وهو ما تؤكده الأرقام. فمن جملة 33،2 حامل للفيروس نجد 22 مليون، أي
الثلثين، هم من إفريقيا جنوب الصحراء. ويشكل مرض هذه الربوع 68 بالمائة من
نسبة الكهول و90 بالمائة من نسبة الأطفال المرضى في العالم. وفيما يتعلق
بالوفيات فإن ثلاثة أرباع المتوفين هم من المنطقة المذكورة، وتعتبر السيدا
أوّل سبب للمرض في إفريقيا جنوب الصحراء. كما أن ثلث من عمرهم دون 15 سنة
يموتون بسبب هذا الفيروس. وللتدليل على اتساع رقعة هذا الوباء في قارتنا
يعدّ كهل من أربعة في المدن وكهل من سبعة حاملون للفيروس في زمبيا، وفي
جنوب إفريقيا التي تعدّ أكبر بلد في العالم فيه حاملين للفيروس (4،2 مليون
مريض) هناك إمرأة شابة من أربعة موبوءة (المرحلة العمرية 20ـ29). وفي
بوتسوانا هبط معدّل الأمل في الحياة عند الولادة من 69 سنة إلى 44 سنة عام
2007. وهبط في زيمبابوي من 65 إلى 43 سنة. فهل بعد هذه الأرقام.
إن القارة الإفريقية التي تعدّ الأغنى في
العالم من جهة الثروات والمعادن التي يحويها باطنها، هي في نفس الوقت
الأفقر والأتعس لمن يعيش فوق أرضها، ولا نخال ذلك قضاء وقدرا أو سوء طالع
وحظ، بل هو التقسيم العالمي للثروة الذي كرّسه الاستعمار وثبته اقتسام
العالم بين كبار الاحتكاريين دولا ومؤسسات ممّا جعل من إفريقيا تعيش هذه
المفارقة. وقد ساهمت الأنظمة التابعة والفاشية المتربعة على العروش
الإفريقية في تأبيد هذا الوضع البائس لفقراء إفريقيا الذي فتكت بهم مختلف
الأوبئة التي يتبجح "العالم الحر" بأنه تجاوزها إلى الأبد، كما تساهم
الصراعات المسلحة والتهجير الجماعي وحروب الإبادة التي تصنعها الاحتكارات
وتغذيها في اتساع رقعة الأوبئة وعلى رأسها السيدا فضلا عن المجاعات والأمية
والتخلف.
في تونس "اكتشف" المرض مبكرا، سنة 1985،
ويبلغ عدد المرضى المعلنين حاليا قرابة الألف توفي منهم حتى الآن 500 كما
يعلن سنويا عن 70 حالة جديدة، ويعاني المرضى من غياب الإحاطة وغلاء العلاج
فضلا عن المعاملة السيئة والتمييزية من المجتمع وحتى من الإطار الطبي وشبه
الطبي، كما يعانون خاصة من حرمانهم من بعث أطر وجمعيات تدافع عنهم وتبلغ
صوتهم مثلهم مثل باقي فعاليات المجتمع.