أصبحت كلمة الأزمة كلمة مجترّة اليوم لكثرة استعمالها في كلّ الوضعيات
والحالات: أزمة اقتصاديّة، أزمة قيم، أزمة مؤسّسات، أزمة عقيدة، أزمة
هويّة، أزمة اجتماعيّة، الخ. صرنا نأسف لأفول زمن كان فيه الثبات قاعدة،
والأزمة استثناء. واللافت أنّنا نشعر أنّ العالم يمرّ اليوم بحالة أزمة
حادّة غير مسبوقة، تجعلنا نعيش وضعا دراميا خطيرا لا يجوز اعتباره عرضيّا
أو ظرفيّا، يمكن للمعتني بالشأن الإعلاميّ التعالي عليه والتقليل من
أهمّيته. فالأزمة التي يشهدها العالم ويعيش على إيقاع كوارثها المتراكمة لا
تغيّر واقع العلاقات الدوليّة فحسب، بل تعصف بكلّ الثوابت الثقافيّة
والروحيّة بما غيّرته من ثوابت معرفيّة ووسائل اتصاليّة ومعايير تمييزيّة.
إنّها قبل كلّ شيء، أزمة اقتصاديّة عامة تؤدّي بكلّ متتبّع لاستتباعاتها
إلى التساؤل عن مدى نجاعة بعض الاختيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الهادفة
إلى الإنتاج والإنتاجيّة، بعيدا عن التطوّر البشريّ الذي يمثل في الحقيقة،
الهدف الأسمى لكلّ المخططات والمشاريع.
والمتثبّت في طابع هذه الأزمة الاقتصاديّة، يدرك أنّ من طبيعة النظام
الرأسماليّ استبطان الأزمة التي لا يعيش إلا بها، لينبعث من موته ويتجدّد
بهلاكه. فهو يقتات من الأوجاع والحروب والآفات، على الأقلّ بحسب وجهة نظر
كاينز Keynes، لكي يتجدّد ويبعث من جديد. والظاهر للعيان اليوم، أنّ الأزمة
الاقتصاديّة التي نعيشها حاليا قد جعلت مداخيل الطبقة الوسطى والفقيرة
تتقهقر شيئا فشيئا، ومداخيل أصحاب رأس المال تتنامى شيئا فشيئا. علاوة على
ذلك، يزداد من سنة إلى أخرى البون الذي يفصل بين الدول الغنيّة والدول
الفقيرة اتساعا، فتزداد البلدان الغنيّة ثراء وتزداد البلدان الفقيرة فقرا.
يؤدي هذا التباين بين الطبقات الاجتماعيّة والشعوب إلى أن تشعر بلدان
نامية مثلنا، أن هذه الأزمة الاقتصاديّة إن هي إلا طوفان نراه قادما،
يجرفنا جرفا فلا نقدر على صدّه، لنكون بذلك من أوّل الخاسرين.
لكن، ألا تخفي هذه الأزمة الاقتصاديّة أزمة أخرى بل أزمات أخرى، أشدّ بأسا
وأكثر خطورة، وهي أزمة القِيَم والمعارف والتواصل؟ فانهيار اقتصاد رأس
المال يكشف يوما بعد يوم عن مدى عدم اكتراث المضاربين والسماسرة والوسطاء
بأبسط القواعد الأخلاقيّة، وتفكيرهم المستمر في مصالحهم الضيّقة على حساب
المصلحة العامة. تظهر أزمة القيم من اختلاط معايير التمييز بين الحقّ
والباطل، والجميل والقبيح، والعدل والظلم ممّا يعني أن الأزمة الاقتصاديّة
إنّما هي أزمة خلقيّة وفلسفيّة بأتمّ معنى الكلمة. ومن جهة أخرى، ألا يؤدي
التطوّر العلميّ إلى تغيّير نماذج الفهم والتواصل بحيث يصبح من العسير على
من أراد إدراك واقع هذه الأزمة الحديثة العارمة أن يفهم أيّ شيء، ما لم
يتمكن من الوعي بحقيقة طبيعة التغيّرات المعرفيّة والحضاريّة التي كوّنت
ثقافة الحداثة وولّدت ما يدعى اليوم مجتمع المعرفة ومجتمع المعلومات؟ فهل
للحداثة علاقة بالأزمة؟ ألا تكون الثورة الصناعيّة الثالثة التي بدأت مع
ظهور الأنترنات وتقنيات الحواسيب والهواتف المحمولة والإيفون هي ثورة
الاتصال بحيث يضطر الإعلامي إلى تغيير نموذج تعامله مع المعلومة ومع
الواقع؟ هل يمكن للإعلاميّ اليوم أن يتغافل عمّا أنتجه الثورة المعلوماتيّة
من تحويل رأس مال الأمم من رأس مال مادّي إلى رأس مال معنويّ إنساني
بالأساس؟ ألا يمثل ظهور "الناتمواطن" (المواطن على النات Netoyen) الفاعل
إيجابيا وسلبيّا على مستوى الشبكة العنكبوتيّة أزمة إعلام لا بدّ من التوقف
عندها لفهم رهانات الإعلام المقبلة؟ أليست معرفة واقع هذه التغيرات
المعرفيّة والتكنولوجيّة والمعلوماتيّة هو الشرط الأساسي لقيام الإعلام
بدوره التربوي؟ أليس إدراك زمنيّة الحداثة باعتبارها زمنيّة الأزمة
المستمرة هو "الثقافة" المطلوبة لكي يكون تعامل الإعلامي مع الأزمة تعاملا
موضوعيا يخدم التطور البشري؟
الحقيقة أننا نعيش اليوم على إيقاع الاقتصاد الليبرالي الذي كثيرا ما كان
الحصن العتيد المدافع عن الحريّة الفرديّة. غير أننا كثيرا ما ننسى أو
نتناسى أن شعار الدفاع عن الحريّة الفرديّة، إنما هو حصيلة تراكمات قِيميّة
عملت الفلسفة والسياسة على ترسيخها، وهي مرتبطة بتراكمات فكريّة وتطوّرات
علميّة لم تظهر إلا نتيجة اهتزازات وأزمات غيّرت مجرى تاريخ المجتمعات،
فحوّلتها من مجتمعات تقليديّة منغلقة على نفسها، لا تعرف التطوّر لفرط
انشدادها بالماضي، وتقديسها لثوابته، إلى مجتمعات حديثة تنظر إلى المستقبل
لتعيد قراءة الماضي مطوّرة قِيم الحداثة التي تقول بالانفتاح والنقد
والمراجعة ، وهي وسائل عمل تستند إليها المعرفة العلميّة ويتميّز بها
التفكير الفلسفي، لكن النقد والمراجعة طريقتا عمل تتجاوزان حدود معرفة
بعينها لتميّزا كلّ نشاط إنسانيّ مبدع. فالمجتمعات الحديثة تكون كذلك
بتبنيها وإنتاجها لقيم حديثة نعيش على إيقاعها اليوم مثل العقلانيّة
والفرديّة والحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وهي قيم ارتبط ظهورها
بتغيّرات جغرافيّة وثورات علميّة وطفرات فكريّة وتقنيّة عاشتها أوروبا منذ
القرن السادس عشر وأسست لما نسميه اليوم العصر الحديث Les Temps Modernes .
يتفق المؤرخون على اعتبار أن العصر الحديث قد بدأ مع اكتشاف أمريكا من قبل
كريستوفر كولومبس (1492)، وفتح القسطنطينيّة على يد العثمانيين (1453)،
واكتشاف الطباعة على يد غوتنبارغ(1450)، وظهور الإصلاح والبروتستانتي على
يد لوثر(1517). ولئن كانت لكل هذه الأحداث دلالة فلأنها وقعت في أوروبا حيث
توجد تقاليد عريقة وعصر وسيط حامل لقيم التشبّث بالماضي وبحجة التقليد
L’argument d’autorité . لذلك نرى أنّ للحداثة دلالة قويّة ترتبط بالتغيّير
والتقدم بالنسبة للبلدان التي تتمتع بتقاليد اجتماعيّة وثقافيّة ثابتة، في
حين أن الحداثة لا تكتسي معنى في بلد مثل الولايات المتحدة، لغياب وجود
تقاليد راسخة في هذا البلد. يمكن أن تؤدي التغيّيرات والتحوّلات التي
تعيشها المجتمعات الحديثة إلى تثوير البنى الاجتماعيّة وتطوير العقليّات،
شريطة أن يكون ذلك التغيّير مؤسسا على تجديد إيبستيمولوجي وتشريعي
وسياسي. وهو تجديد تمثل أساسا في تحقيق عقلنة rationalisation شاملة للواقع
الطبيعي والثقافي بصفة عامه، مما أدى إلى ما يسمى بتمييز
الأنظمةDifférenciation des ordres بحيث يصبح لكل نشاط إنساني استقلاليته
وقواعده الخاصة وعقلانيّته الخاصة ، الأمر الذي ينتج عنه الحد من توسعيّة
بعض الخطابات الإيديولوجيّة والخلط بين أجناس الخطابات السياسيّة
والاقتصاديّة والدينيّة. فلكلّ جنس من أجناس الخطاب معايير خاصة به
وعقلانيّة تخصه، مما يجعل الشأن الطبيّ مثلا شأنا يتطلب، قبل كل شيء،
كفاءات طبيّة ودراية دقيقة بالمجال الطبي، لا دخل للسياسي أو رجل الدين في
تسيير شؤونه. فالتمييز بين الأنظمة يجعلنا نختار الأشخاص الذين يضطلعون
بمهام عينيّة بالاستناد إلى معيار كفاءتهم وليس لانتماءاتهم الطائفيّة أو
المليّة أو العرقيّة. طبعا، لا يمنع ذلك من إسهام الكل ضمن حوار شامل يحدد
القواعد الإيتيقيّة التي تمثل الحدود التي على كل مجال من المجالات
احترامها صلب خطته العينيّة الخاصة، كل ذلك في سياق نظام ديمقراطي يتميّز
بتثمين العلاقة بين الأفراد في سياق فكر سياسي تعاقديّ مؤسساتيّ يضع
المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
والحقيقة أن العصر الحديث الذي بدأ منذ القرن السابع عشر في أوروبا قد بدأ
بأزمة ميتافيزيقيّة وعلميّة وسياسيّة كانت أهم نتائجها تأسيس مفهوم
الإنسان باعتباره فردا مع ديكارت وتطوير فهم جديد للطبيعة باعتبارها آلة مع
غاليلي Galilée ونيوتن Newton والخروج بوضع جديد للإنسان اعتباره مواطنا
مساهما في الحياة السياسيّة مع فلاسفة العقد الاجتماعي مثل لوك Locke
وسبينوزا Spinoza وروسو Rousseau.
لقد كان أهمّ تحوّل نظريّ في مجال العلم ناتجا عن أزمة اهتزت بفعلها
مبادئ التفكير ومناهج العمل والتعامل، وارتبط بتلك الرؤية الجديدة التي
جعلت علماء القرن السابع عشر الأوروبي يتخلون على فهم العالم بحسب التصورات
الجوهرانيّة التي وضعها أرسطو، والتي أسست لطرق الفهم في الفترة
الإغريقيّة والعربيّة ، ليضعوا قواعد فهم علائقيّة لم تقبل إلا بعد معاناة
عاشها غاليلي وحوكم من أجلها لأنها غيّرت النموذج الإرشادي Paradigmeالذي
كان الناس يفهمون بموجبه العالم، فمكنهم غاليلي من وضع تصور أدى بهم إلى
الانتقال من "كون مغلق إلى عالم لامتناهي" . يصف الكسندر كويري Alexandre
Koyré الثورة الكوبرنيكيّة التي قام بها غاليلي فيميّزها بصفتين رئيسيتين
هما :
"أ. تحطيم الكوسموس، أي تعويض عالم أرسطو والقرون الوسطى المتناهي والمنظم
هرميا بعالم لامتناه مترابط بتماهي عناصره المكونة لانتظام قوانينها.
ب. هندسة المكان، أي تعويض المكان العيني لأرسطو (المتمثل في مجموع
"المواضع" بالمكان المجرد الذي قالت به الهندسة الإقليديّة والذي غدا أخيرا
باعتباره واقعيا)"
طبعا، كان لاكتشاف العدسات المكبّرة دور أساسيّ في تقليص البون الذي كان
يفصل بين عالم السماء وعالم الأرض. أدى ذلك إلى صهر الفيزياء السماويّة في
سياق الفيزياء الأرضيّة. غير أن المهم في كل ذلك أن الأزمة التي أدت إلى
حدوث الثورة الكوبرنيكيّة لم تغير النظرة التقليديّة الغائيّة للطبيعة
فحسب، بل غيّرت بنية الثقافة برمتها، فتطوّرت النظرة الميكانيكيّة للعالم
وبدأت علامات الثورة الصناعيّة تظهر في الأفق واختصت الأكاديميّة الملكيّة
الانجليزيّة في مسألة استغلال العلم استغلالا عمليّا. كل ذلك يعني أن بنية
الثقافة برمتها قد اهتزت وانفطم الفكر بعد تلك الأزمة من عن رؤاه الليليّة
وثقافة العجز المميّزة للتصور الغيبيّ، فتقلص رواج المذهب الإيمانيّ
المقزّم للعلم والقائل بقصور العقل وسوء تدبيره .