إيف بونفوا: ما يهم الشعر هو تدمير الأيديولوجيات
اسكندر حبش
(لبنان)
إيف بونفوا، كبير شعراء فرنسا اليوم، مع اقترابه من التسعين، لا يزال حاضرا في المشهد الكتابي، حيث أصدر مؤخرا جملة من الكتب التي تتراوح بين الشعر والأحاديث والدراسات حول بعض الرسامين. هنا حوار مترجم عن جريدة لوموند، أجرته معه بعد صدور كتبه هذه.
* بداية، لماذا تفضل عادة، الإجابة خطيا عن أسئلة الصحافيين؟ - لأن ذلك يسمح لي بأن أقول ما أفكر به بشكل أفضل. المحادثة البسيطة تبدو لي سريعة جدا، إنها تثير أفكارا، حججا حاضرة في الروح، وهي بعيدة عمّا يوحي به زمن التفكير. أعتقد مثل سيزان أن ليس هناك حقيقة إلا في الدقائق.
* ترعرعت في «مكان فيه القليل من الكتب»، لكن سرعان ما أظهرت لك هذه الكتب نفسها، على ضفة الكلمات، كما «تولد ألوان قوس قزح بتحلل»، مثلما كتبت عن ذلك بجمال. هل تستطيع أن تكون أكثر دقة؟ أي كتب وسمتك في طفولتك؟ - لا أشتكي من كوني نشأت في منزل فيه القليل من الكتب. صحيح أنه كان هناك القليل منها في منزل والدي، على أي حال، تلك الجديرة بأن تحمل هذا الاسم، بيد أن كل واحد منها كان يملك هذه القدرة على أن يوسع بحرية كينونته ككتاب، حيث يتكشف في قلب كلّ واحد مستوى ثان من العبارة. أن تجد كتابا واحدا يمكن له أن يثير اهتمام طفل، وأن تتوسع كلماته وتتعمق، أي أن تصبح وسائل لنحلم بواقع يختلف عن واقعنا العادي. إنها تجربة ميتافيزيقية لا تسمح لنفسها بأن تتبدى كما هي عليه، بل هي تملك هموما أخرى أقصد كتب الأدب الكبيرة. قرأت قليلا في طفولتي، ما من سطر للأدباء الكلاسيكيين كالكسندر دوما على سبيل المثال الذي لا يزال مجهولا من قبلي لغاية الآن. كنت سعيدا بأن أقرأ القليل مما حملته الصدفة إليّ... بيد أنني بدأت قراءة الشعر لأنه كان يسمح لي بأن أكتشف مستوى آخر للواقع.
هروب من الحقل الشعري
* هل هناك حدود بين عملك الشعري وما تقوله في النصوص العديدة (أبحاث وحوارات..) المنشورة؟ ما وضع عمليات الهروب هذه من الحقل الشعري؟ - حدود، هل المقصود القول ان هناك فصلا؟ أتمنى أن لا، وإلا فستكون ثمة خيانة للشعر. لأن على عملي أن يمتلك كتابة وفكرا في الاندفاع عينه. تتجاوز الكتابة المقترب التصوري للأشياء لكن سرعان ما يتأمل الفكر الوضع، كي يفتح دروبا في هذا الفضاء الواقع ما بين التمثلات المنتهكة والحضور الذي لم يُعَش أبدا بشكل كامل. وهذا الأمر تملكه القصائد من أشياء شخصية بالكامل، لأنه، دائما، في علاقتنا الأكثر تفردا بأنفسنا، يستطيع الكائن أن يعيد إبداع نفسه، أن يستعيد رباط جأشه.
الشعر هو فكر. ليس عبر الصيغ التي يقدمها داخل النص، بل بقدرته على التأمل، في اللحظة التي يتشكل فيها. وعلينا أن نستمع إلى هذا الفكر هنا، حيثما كان، في الأعمال الأدبية. من جهتي، لم أرغب في الكتابة عن جياكومتي أو عن غويا، وعن غيرهم بالطبع، إلا محاولة في أن أجد المسائل المطروحة، ربما بشكل مختلف، من قبل «هؤلاء الشعراء»، عما يتطلبه الشعر منا لكي نتخذ قرارنا.
كلا، لا يمثل الأمكر هروبا من الحقل الشعري! بالأحرى ثمة إيعاز بأن تأخذ كل أفكار المجتمع مكانا لها في الشعر، حتى نصائح العلم، وحتى الجدل السياسي. ما يبحث عنه الشعر هو تدمير الايديولوجيات، الناشطة، ما دامت ضارة في جميع العلاقات البشرية.
* خلافا لحداثة تعتبر أن الواقع هو إلى جانب «المستحيل» (كما عند جورج باتاي) أو الذي يجب أن نهرب منه بأقصى سرعة (كما عند السورياليين)، نجدك تدافع عن شعر يمكن للجميع بلوغه. كيف وصلت إلى هذه النقطة؟ - بمروري بأولئك الذين ذكرتهم! لذلك عندي تعاطف، في الواقع، لهذه الكثافة العنيفة التي نظر باتاي من خلالها ـ وهي أيضا الطريقة التي نجدها عند غويا في اللوحات التي سميت «بالألوان السوداء» ـ إلى خارج المكان الإنساني أي إلى ليل الحيوات هذا التي تتناهش في ما بينها من أجل لا شيء، في هوة المادة، في هذا العدم. لكن أن نخاف من هذا الخارج، أمر لا بأس به بكوننا الإنسان الذي نحن عليه، أو الإنسان الذي نعتقد أننا نكونه، أليس ذلك نتيجة استعمالنا للكلمات التي ـ خلال بحثها لمعرفة الأشياء عبر مرآها المكمم ـ تعيد إنتاج الكثير من الألغاز؟ من المستحسن أن نعترف بهذا الحدث داخل العبارة أكثر من أن نؤسسه، كما بالحاجة ، كما بالحاجة إلى أن نقيم مع الكائنات الأخرى ـ المعترف بهم كأقرباء ـ حقل مشاريع وتقاسم. من الأفضل، حين نكون على متن مركب، أن لا نقلق من الأمواج العاتية كما أن نقرر أن هذا المركب يشكل الكائن نفسه، لذلك من المستحسن أن نحافظ عليه. وهذا ما خبرته السوريالية، أي أندريه بروتون الذي كان تقريبا الوحيد المهم في هذه المجموعة. أندهش حين أسمعك تقولين ان السوريالية كانت هروبا «ملحا». لم يتوقف بروتون يوما عن الرغبة في التدخل في ما سيكون عليه المجتمع. حتى أنه قام بنفسه بتصميم المخطط الأكثر راهنية سياسية، وبكثير من الصفاء والوضوح، في عصر يتسم بأنه عصر جميع الأوهام. ببساطة كان يذكرنا بأننا ذاهبون مباشرة إلى الكارثة إن لم ننتبه إلى حاجيات الحياة حيث أن المعرفة التصورية، العقلانية، لم تكن تعرف إلا هذا الخارج. في حين كان يعتقد بأن الحلم يحفظ الذاكرة.
* كيف نجحت بالاحتفاظ بنظرتك الطفولية؟ - هذا السؤال هو من الأسئلة التي يستدعيها رأسا ما قلته لك للتو، إذ ان فكرة الشيء هذه التي تشبه المخاطب، ما هي سوى تذكير بتجربة الطفل الذي يترك نفسه، تدريجيا، تنصاع إلى مثال الراشدين وتعاليمهم، بالاقتراب من العالم كأنه عبارة عن معطى سلبي، يمكن التلاعب به: كما لو أنه تشيؤ وليس أمرا معيشا. أعتقد أن الشعر ليس سوى الحفاظ على شعور الوجود هذا الذي يثير السعادة كما الكآبة، أي «النهارات الطفولية». إن ذاكرة هذا الفعل، الأساسي جدا لكن المنسي كثيرا في هذا العصر المهووس بالتكنولوجيا، المجرد من المعــارف القابــلة للتكميم والتي لا نعيشها بين الأشياء بل بين الكائنات.
إذا كيف الاحتفاظ بهذه التجربة الأولية؟ يمكن لذلك أن يتأتى ـ وبرأيي انه الطريقة الأساسية ـ عبر الإحساس بألفاظ صوتها، صوتها كما هي عليه، والذي نجده بعيدا عن كلّ المعاني التي يحجب من خلالها الفكر الأفهومي الإمكانية المحتملة لما يسميه. نسمع هذا الصوت البعيد، الصدى داخل لغة التماسك لما هو عليه، فنستقبله في أرواحنا عبر إيقاعات تصعد من الجسد، أي من الحاجة لا لأن نمتلك بل كي ننوجد؛ عند ذاك، يتموضع على الأرض هذا النشيد المتصاعد منه الواقع الإنساني، منذ خطوات اللغة الأولى. يجدد هذا النشيد الذي لم يتوقف الكلمات، وكــما آمل، لن يتوقف عن ملاحقة اللحظات القلــقة لقراراتنا الكبرى.
الأحد مارس 13, 2011 9:12 am من طرف سميح القاسم