من أين نبدأ الحديث عن قضية شائكة ومعقدة مثل السرقات الشعرية، قضية تتداخل وتتواشج مع عدد من المفهومات الأخرى التي تحتاج هي أيضاً إلى تقعيد وتنظير؛ لأن العرب لا يجيدون إلا التنظير كعادتهم!!.
وهنا يمكننا على طريقة الرواية الحديثة في الاسترجاع أن نبدأ الموضوع من آخره.
فالنص الأدبي لم يعد نصاً مستقلاً أعزل، بل هو ـ وفقاً لنظرية التناص ـ مجموعة من النصوص تعانقت وتعالقت وتداخلت فيما بينها، وانصهر بعضها ببعض في مخيلة الأديب وتفاعلت مع تجربته الخاصة ثم خرجت على شكل نص جديد.
لقد أصبح العالم قرية صغيرة، وأصبح الشاعر مطلعاً على المنتوج الشعري من قديم الزمان وإلى اليوم، بل عارفاً بآداب الأمم الأخرى ومعجباً بأشياء منها ربما لم ترتسم على ذهن أحد غيره، يقوم بمعالجتها وصهرها في معمله الفني ليخرجها بشكل جديد «نص جديد» يختلف عن كل النصوص السابقة، لكن ينبغي التأكيد هنا أن هذه النصوص لا تحضر إلى ذهن الشاعر بطريقة منطقية آلية وإنما بصورة انفعالية تأثرية تستدعيها التجربة المعيشية واللحظة الشعورية المسيطرة عليه دون وعي منه ليجدها تنساب في نصه كالجدول دون تضارب أو تنافر أو انقسام.
وليس التناص هو الشيء الوحيد الذي يتداخل مفهومه، أو يلتبس مع السرقة، بل مفهومات أخرى عدة كالاقتباس والتضمين والإلماح والحل وسواها.
فالتناص ضرورة فنية اقتضتها سعة الثقافة وانفتاح سبل المعرفة وتلاشي الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، بيد أن التناص ليس مطية للمتطفلين على الشعر كما قد يتصور البعض؛ إذ أنه يحتاج إلى قدرات فنية عالية للتعامل معه بحذق وبما يخدم الوجهة التي ينحو إليها النص، وتبدأ الصعوبة من نوع النصوص التي سيتجه إليها، والزاوية التي سيتم النظر من خلالها، وصولاً إلى الصياغة النهائية التي ستحمل هذا الأفق من التعالق، وقليلون هم الشعراء الذين يجيدون توظيف هذه التقنية.
والخط الذي يفصل بين التناص وبين السرقة يشبه الخيط الرقيق الذي يفصل بين الجنون والعبقرية، والشاعر الفاقد لأدواته سرعان ما يتدحرج ويقع في أسر غيره ليجد نفسه بين عشية وضحاها محاكماً بتهمة اللصوصية وسرقة آهات الآخرين وأناتهم «باعتبار الشعر جرحاً آخر موازياً لجرح الحياة».
والشاعر الضعيف «والمتشاعر أو الشعرور» هو الذي يسرق أبيات الآخرين أو صورهم أو ومضاتهم البارعة، إنه سخيف بما يكفي لجعله أرذل اسم في قائمة التافهين أو أعداء الحياة.
على أنه يجب الحذر من رمي هذه التهمة أو إلصاقها بالآخرين؛ لأنك ستجد نفسك إذا ما فعلت ذلك قد وقعت في القفص بدلاً من المتهم، بل ربما صودر لسانك وامتنيع عن الإصغاء إليك بقية عمرك.
الأحكام في عالم الكلمة قاسية جداً لا ترحم، والدخول في عالم السرقات الشعرية يشبه السير في حقل ألغام، لذلك جعل القاضي الجرجاني «الاهتداء إلى السرقة وتمييز صنوفها من عمل جهابذة الكلام ونقاد الشعر الذين يستطيعون أن يميزوا بين السرقة والغصب والإغارة والاختلاس والإلمام والملاحظة، والمشترك الذي لا يجوز إدعاء السرق فيه والمبتذل الذي ليس أحد به أولى» "الوساطة بين المتنبي وخصومه 183".
فدائماً هناك أرضية مشتركة يقف عليها الجميع من الصعب أن تقصرها على بعضهم، أما المكان الذي تتصدره إشارة حمراء «ممنوع الدخول» فهو المكان الذي يتكئ فيه الشاعر على غيره دون أن يبذل أي جهد سوى ما يضعه من طلاء لمغالطة المتلقي، وإخفاء عورة القصيدة.
وهنا يمكنك ان تستل سيفك لتذبح السارق على الطريقة الإسلامية أو حتى على الطريقة الكونفوشيوسية.
وإذا كانت السرقة هي "أن يأخذ الشخص كلام الغير وينسبه إليه" «جواهر البلاغة للسيد أحمد الهاشمي 337 وما بعدها» فإنها على ثلاثة أنواع:
ـ الأول: النسخ، ويسمى انتحالاً، وهو أن يأخذ الشاعر «السارق» اللفظ والمعنى معاً، أو أن يقوم بتبديل الألفاظ بمرادفاتها مثل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
هذا البيت أخذه شاعر وقال:
دعم المآثر لاتذهب لمطلبها
واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
ـ والنوع الثاني: المسخ أو الإغارة، وهو أن يأخذ الآخذ بعض اللفظ أو يغير بعض النظم.
ـ النوع الثالث: فهو السلخ، ويسمى إلماحاً، وهو أن يأخذ السارق المعنى وحده.
على أن النقاد يتساهلون في أخذ المعاني، لكنهم يشترطون على من يأخذها أن يصوغها بشكل أبرع، وأن يمتاز على السابق، وهذا له فضل التميز، والسابق له فضل السبق، بينما يذمّون من يأخذ المعنى ثم يظهره في ثوب أخلق، فعليه عيب الأخذ وعيب التقصير.
أما الشعراء الذين تعاورتهم سهام النقد فهم كثر، ولعل المتنبي على قامته السامقة أكثر الشعراء تعرضاً للاتهام بالسرقة، مع أنه أقام بناء الشعر العربي على أروع ما يكون البناء، ورسم لوحاته في أبهى ما يكون الفن.
لكن كل النقاد القدامى الذين تتبعوا هفوات المتنبي أو سرقاته وتوارداته اعترفوا بأنه يرتفع بالمعنى الذي يأخذه ويرقى به إلى مراتب عالية من الكمال الشعري.
وإذا عدنا إلى كتاب «تاريخ النقد الأدبي عند العرب» للدكتور/إحسان عباس، سنجد ابن أبي طاهر يقول إن سرقات المتنبي من أبي تمام فقط تربو على أربعمائة بيت، فما بالك بالسرقات من الآخرين؟!.
أما ابن وكيع فقد أورد سرقات لأبي الطيب من شعراء مغمورين لا يدانون أبا تمام والبحتري؛ ليدل على أن هذا الشاعر كان يتخذ حطباً من أية غابة صادفها في طريقه وظل يعدد ـ كمثال ـ سرقات المتنبي من نصر الخبزرزي «حسب النقد الحديث لا يعد من السرقة ما ذكره ابن وكيع على أنه سرقات في الغالب» ومع ذلك فقد اعترف ابن وكيع أن المتنبي أسقط كل ما أخذه من الخبزرزي ولم ينسبه إلى نفسه فيما بعد.
«ولهذا لا نلوم المتنبي إذا كان قد مشى في صغره وراء أضواء كاذبة، ولكنه لما نضج وعرف معنى الشعر الصحيح الخليق بالخلود لم يتورع عن أن يسقط من شعره أكثره».
وهناك عبارة شهيرة للمتنبي يمكن عدّها ورقة بيد هيئة الدفاع في محكمة الشعر يقول: «قد يقع الحافر على الحافر» نعم وليس، ممتنعاً أن يتفق الهاجس مع هاجس آخر، فيقول شاعر ما قاله شاعر آخر دون أن يكون قد قرأه أو سمع به، فتوارد الخواطر أو اتفاق الهواجس شيء ممكن، وتشابه الخواطر إلى جانب اتخاذ نفس الإيقاع الموسيقي يزيد من إمكانية التوافق فيقع ما لم يكن بالحسبان.
ومعروف أن الشاعر غالباً ما يحفظ أشعار الآخرين، ولكنه ينساها، فإذا ما بدأ الكتابة ربما نطت جملة ما من عقله الباطن إلى نصه الجديد دون وعي منه.
وهنا يلزمنا تنبيه الشاعر للتنصيص على ما أخذه باعتباره تضميناً؛ وذلك بوضع شولتين صغيرتين في بداية المأخوذ، وشولتين في نهايته، أو عليه أن يقوم بتغيير ما أخذه بما يناسب، لكن الشاعر المجيد يستطيع أن يضبط محفوظاته ويفصل بينها وبين ما يتخلق إبداعياً أثناء الاستسلام لوحي القصيدة.
وأخيراً يجب أن نتنبه للفرق بين السرقة وبين الاقتباس والتضمين والإلماح، حيث إن الاقتباس هو أن يأخذ الشاعر أو الكاتب آية قرآنية أو حديثاً شريفاً فيضعه في شعره مع التعديل بما يتناسب ووزن القصيدة، وهو جيد، لكنه غير جائز مع الهزل وموضوعات الغزل الحسي.
وأما التضمين فهو أن يضمن الشاعر كلامه شعراً من شعر الغير، في حين أن الإلماح هو الإشارة إلى قصة معلومة أو شعر مشهور.
وهكذا ينبغي علينا التمييز بين السرقة وغيرها، وعلينا إذا ما خضنا مجال الشعر أن نتذكر دائماً قول رلكه: «إن الأشعار ليست مجرد مشاعر، إنها تجارب» «الأسسس الجمالية في النقد العربي د/عزالدين اسماعيل «291».
نعم تجارب، فلكل شاعر تجربته الخاصة التي ينبغي أن يتفرد بها عن غيره حتى يظهر صوته الخاص وأسلوبه الفريد، أما أن يكون تكراراً لغيره فهو يفقد قيمة وجوده الأدبي، ويظل عالة على غيره، بل عالة على الأدب بأجمعه.
ومن هنا نعرف مقدار المصيبة الناجمة عن التمسك بالتقاليد الشعرية والالتزام بها حرفياً، كونها تجعلنا مجرد ببغاوات نردد ما قاله المتنبي والمعرّي وشوقي والبردوني و....
كما تتضح هنا أهمية المغايرة والتجريب من أجل الدخول في عوالم جديدة تثري عالم الأدب والإبداع، وتساعدنا على تطوير هذه اللغة والحرث فيها لإعادة الحياة إليها من جديد قبل أن تندثر أمام تقدم اللغات الأخرى وتطورها.
خلق اللغة وبعث الحياة فيها هي مهمة الشاعر الأصيل الواعي بموروثه الشعري والقادر على استيعاب المعطيات الحديثة على الصعيدين الوضوعي والفني، ومن هنا يستطيع هذا الشاعر أن يمتلك تفرده، وينأى بنفسه عن السرقات أو ما يشتبه بها.
ومن المحزن أن بعض الشعراء الشباب الذين سلكوا طريق القصيدة الجديدة والأجد أخذوا يتكئون على نتاج بعض الشعراء الكبار مما أفقدهم وهجهم، فتجد هذا مقلداً لنزار قباني، وهذا يغرف من بحر درويش، وهذا ينهل من نبع أدونيس، وآخرين يغرقون في تفاصيل حياتهم اليومية حتى لم تعد تفرق بين شعرهم وكلامهم العادي.
لا شاعر إلا بصوته الخاص، ولا أديب إلا بإبداعه الذاتي، أما التشابه فهو الجمود بعينه؛ وإن كان يرتدي لباس القصيدة الحديثة.
بصوتك الخاص تكون أبعد الناس عن السرقات، وبتقليدك لغيرك تكون أقرب الناس إلى السرقات.
أجارنا الله وإياكم من السرقات وما يقرّب إليها من شعر أو نثر!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ