عخم
-الوعي بالمقدّس: يستطرد مرسيا إيلياد في تبيان دور اللاّشعور على اعتباره حجر الأساس في فكرة المقدّس في كتابه سابق الذّكر (الأساطير والأحلام والأسرار) قائلاً: “لقد أمكن إثبات استمراريّة العلاقة بين عالم الأحلام وعالم الأساطير، تماماً كما تم العثور على تماثل بين الشّخصيات والأحداث الأسطوريّة، وبين شخصيات الأحلام والأحداث الّتي تجري فيها. وقد تبيّن أيضاً أنّ ثمّة تعديلاً يطرأ على مقولات الزّمان والمكان العاملة في الأحلام، على نحو يذكر ضمن بعض الحدود بإلغاء الزّمان والمكان في عالم الأساطير. بل أكثر من ذلك لاحظ بعض الباحثين أنّ الأحلام وسائر الحالات النفسيّة المقيمة في اللاّشعور لا تقتصر فقط على تقديم جو ديني بنيتها الّتي يمكن مقارنتها مع بنيّة الأساطير، وإنّما تعرض أيضاً حسب رأي علماء نفس الأعماق التّماثل بين تجربة المقدّس الّتي تقتضيها الأسطورة، وبين تجربة تعتمد على محتويات من اللاّشعور، ثمّ خلصوا وربّما ببعض السّرعة إلى أنّ إبداعات اللاّشعور هي المادة الأولى للدين، ولكلّ ما يحمل من رموز وأساطير وطقوس”. (26)
أمّا فرويد فيعرف المقدّس في كتابه (مستقبل وهم) وفق الآتي: “من جهة أولى هو الآخر المتميز إلى أبعد الحدود. إنّه ذلك التّعالي والتّسامي، وذلك التّجاوز لما هو شخصي. والمقدّس من جهة ثانية هو النّموذجي، بمعنى أنّه يؤلّف طرازاً ومثالاً ويؤسّس نهجاً يجب إتباعه. هنالك إذن التّعالي والنموذجيّة اللذان يرغمان الإنسان المتدين على الخروج من الأوضاع الشخصيّة، وعلى تخطي ما هو جائز واحتمالي وفردي، من أجل الولوج إلى الكوني وإلى القيم العامة”. (27)
وإذا لم يكن الموت نفسه أمراً عفوياً، وإنّما فعل عنيف ناجم عن إرادة خبيثة، وإذا كنا نحن أنفسنا محاطين في كلّ مكان من الطبيعة بكائنات تضارع وتشبه الآدميين الّذين يحيطون بنا، فإنّنا نتنفس الصعداء عندئذ، ونشعر كأنّنا في بيوتنا، وإن كنّا في جوف ما هو خارق للطبيعة – ونستطيع بالتّالي أن نتهيأ نفسياً لخوفنا الّذي ما كنا لنعرف له معنى من قبل. وإذ يسعنا بالعقل أن نلجأ إلى مواجهة تلك الكائنات العليا العنيفة إلى نفس الطرائق الّتي نستخدمها داخل مجتمعاتنا البشريّة، فنحاول أن نتملقها ونهدئها ونرشوها ونختلس بالتّالي من خلال تأثيرنا هذا عليها جزءاً من سلطانها. وهذه الاستعاضة عن علم طبيعي بعلم نفسي لا توفر لنا سوى انفراج فوري، ولا تدلنا على الطريق الواجب إتباعه للسيطرة على الوضع بإحكام أكبر (فرويد). (28)
وفي موضع آخر يطلعنا فرويد من الكتاب سابق الذّكر على سرّ قوّة وسلطان الأفكار الدينيّة وعلاقتها بالسلطة الأبويّة الحاميّة من غوائل الطبيعة فيقول: “وهذه الأفكار الدينيّة الّتي تطرح نفسها على أنّها معتقدات، ليست خلاصة التّجربة أو النتيجة النهائيّة للتّأمل والتّفكير، وإنّما هي توهمات، تحقيق لأقدم رغبات البشريّة وأقواها وأشدّها إلحاحاً، وسرّ قوّتها هو قوّة هذه الرّغبات. وبالأصل نحن نعلم ذلك: فالإحساس المرعب بالضائقة الطفليّة أيقظ الحاجة للحمايّة – الحماية بالحبّ- وهي حاجة لبّاها الأب. وأدرك الإنسان أن هذه الضائقة تدوم الحياة كلّها جعله يتشبّث بأب، أب أعظم قوّة وأشدّ بأساً هذه المرة. فالقلق الإنساني إزاء أخطار الحياة يسكن ويهدأ لدى التّفكير بالسّلطان الرّفيق العطوف للعنايّة الإلهيّة، كما أنّ إرساء نظام أخلاقي يكفل تلبية مقتضيات العدالة. ومن مقدمات المنظومة الدينيّة تشتق وتتفرّع أجوبة على الأسئلة الّتي يطرحها الفضول البشري على نفسه بصدد الألغاز التاليّة: أصل الكون، العلاقة بين الجسد والرّوح ..إلخ. ولكم يخف العبء على النّفس الفرديّة حين ترى صراعات الطفولة المنبثقة عن المركب الأبوي – وهي صراعات لم تحل قط تمام الحل – وقد أُسقطت عن كاهلها إذا صحّ التّعبير وتلقت لها حلاً يقبل به الجميع”. (29)
وعلى هذا النّحو تتكوّن ذخيرة من الأفكار، وليدة الحاجة إلى تلطيف الضّائقة الإنسانيّة، مبنيّة بالمادّة الّتي تقدمها ذكريات الضّائقة الّتي كان عليها الإنسان في طفولته الأولى كما في طفولة الجنس البشري. ويسير علينا أن ندرك أنّ الإنسان يشعر بفضل هذه المكتسبات بأنّه محمي من جانبين: من جهة أولى من أخطار الطبيعة والقدر، ومن الجهة الثانية من الأضرار الّتي يتسبب بها المجتمع الإنساني. هذا كله يعدل القول بأنّ الحياة في هذه الدنيا، تعمل في خدمة تدبير سامٍ أعلى يصعب التكهن بطبيعته، لكنّه ذو دخل بكل تأكيد بكمال كينونة الإنسان، ولعلّ موضوع هذا التّعظيم والتّمجيد سيكوّن الشّطر الرّوحي من الإنسان، الرّوح الّتي انفصلت على مرّ الزّمن عن الجسد ببطء بالغ وعلى مضض شديد، وكلّ ما يحدث في هذه الدنيا ينبغي أن يعد تنفيذاً لقاصد عقل يسمو على عقلنا، عقل يدير جميع الأمور على أحسن وجه أي لخيرنا، وإن سلك دروباً ومنعرجات يصعب تتبعها. وعلى كلّ منا تسهر عناية إلهيّة رفيقة، غير صارمة إلّا في الظاهر، عنايّة لا تسمح بأن نصير ألعوبة بين يدي الطبيعيّة السّاحقة العادمة الشفقة، وحتّى الموت بالذات ليس إلّا اضمحلالاً، ليس عودة إلى حيث الحياة واللاّحركة، وإنّما هو بداية ضرب جديد من الوجود، مرحلة على طريق تطور أسمى وأرفع. (30)
ومن الناحية الأركيولوجيّة فلقد وجد على سبيل المثال، أن غرس قرون الماعز الجبلي حول جسد الميّت بطريقة خاصّة، هو إجراء يخفي وراءه اعتقاداً باحتواء هذه القرون على قوّة من نوع مّا. ففي جبال الألب تمّ اكتشاف ثلاثة كهوف تتوضع على ارتفاعات تتراوح بين السّبعة آلاف والثمانيّة آلاف قدم. وترجع إلى أواخر الباليوليت الأوسط احتوى كلّ منها على جماجم عظام دببة مغاور تمّ ترتيبها بشكل اصطناعي مقصود، أطلق عليها بعض الباحثين أسم (مقامات الدب) ورأوا فيها دليلاً على عبادة منظمة تدور حول الدّب خصوصاً، وأنّ طقوساً مشابهة مازالت قائمة لدى بعض الشّعوب البدائيّة في الدّائرة القطبيّة الشماليّة. وكلّ ما نستطيع استنتاجه عن هذه الرحلة من معلوماتنا عن الثقافة النياندرتاليّة، هو أن لتلك التكوينات وظيفة رمزيّة تتصل بالمعتقد الديني وأنّها تتعلّق بالنشاط الهادف إلى إقامة علاقة مع المستوى القدسي للوجود الّذي أحسّ النياندرتالي حضوره بالنّفس والطبيعة *. (31)
إنّ عقيدة تقديس الجماجم هي المؤشر الأول في تاريخ الدين على عبادة الموتى، حيث لا تظهر وتأخذ أبعادها كاملة إلاّ في وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينيّة منظمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التفاعل ضمن البيئة الاجتماعيّة، فهذه العقيدة الّتي تقوم على الإيمان بقوة الأرواح وقداستها لم تنشأ في فراغ ديني، بل انبثقت عن معتقدات أقدم منها متوارثة عن الباليوليت الأعلى (العصر الحجري القديم)، وتعايشت معها دون أن تحل محلّها. ففي تل المريبط نجد الجماجم المنصوبة على حواملها، قائمة في بيوت النّاس الّذين تعبدوا للقوّة الساريّة من خلال رؤوس الثيران المعروضة على المناصب الطينيّة. وفي شتال هيوك (الأناضول) توضع الجماجم بشكل ظاهر في الهياكل الّتي أقيمت أصلاً لرؤوس الثيران وتمثيلات الألوهة المؤنثة. وفي أريحا ترصف مجموعات الجماجم المشكلة الملامح في البيوت السكنيّة للنّاس الذين بنوا هياكل دينيّة أقاموا فيها الطقوس للتّواصل مع القوّة الكونيّة الوحيدة، الّتي عرفها إنسان ذلك العصر (قوة المجال القدسي). أي أن قدسيّة الأرواح، وبشكل خاص قدسيّة الأسلاف المبجلين، إنّما تستمد من مفهوم سابق، مؤسس وراسخ للقداسة، ومن أفكار دينيّة ناضجة عن المقدّس، وعن الدنيوي، وإنسان العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) في تقديسه لأرواح السلف قد نظر إلى جماجمهم باعتبارها مستودعاً لقوى قدسيّة غير محدودة تصدر عن منبع كوني خفي، فإذا كانت أرواح الموتى تكتسب قوّة فوق طبيعيّة بعد مغادرتها أجسادها، فلأنّها انضمت إلى المستوى القدسي للوجود الّذي صدرت عنه أصلاً، واستمدت من قوّته السارية، هذه القوّة الّتي تتكثف بشكل خاصّ في أرواح الأفراد المتميزين، ممّن لعبوا دوراً هاماً في حياتهم. ويبقون بعد مماتهم صلة وصل مع المستوى القدسي كما تبقى جماجمهم بين الأحياء شارة للقداسة، وشيئاً فشيئاً تحلّ الشّارة الإنسانيّة محلّ الشّارة الحيوانيّة رمزاً لعالم اللاّهوت، وتأخذا لقوّة تدريجياً باتّخاذ لملامح الإنسانيّة بعد أن احتجبت طويلاً وراء الهيئة الحيوانيّة، ويترافق هذا التّحول مع إدراك الجنس البشري لتميزه ولدوره على مسرح الكون. (32)
-الخبرة الدينيّة لدى البدائي:
يتحدّث ولتر ستيس عن مفهوم التجربة الدينيّة بأنها أزمة كليّة يسببها الوجود، وهي بالوقت ذاته الحل النموذجي لتلك الأزمة، إنّها الحل المثالي عن عالم مقدّس من فعل الآلهة. عالم لم يعد خاصاً بفرد ولا غامضاً أو عاتماً، إنّما أخذ يتجاوز ما هو شخصي وراح يحمل الدلالة. إنّ الحلّ الديني يؤسس سلوكاً نموذجياً، وبالتّالي يرغم على أن يكشف لنفسه وبذات الوقت، ما هو واقعي وما هو كليّ وشامل. (33)
ويمكننا تعريف الخبرة الدينيّة كما يقدمها ولتر ستيس في كتابه (الزّمان والأزل):” بأنّها النّزوع نحو قطع العلائق مع الكينونة والوجود معاً، أو هو الرّغبة في تجاوز الوجود نحو ذلك العدم الّذي يكمن فيه النّور الأعظم. إنّه الرّغبة في التّحرر تماماً من أغلال الكينونة، الحقّ أنّ كلّ كينونة إنّما هي قيد، إن لم نقل بأنّ الوجود نفسه هو قيد. فليس وجودك سوى ارتباطك بما أنت كائنه، أو تقيدك بصميم كينونتك، وأمّا الدين فهو التّعطش إلى اللاّوجود والّذي هو مع ذلك موجود”. (34)
ويروي ستيس السّبب نحو إحلال مفهوم الإله:” والإله – الّذي هو القوت الوحيد الكفيل بإشباع نهم النّفس – إنّما هو هذا الموجود الّذي هو في الآن نفسه لا موجود. فهل يكون هذا مجرّد تناقض؟ .. إنّ البشر قد وجدوا في سعيهم نحو الموجود الأقصى، أنّ التناقض والمفارقة يحيطان بهم من كلّ صوب. ولكن من طبيعة الذّهن المتعقل ألاّ يقبل الأمور على هذا النّحو، لأنّه لابدّ أن يجد نفسه مضطراً إلى العمل على كشف النقاب عن السّر النهائي سواءً أكان ذلك بأن يخلع عليه طابعاً منطقياً، أم بأن يحيله إلى مقولتي الـ(هذا) و(ذاك). أو هو على أقل تقدير، قد يحاول التّخفيف من حدة الإشكال، حتّى يبدو الأمر كما لو كان من قبيل الإدراك الفطري، فيكون بالإمكان ابتلاعه دون كبير عناء”. (35)
إنّ المواجهة بين عالم اللاّهوت والإنسان لا تنجم عن تجربة عقليّة، لأنّها في الأساس خبرة وجوديّة، تفرض نفسها عليه بسبب استعداد فطري لتلقي الأثر الدينامي للمجال الآخر، بعيداً عن المفاهيم والصياغات العقليّة، ومن هنا فناتج المواجهة يتحوّل إلى اختبار نفساني لوحدة وتكامل الوجود المدرك وغير المدرك. أمّا التّعبير عن هذا الاختبار النّفسي فإنّه قد تمّ ولا شكّ من خلال صياغات شتّى، فلقد أُستخدم الفنّ وبأقصى مدى من أجل توصيل ذلك الإحساس بالمجال القدسي. أمّا الطقوس الّتي كانت تجري في كاتدرائيات الأعمق تلك، أمّا الصياغة التواصليّة للمعتقدات، فأمور لا يمكن حتّى التّفكير بإعادة بنائها (ستيس). (36)
يمكن تلخيص العواطف الّتي يرى أهل الاتجاه العاطفي وجودها وراء الدين، إلى عاطفتين أساسيتين عند البشر هما الخوف والطمع- وبما أنّ منتهى مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإنّ هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يقسم الإنسان إلى كيانين، واحد مادي وآخر روحي. فإذا كان الموت لابدّ مدرك كيانه المادي، كما تعلمنا الخبرة اليوميّة، فإنّ الكيان الروحي سوف يجتاز واقعة الموت ويترك سكنه المؤقت الّذي آل إلى التلف إلى مستوى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبديّة، وبما أنّنا نواجه فكرة الرّوح هذه، إلا ما ندر، في كل ديانة قديمة أو حديثة مما وصل إليه علمنا، كما نواجه في كل منها تصوّراً مّا لحالة الرّوح بعد واقعة الموت الفردي، فقد توصل أهل النظريّة العاطفيّة إلى القول بأنّ الحسّ الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود، وأنّ مفهوم الألوهة لم يترسّخ إلاّ لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصاً وبقاءً أبدياً (ستيس). (37)
ورغم أنّ مكانة سكان العالم الأسفل في المعتقد التيوتوني (البدائي) تختلف باختلاف المكانة الّتي كانت لهم بالعالم الأعلى. وأغرب مصير تصير إليه زمرة من الأرواح الهابطة، هو مصير جماعة المحاربين مثلاً الّذين سقطوا في ساح القتال، فهؤلاء يحلون ضيوفاً في قائمة شرف خاصّة بهم، ولهم ما يشتهون من طعام وشراب يطوف به عليهم عذارى حسان، ويلبين لهم كل مطلب، غير أنّ هؤلاء المحاربين محكومون بخوض قتال لا يهدأ في كل يوم، فمع ابتداء اليوم الجديد يتّخذ الأبطال عدّتهم للحرب وينخرطون في قراع يستمر إلى آخر اليوم حيث يأوون إلى أسرتهم لكي يتابعوا الأمر نفسه باليوم التّالي. (38)
وفي مجال آخر فإنّ (المتوحش الطيب) الّذي اكتشفه الرحالة والأيديولوجيون من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر كن بدوره على علم بأسطورة المتوحش الطيب، في رأيه هنالك طيب قديم: هو جده الأسطوري القديم الخاصّ، أقام في نفس المكان، وعاش حقيقة حياة فردوسيّة، كانت له كلّ أسباب العيش البهيج الرّغيد وكانت له كلّ الحريات، ولم يطلب منه القيام بأي جهد، غير أنّ ذاك الجد الطيب الأولي، شأنه شأن الجد التوراتي عند الأوروبيين فقد فردوسه الأرضي، وبالنسبة للمتوحش الرّاهن، كانت حالة الكمال موجودة عند جده الأسطوريّ، لكن هنالك فارق أساسي بينهما، إنّ المتوحش الّذي تمّ اكتشافه في القرون الماضية، كان يبذل الجهد حتّى لا ينسى ما جرى في ذلك الزّمان القديم، كان عليه أن يتذكر بصورة دوريّة الأحداث الهامّة الّتي دفعته إلى شرط الإنسان (السّاقط) ويضيف (مرسيا إيلياد): “إنّ الأهميّة الّتي أولاها المتوحش الطيب الرّاهن إلى تذكر الأحداث الأسطوريّة بالدّقة والوضوح لا تقتضي منه بأي حال، إضفاء قيمة إلى الذّاكرة بحّد ذاتها، لأنّ البدايات وحدها تشغل بال البدائي، ولكنّه لم يكترث لما جرى له بالذّات من أحداث، أو لأحد ذويه منذ ومن قريب أو بعيد وليس له أن يتذكرها”. (39)
يتحدّث الأنثروبولوجي هرسكوفيتز عن تجربة الشامان الروحيّة (تجربة الطيران) بأنّه يستعيد أثناء الوجد، الوضع الفردوسي، ويؤكّد إمكانيّة الاتّصال بين السّماء والأرض، والّتي كانت ميسورة في ذلك الزّمن القديم، وبالنسبة للشامان –الجبل والشّجرة الكونيّة –يغدوان مرّة أخرى وسائل حسّيّة تؤمن الولوج إلى السّماء مثلما كانا قبل السّقوط. إنّ الشامان لا يلغي إلاّ لفترة وجيزة القطيعة بين السّماء والأرض، إنّه يصعد إلى السّماء بالرّوح، ولا صعد أبداً على صعيد الواقع، بلحمه وشحمه مثلما فعل الإنسان الأولي في البدايات، كذلك لا يلغي إطلاقاً الموت، ومن الملاحظ أنّ كلّ المفردات الدّالة على الخلود، والّتي يمكن إحصاؤها عند البدائيين، تستلزم تماماً – كما عند الشّعوب المتحضرة – موتاً تمّ من قبل. ونقول إنّ التّجربة الصوفيّة بامتياز في المجتمعات القديمة والمتمثّلة بالشامانيّة تكشف عن الحنين إلى الفردوس، وعن الرّغبة في استعادة حالة الحريّة والغبطة الّتي كانت قبل السّقوط، وفي تجديد الاتّصال بين السّماء والأرض، وفي إلغاء كلّ ما تمّ من تغيير في بنيّة الكون بالذّات، وفي نمط وجود الإنسان عقب الخطيئة الأوليّة. إنّه يسترد الصداقة والألفة مع الحيوانات (أثناء الجلسة الشامانيّة – حيث يقلد أصوات الحيوانات والطيور)، وهو بتحليقه بالأجواء بالرّوح أو صعوده، يقيم الاتّصال مرّة أخرى بين الأرض والسّماء، وعندما يبلغ السّماء ويدرك الأعالي يجري مقابلة مع الإله السماوي وجهاً لوجه، ويبادله الأحاديث بصورة مباشرة مثلما أتيح للإنسان الأولي أن يفعل في ذلك الزّمان القديم. (40)
ولا يغرب عن البال أنّ الحلول Possession لدى الزّنوج في إفريقيا والهند وفي العالم الجديد، هو أسمى تعبير عن تجربتهم الدينيّة، وما هو إلّا حالة سيكولوجيّة يقع فيها نقل الشخصيّة عندما (يدخل الرّب في رأس) عابده. وعلى ذلك يعتبر الفرد بمثابة الرّب نفسه. إنّ حالات الوجد الهستيريّة الّتي يقوم بها النّاس وهو مغمضو العينين بحركات دون ما هدف أو غاية، أو يتمرغون بالأرض متمتمين بكلمات غير مفهومة، أو يصلون إلى درجة تتصلّب فيها أجسادهم تماماً، يمكن معادلتها دون صعوبة بظواهر الشّذوذ العصابيّة واختلال الشخصيّة في المجتمعات الأورو –أمريكيّة. إذ أنّ تجارب الحلول هذه بالنسبة للإطار الّذي تدور فيه، لا تعتبر أبداً شذوذاً أو ظاهرة سيكولوجيّة، بل هي نماذج ثقافيّة غالباً ما يتلقنها الأفراد بالتّعلم. إنّ رقصات الفرد الّذي حلّ فيه أحد الأرباب وأفعاله الأخرى تتبّع أسلوباً معيناً بحيث أنّ من يعرف ديانة مجتمعه يستطيع تعيين الرّب الّذي حلّ فيه. وأخيراً فإنّ تجربة الحلول في هذه الثّقافة منظمة إلى درجة أنّها تقع لأحد المتعبدين في ظروف خاصّة، ففي إفريقيا الغربيّة والبرازيل يحلّ الأرباب فقط في الشّخص الّذي يعينه الكاهن في الجماعة مسبقاً بأن يضع يديه فوق رأسه (إيلياد). (41)
وعلى حدّ تعبير إيلياد فإنّ الإله السماوي يرى كلّ شيء، وبالتّالي يعلم كلّ شيء، وهذا العلم من مستوى فائق الطبيعة، هو بذاته قوّة. إنّ آيهو Iho عن البولينيز هو الإله المطلق الأبدي وكلي المعرفة، له العظم والجبروت، إنّه أصل كلّ شيء وينبوع المعرفة المقدّسة، ومعرفة الغوامض والخفايا. قل الشّيء ذاته عن الديانات الأكثر تطوراً. فالذّكاء والمعرفة الكليّة والحكمة ليست فقط أوصافاً للآلهة السماويّة. إنّما هي قدرات، يرى الإنسان نفسه ملزماً لأن تكون له ولأن يتحلّى بها. (42)
ويجب الانتباه إلى موضوعة غياب أسطورة الزّواج المقدّس في أقدم الديانات البدائيّة حيث يخلص (مرسيا إيلياد) إلى نتيجة مفادها: “أنّ الأرض – الأم هي آلهة قديمة جداً، تأكد وجودها منذ العصر الحجري القديم، لكن لا يمكننا القول أنّها كانت الألوهة الوحيدة الأوليّة. يعزى هذا الكلام إلى سبب بسيط نعبّر عنه بالقول: لم يدرك الإنسان القديم الأنوثة كنمط من الوجود الأولي، إنّما كانت الأنوثة كما الذّكورة تؤلف نمطاً خاصاً من الوجود مسبوقاً بالضّرورة بالنسبة للفكر الأسطوريّ بنمط من الوجود الكليّ. وعندما يتعلّق الأمر بكائنات خالقة، نرى أنّ التركيز يتناول مقدرتها على خلق يحسّ به المرء وكأنّه صادر عن امتلاء غير متميز من دون محدّدات ومواصفات. وبوسعنا القول عن هذه الحالة الأوليّة: إنّها كليّة ومحايدة ومبدعة. (43)
أيضاً فإنّ البدائيين يعرفون عن الكائنات العظمى أنّها هي الّتي خلقت العالم والحياة والبشر، لكنّها بحسب أساطيرهم، هجرت الأرض بعد مدّة وجيزة وانسحبت إلى أعالي السّماء وأوكلت إلى أبنائها من الآلهة ليحلوا محلّها أو مبعوثين عنها، أو إلى الآلهة التّابعة لها، والّتي استمرّت على نحو ما بالاهتمام بالخليقة وفي الحفاظ عليها والسير بها إلى الأمام. وفي هذه الديانات البدائيّة يفقد الإله الأعظم فعاليته الدينيّة ، إنّه يبتعد عن البشر، ومع ذلك يحتفظ الإنسان بذكراه ويتوسل إليه، ويضرع إليه في الشدّة والأوقات العصيبة، عندما تفشل كلّ المساعي وكلّ الوساطات الموجهة إلى سائر الآلهة وإلى الأبالسة والأجداد. (44)
-إرهاصات الوعي لدى البدائي:
من الجدير بالذّكر عندما نتساءل عن المراحل المبكرة لتكون الوعي كصورة وخيالات أن نتكلّم عن العفاريت والأرواح والآلهة، وهو الجانب الأكثر إمتاعاً والأعظم جدوى بالنسبة لفهم أقدم أشكال الصورة. ففي البداية رأينا الفتش شيئاً جاهزاً، واحداً من أشياء الطّبيعة، وعندما ينفصل عفريت الشّيء عن الشّيء ذاته يكون في البداية عديم الشّكل مائعاً. هذا المستوى من الوعي يملأ العالم بغيلان خرافيّة مرعبة لا تخضع لقياس أو معيار سواءً في ضخامتها أو في ضآلتها على السّواء. إنّ هؤلاء العفاريت على درجة من الهشاشة بحيث أنّهم يفتقدون أي مظهر خارجي – مادي محدّد حتّى ولو ما يشبه الوحوش. وهكذا فإنّ تصورنا لهم يظلّ غير مرئي، لا يدركه البصر، إنّهم أشبه بالتّهويمات في الكوابيس. أمّا في ما بعد فتتّخذ الصّورة شكلاً، أي أنّها تتحدّد بآلهة على هيئة وحوش، مثل: الهيدرا، التنين ..إلخ. على أن هؤلاء الآلهة لم يأخذوا معنى الغيلان السلبي إلا في وقت لاحق، حين ارتفع الآلهة والأبطال إلى درجة التّشابه مع البشر. ثمّ في شخصيتي هرقل وإيليا موروميتس (بطل الفلكلور في الأساطير الروسيّة) بدؤوا يقهرون الغيلان والجبابرة. بعدئذ نلتقي بنوع نصفه إنسان والنّصف الآخر حيوان، مثلا ذلك: القنطور وأبو الهول، وأخيراً نلتقي بآلهة تشبه الإنسان من نمط آلهة الأولمب الأغريقي، وقد تميّزت الآلهة في مراحلها الأولى بما لا حدود له من ضخامة وقوّة وجبروت طبيعي، خصوصاً بقدرتها المفرطة على إنجاب الأولاد، لأنّ فضائلها الأساسيّة تكمن في هذه القدرة، إذا منها تحدرت الآلهة وخلق الكون. وبعد ذلك تكتسب الآلهة أحجاماً مرئيّة يدركها البصر (كذلك هم آلهة الأولمب عند هوميروس، ولذلك يستطيعون المشاركة في الحروب بين البشر) على أنّ جبروتهم الروحي يعظم إلى ما لا نهاية متجلياً في العقل وفي معرفة كلّ شيء وإتقانه، ولئن كانت الآلهة الرئيسة مؤنثة في البداية، بحكم أنّ النّشاط الإنساني = الإلهي كان له صفة الطبيعة حينذاك- إنجاب الأولاد، فإنّ اللّوحة تغيّرت في ما بعد، بحيث أنّ المقام الأول أصبح من نصيب الآلهة المذكرة، والأبطال المعلمين الّذين يقيمون نظاماً عاقلاً على الأرض، ويعلمون النّاس المهن والأعراف والقوانين…إلخ. أي أنّ قوّة هذه الآلهة لم تعد طبيعيّة. بل اجتماعيّة، وأنّها العمل والعقل، وليس صعباً أن نرى في هذا التّطور الّذي عرفته صور العفاريت والآلهة نقلاً (اسقاطاً) لطريق المجتمع البشري من الطبيعة إلى الحضارة. من مرحلة النّظام الأموميّ Matriarchy إلى مرحلة النّظام الأبويّ Patriarchy، من صلات القربى الدمويّة إلى شبه الطبيعيّة داخل المجتمع إلى صلات العمل والصلات الإنتاجيّة. (45)
ولا يغرب عن البال بأنّ أسطورة أوديب تمثّل نوعاً من الأداة المنطقيّة الّتي تربط بين المسألة الأصليّة – ولادة الإنسان من واحد أم من اثنين- والمسألة المتفرّعة منها – ولادة الإنسان من المختلف أم المماثل. ومن خلال هذا الرّبط نجد أنّ الإفراط في تقدير صلات الرّحم يمثّل بالنسبة للـ(استهانة في تقديرها) ما تمثّله محاولة الفار من التّولد الذّاتيّ من الأرض بالنسبة لاستحالة تحقيق ذلك. ومع أنّ التّجربة تناقض النظريّة، فإنّ الحياة الاجتماعيّة تؤكّد مصداقيّة تصوّر كوني معيّن بما تبديه من تشابه معه في بنيتها، ممّا يعني أنّ التّصور الكوني صحيح. (46)
كذلك وفي مسار مقارب فإنّ كلّ الأساطير تقول الشّيء ذاته، وإنّما في أنّ محصلة ما تقوله كلّ الأساطير معاً لا يُقال بصورة واضحة من قبل أي منها، وأنّ ما تقوله على هذا النّحو مجتمعة هو حقيقة شعريّة تمثل تناقضاً غير مرغوب فيه، ويرى (كلود ليفي شتراوس): أنّ وظيفة الأساطير هي أن تُظهر للعلن مفارقات لاواعيّة من هذا النّوع، وإن يكن بشكل مموّه. (47)
لكنّ السّؤال الغريب هنا: كيف يعامل الدّماغ الموضوعات الخارجيّة وخصوصاً في الفكر الأسطوريّ؟.. إنّ الدّماغ في النّظام الفكريّ الذّي تشتمل عليه الأسطورة، وما للأشياء الخارجيّة من خصائص محسوسة كما لو كانت رموزاً في معادلة رياضيّة. إنّ ثمرة القرع هي آلة للموسيقى المقدسة تستخدم بالاشتراك مع التبغ الّذي تتصوّره الأساطير بصورة عنصر ثقافي تشتمل عليه الطبيعة، أمّا عند استخدامها لوعاء للماء والطعام، فإنّ هذه الثمرة تكون أداة للطبخ المدنّس، ووعاءً يحتوي منتجات الطبيعة، وبذا يشكّل مثالاً ملائماً لاشتمال الثّقافة على الطبيعة، وينطبق الأمر ذاته على الشّجرة المجوّفة، فهي كطبل أداة موسيقيّة تستخدم في الدّعوة إلى الاجتماع والاستنفار، وكلاهما دور اجتماعي بالدّرجة الأولى، أمّا حين يكون فيها العسل فإنّها ترتبط بالطبيعة، وبالثّقافة عن وضع العسل كي يتخمّر داخل جذع شجرة لم تجوّفها الطبيعة، بل جوفت صنعياً لتحويلها إلى جرن. وإذا كان ليفي شتراوس محقاً باعتقاده أنّ البدائيين يفكّرون على هذا النّحو فلا شكّ عندها أنّ فكرة فريزر – ليفي- برول – سارتر الّتي مفادها أنّ الفكر البدائي ساذج وطفولي وخرافي لن تكون في محلّها. ذلك أنّ بدائيي ليفي شتراوس راقون مثلنا تماماً، ولا يتعدّى الأمر استخدامهم نظاماً مختلفاً في وضع الرّموز والإشارات. (48)
نحن نفصل ما نراه من تلقاء أنفسنا، وذلك أمر يعمل عملاً جيّداً في بعض الحالات، ولكن عندما يقتضي الأمر في فهم العالم الداخلي وتوجيهه فإنّه لا يعمل، سواءً أكان عالمنا الدّاخلي، أم عالم الآخرين، ذلك أنّ كلّ فكر لا يجري طبقاً للمنطق الصوري، تمييزاً كلياً بين ما يتّصف به الشّيء وما لا يتّصف به، فكر غير عقلاني، ولكن كلّ حقل التّعبير الرمزيّ غير عقلاني عندئذ، مادام كلّ ما يميّز الرّمز أنه معاً هو ذاته وشيء آخر. ويجب أن ننظر إلى الفن مثلاً في قدرته على الصهر، أو عدم التّمييز بين الذّات والموضوع، بين الرّائي وبين ما يُرى، وعلى الفصل بينهما في ما بعد، وكونه يخصّب المادة الموضوعيّة للأنا، إذ يمنحها شكلاً، بالأنا – المحتوى النّفسي الذّاتي، فإنّه يجعل اللا-أنا (الواقعيّة) مدركة. (49)
لكنّ (فيغوتسكي) يرى أنّ الوظائف النفسيّة المتخلفة: أي المتبقيّة، شأنها شأن الأعضاء المتخلفة المتبقيّة، هي وثائق عن التّطور، وشهود أحياء على العصور القديمة، إنّ هذه الأعضاء غير الضروريّة، هي بحدّ ذاتها بقايا مثيلتها من الأعضاء الأكثر تطوراً، الّتي قامت بدور مفيد للأسلاف بالإضافة إلى أنّها برهان إضافي على أصله الحيواني. كذلك فإنّ هذه الوظائف النفسيّة المتخلفة المتبقيّة، هي دليل على أصل المنظومات العليا، وعلى صلاتها التاريخيّة بالطّبقات القديمة خلال تطوّر السّلوك، لذلك فإنّ دراستها يمكن أن تضعنا أمام معطيات هامّة من أجل فهم السلوك البشري. (50)
وفي نفس المضمار فإنّ ليفي –برول يقدّم الوظيفة المتخلفة المتبقيّة كانت في غابر الأزمان على جانب كبير من الأهميّة في منظومة سلوك الإنسان البدائيّ. وهذا يوضّح فكرة القرعة مثلاً في موقف للإنسان الحديث – الّتي لا وجود لها في سلوك الحيوان. (51)
تختلف البنية العليا عن البنية الدنيا في المقام الأوّل بأنّ الأجزاء المستقلّة تؤدّي وظائف مختلفة، ويجري توحيد الأجزاء في عمليّة كاملة على أساس العلاقات الوظيفيّة المزدوجة والعلاقات المتبادلة بين الوظائف، ويسوق (فيرنر) كلمات (غوته) الّذي يقول: إنّ الاختلاف بين الكائنات الحيّة العليا والدنيا يكمن في التّمايز الكبير للكائن الأعلى، فبقدر ما يكون الكائن الحيّ أكثر كمالاً تكون أجزاؤه أقلّ شبهاً بعضها ببعض، بالحالة الأولى يشبه الكلّ والأجزاء قليلاً أو كثيراً بعضها بعضاً، وبالحالة الأخرى يختلف الكلّ عن الأجزاء بصورة أساسيّة، وكلّما كانت الأجزاء يشبه بعضها بعضاً أكثر كان أحدها أقلّ تبعيّة للآخر، فالتبعيّة تعني علاقة أكثر تعقيداً بين أجزاء الجسم، وإلى ذلك يرى (فيرنر) جوهر التّطور في التّمايز المتزايد والتّمركز المرتبط به. (52)
كذلك يكوِّن الرّصيد الغريزي أو الفطري والوراثي من أساليب السّلوك المرحلة الأولى، وترتقي فوقها المرحلة الثانية الّتي يمكن أن نسمّيها: أي (فيغوتسكي) مع (بيولر): مرحلة التّدريب أو التّرويض، أو مرحلة المهارات أو المنعكسات الشرطيّة، أي الاستجابات الشرطيّة الّتي تستظهر وتكتسب من خلال التّجربة الشخصيّة، وأخيراً ثمّة مرحلة ثالثة تعلو البناء أكثر، وهي مرحلة الذّكاء، أو الاستجابات الذكيّة الّتي تؤدّي وظيفة التّكيف مع الشّروط الجديدة، والّتي تمثّل حسب تعبير (ثورندايك) التّرتيب المنظّم للمهارات الموجّهة نحو حلّ المسائل الجديدة. (53)