عُرف عن نابليون بونابرت الأول (1769-1821) كرهه للأطباء وتهرّبه من الخضوع للعلاج، علماً أنّه توفي بسرطان المعدة. لكن هذا لم يمنع من وجود أطباء مشهورين في خدمته خلال حياته. لعلّ الصدفة قادت كاتب هذه السطور إلى منزل أحد أحفاد الطبيب الأول لنابليون Jean–Noël HALLÉ (1754-1822)، حيث كانت مناسبة لتقديم إضاءة على حياة هذا الطبيب الّذي تميّزت عائلته بالعديد من المواهب والكفاءات العلميّة والفنيّة.
جان نويل أللي الّذي ولد في باريس هو ابن الرسّام المشهور نويل أللي (1711-1781) الفنان الّذي عمل مفتشاً في مصنع غوبلين للسجاد في باريس. ثمّ انتقل إلى إيطاليا الّتي كانت تشكّل حاضرة للفنون آنذاك، وأصبح مديراً لأكاديمية الرسم في روما في العام 1775. في هذه المدينة الإيطالية، بالتحّديد في دير مينيمز الفرنسي، تعلّم جان على يد والده في مدرسة الفنون الجميلة. وكانت لمسات الأب الفنيّة قد طالت العديد من اللوحات والأعمال الّتي زينت أبرز معالم فرنسا آنذاك، مثل بشارة القديس فنسان دي بول في فرساي، وزخارف سقف كنيسة l’ِAssomption في باريس، علاوة على صورة كامو دي بونتكاري (مستشار في برلمان باريس ومستشار للملك، وأول رئيس لبرلمان نورماندي). هذا البورتريه من مقتنيات متحف كارنافالي الباريسي.
عائلة موهوبة بالفنّ
في الواقع فإنّ الجدّ كلود غاي أللي (1652-1736) كان أيضاً فناناً مشهوراً، إذ كان أحد أهمّ من صمم زخارف قلعة مودون في مقاطعة هاوت دي سين، شمال فرنسا، وقلعة غراند ترينون الّتي بناها الملك لويس الرابع عشر في العام 1687 قرب فرساي. كذلك هو واضع لوحة “عيد البشارة” في كنيسة نوتردام، ولوحة تمثّل استقبال قاضي قضاة جنوى في قصر فرساي. كلود بدوره هو إبن دانييل أللي (1614- 1675)، الّذي قام برسم وجوه ولوحات لكنيسة سان أوين في مدينة روين، مسقط رأسه في منطقة النورماندي، شمال فرنسا.
المفارقة أنّ ابن العائلة الفنيةّ، وإن كان قد تعلم أصول الرسم على يد والده، بيد أنّه اختار الطبّ مهنة وبرع فيها لدرجة أنّه ساهم في وضع أبحاث متقدمة حول التّعقيم واللّقاحات وبعض الأمراض الأخرى الّتي كانت مُستعصية في عصره. بدأ جان نويل بدراسة الطبّ منذ العام 1770 وحصل على درجة الدكتوراة في العام 1777. في العام 1778 انضم إلى الجمعية الملكية للطبّ، كذلك عُيّن أستاذاً للفيزياء الطبية والصحية في كلية الصحة سنة 1794، وبعدها أستاذاً للطب في كلية فرنسا Collège de France وعضواً في أكاديمية العلوم الّتي أصبح رئيساً لها في العام 1813.
رائد النّظافة
في العام 1794، نظراً لتفوقه في عمله، منحه الكيميائي عضو المؤتمر الوطني، انطوان فرانسوا فوركروي (1755-1809) كرسي الفيزياء الطبية والنظافة في كلية الصحة في باريس الّتي كان أنشأها للتو. وبرع جان نويل في أبحاثه حول النظافة الطبية، فكان الأول في فرنسا الّذي يقدّم دروسًا في هذا المجال، في مدرسة Ecole Normale.
كذلك تم تعيينه عضواً في لجنة الكتب الابتدائية للتعليم الطبي. ووفقاً لمحاضراته في كلية دو فرانس، تمّ نشر كتاب، بعنوان “النّظافة، أو فنّ الحفاظ على الصحة”. وعمل رئيساً لتحرير الأعمال الكاملة لصموئيل أوغست تيسو، الّتي نُشرت في أحد عشر مجلداً بين 1809 و1813. ونشر في 1785 التحقيق في طبيعة وآثار النتانة mephitism.
إذن هو رائد النظافة الطبية، والمدافع المتحمس عن اللّقاح والطبّ الوقائي. وهو واحد من محرري قانون الأدوية الفرنسيّة، الّذي نُشر في العام 1813، ومساهماً في قاموس العلوم الطبية. درس آثار الكافور، سرطان الثدي، وتمكن من علاج شلل الوجه بالعلاج الكهربائي. في العام 1800، نشر تقريراً عن اللقاح، تبعه تقرير ثان في العام 1812، عن أدائه على الأراضي الفرنسية. وامتد مجال عمله إلى إيطاليا، حيث تم استدعاؤه في العام 1810، لتنظيم حملات صحيّة في مناطق لوكا وتوسكانا.
طبيب الإمبراطور الأوّل
مسيرة طويلة حفلت بها حياة جان نويل قبل أن يصبح الطبيب الأوّل لنابليون وقبلها للملك تشارلز الخامس (1757-1836). كذلك استدعاه الملك تشارلز العاشر لخدمته، حين كان يعاني من مرض خطير، كما عيّنه لويس الثامن عشر طبيبه الأول وجعله فارساً في النّظام الملكيّ الّذي أنشئ حديثًا للقديس ميخائيل. وحتى نهاية حياته، أظهر الملك له أكبر قدر من الاهتمام وأعلى تقدير.
كان جان نويل في العام 1804، قد أصبح الطبيب الخاص لنابليون والعائلة الإمبراطورية بأكملها وخصوصاً جوزفين آل بوارنيه الّتي كانت تكبر زوجها الامبراطور بست سنوات. لعلّ صداقته لطبيب نابليون السابق Jean-Nicolas Corvisart (1755-1821) قد ساهمت إلى حدّ كبير في وصوله إلى أعتاب البلاط، إذ أن كورفيزارت الذي توفي في نفس العام الّذي توفي فيه الامبراطور، كان يكن احتراماً كبيراً لجان نويل فعينه أولاً لمساعدته، ثم لخلافته. ومن المفارقات أن الأخير توفي في العام التالي لوفاة الرجلين.
اشتهر جان نويل بشجاعته في الدّفاع عن أنطوان لوران دي لافوازييه (1743 – 1794)، وهو كيميائي فرنسي من بين آباء الكيمياء الحديثة، كذلك فيلسوف وخبير اقتصادي، لكنّ صورته ارتبطت بتخفيض قيمة العملة وشجبته السلطات الثوريّة الّتي اعتبرته خائنًا للأمة وأعدمته في 5 مايو 1794. أثناء محاكمته انبرى جان نويل للدفاع عنه أمام المؤتمر الوطني الّذي شكلته خلايا الثورة الفرنسية آنذاك لمحاكمة من اتّهِموا بالخيانة.
كُتب عن أللي الكثير من المقالات الّتي أشادت بنشاطه وكرمه في خدمة الفقراء، وبكونه شخصية عملية لا تكتفي بالكلام بل تُجسّد مشوراتها ورؤيتها الإنسانيّة في الواقع لدرجة أنّه كان يعالج الناس المحتاجين مجاناً، فأصبح معروفاً بــ”طبيب الفقراء”. وكان يُكثر من التأمل والبحث خصوصاً في ظل المراحل الأولى للثورة الفرنسية، الّتي كانت تفرض على المرء التحلي بالحكمة. لتجاوز العاصفة الّتي غيّرت معالم الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في فرنسا جذرياً بعد قرون من هيمنة الكنيسة على السياسة. كانت مواهبه، كما ورد في بعض الكتب الّتي تناولت حياته، لا تُعد ولا تحصى.