كيف تُغذّي السياسة الأمريكيَّة في الشرق الأوسط ظاهرة الإرهاب؟([1]) رؤية إعلاميَّة نقديَّة لتعاطي الغرب مع قضايا الشرق الأوسط
قراءة في كتاب: داعش القادرة على كلّ شيء
منذ أن أعلن تنظيم داعش عن قيام الخلافة الإسلاميَّة في يونيو 2014، ثمَّ مبايعة أبي بكر البغدادي أميراً للمسلمين في أكتوبر من السنة نفسها، توالت في الغرب مختلف الكتابات والبحوث والشهادات حول ما أصبح يُطلق عليه الظاهرة الداعشيَّة، ومن أشهر العناوين التي صدرت في العامين الأخيرين: عودة الجهاديين، ظهور داعش والانتفاضة السنيَّة الجديدة للإعلامي والمراسل البريطاني باتريك كوكبورن، وحرب داعش للصحافيَّة الهولنديَّة المستقرّة في كوردستان العراق يوديت نورينك، والفينيق الإسلامي: الدولة الإسلاميَّة وإعادة رسم الشرق الأوسط للإعلاميَّة والمحللة السياسيَّة الإيطاليَّة لوريتا نابوليوني، ومن الحروب الصليبيَّة إلى الخلافة، الربيع العربي، الجهاد، الدولة الإسلاميَّةللمستعرب البلجيكي بيتر فان أوستاين، وغيرها كثير[2]. أقدّم في هذه القراءة رؤية الإعلامي هانس ياب ميليسن Hans Jaap Melissen من خلال كتابه داعش القادرة على كلّ شيء[3]، وهو يعتبر من أهمّ الوجوه الإعلاميَّة الهولنديَّة المتخصّصة في الإعلام الحربي وصحافة الأزمات، اختارته مجلة الوقت عام 2001 أفضل مراسل في الشرق الأوسط، وفي عام 2002 تمَّ تتويجه من قبل فيلا ميديا صحافيّ السنة، كما رُشّح كتابه هايتي، كارثة الصحافيين لأحسن عمل صحفي، وتمَّ اختياره عام (2015) صحافيّ العام في هولندا بفضل مؤلفه حول داعش الذي نحن بصدد قراءته، وقد اشتغل مع أغلب القنوات الهولنديَّة العموميَّة، وجال معظم مناطق العالم التي شهدت حروباً وأزمات سياسيَّة، ومنها الدّول العربية كفلسطين وليبيا والعراق وسورية ومصر. ولعلَّ الكتاب الذي بين أيدينا يقدّم صورة تقريبيَّة عن أسلوب إعلامي وخبير غربي ورؤيته وتعاطيه مع قضيَّة سياسيَّة تجري أحداثها في المنطقة العربيَّة، وتمتُّ بصلة وطيدة إلى الإسلام، وهي ظاهرة داعش التي قلبت التوازنات الأمنيَّة والاستراتيجيَّة رأساً على عقب، وتجاوزت تداعياتها ما هو محلي وإقليمي إلى ما هو دولي وعالمي، وما الهجمات التي كانت أكثر من مدينة أوروبيَّة مسرحاً لها في الآونة الأخيرة، إلّا ردود فعل على ما يحصل في المنطقة العربيَّة. ولا يكتفي هانس ميليسن في مؤلّفه بتوثيق جملة من الأحداث والقضايا التي عاشها بنفسه على أرض الواقع السوري والعراقي، بل يتجاوز ذلك إلى نسج وجهة نظر عميقة حول ظاهرة داعش، تختلف في أحايين كثيرة عن الرؤية التي تحملها الدوائر الرسميَّة الغربيَّة، وتروّج لها وسائل الإعلام المؤدلجة أو المستقلة.
إنَّ كتاب داعش القادرة على كلّ شيء يشكّل شهادة حيَّة نُسجت تفاصيلها في المكان عينه، من طرف صحافي مغامر لا يأبه بالمتاعب والمخاوف والمخاطر، فهو ينجو كلّ مرَّة بأعجوبة من اختطاف أو موت محقّق، في الوقت الذي تمَّ فيه الإعدام العلني والمباشر أكثر من مرَّة لمراسلين ومترجمين غربيّين ومسلمين تربطه بهم علاقات شخصيَّة حميميَّة. وقد توغّل هانس ميليسن عبر الحدود التركيَّة-السوريَّة نحو المناطق الساخنة التي تشهد اشتباكات دمويَّة عنيفة بين جيش الأسد النظامي والجيش السوري الحرّ الذي تنضوي تحته مختلف الميليشيّات، وذلك قصد التوثيق عن كثب لما يجري هناك، ومن ثمَّ تكوين صورة متكاملة تسعفه على استيعاب الظاهرة الداعشيَّة والكتابة حولها؛ "فجأة شهد العالم الحرفين: IS، حركة إرهابيَّة أعلنت في وسط فوضى العراق وسورية عن إقامة الدولة الإسلاميَّة. عمَّ الغرب الارتباك فتدخّل، غير أنَّه لم يستطع القضاء بسهولة على تنظيم الدولة. تُرى من هؤلاء الناس بالتحديد؟ وماذا يريدون؟ ومن أين جاؤوا"[4]؟ عبر أكثر من250 صفحة يحاول الكاتب الإجابة عن هذه الأسئلة الإشكاليَّة، ليس في مكتبه من وراء شاشة الحاسوب، بل من خلال تنقلاته الميدانيَّة المستمرَّة عبر مناطق الأزمات، ليس في سورية والعراق فقط، بل قبل ذلك بكثير في نيويورك مباشرة عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، حيث اشتغل منذ ذلك الزمن بظواهر الجهاد والتطرُّف والإرهاب قصد تفكيك هذه المعادلات العصيَّة على الفهم، وما حضوره في الشمال السوري أثناء انطلاق الثورة ضد الرئيس الأسد بزعامة جيش الثوار الحر إلّا استمرار لوجوده المبكر في العراق منذ حرب الخليج الأولى في مارس 2003. وهو يعتمد في مقاربته التوثيقيَّة/ التفكيكيَّة هذه منهج السرد الكرونولوجي للأحداث من جهة والنقد الموضوعي للمواقف الأمريكيَّة والغربيَّة تجاه منطقة الشرق الأوسط من جهة ثانية، مطعّماً إيَّاها بمختلف المعلومات المستقاة، سواء من الكتب المتخصّصة أو من أفواه الناس الكثر الذين التقى بهم أثناء تنقلاته التي لا تُحصى، وقد تمَّ توزيع الكتاب على ثلاثة فصول رئيسة: خُصّص الفصل الأوَّل لغزو العراق، في حين يتمحور الفصل الثاني حول ما يسمّيه الحرب الأهليَّة السوريَّة، أمَّا الفصل الثالث، فيعالج تأسيس تنظيم الدولة (الإسلاميَّة).
غزو العراق وجذور التطرُّف
يحاول الكاتب منذ البداية جاهداً استيعاب الظّاهرة الداعشيَّة من خلال التنقيب في جذورها وأسبابها التاريخيَّة والسياسيَّة، فهو يرى أنَّه مباشرة بعد هجمات11سبتمبر في 2001 شنَّت الولايات المتّحدة الأمريكيَّة بدعم من حلفائها الغربيين والمسلمين حرباً ضروساً على نظام صدام حسين، الذي قُدّم في الإعلام الغربي في صورة شبح مرعب، وخطر يحدق بالجميع شرقاً وغرباً، لا سيَّما من خلال أسلحة الدمار الشامل التي يملكها، ويمكن له أن يستخدمها في أيَّة لحظة. كما أنَّه تمَّ ربط النّظام البعثي العراقي بتنظيم القاعدة، وتمَّ الترويج لأسطورة التعاون بينهما قصد مواجهة الغرب! ويعتقد الكاتب أنَّ هذه الفرضيَّة الرسميَّة الغربيَّة مجرَّد أكذوبة لتبرير الحرب على العراق عن طريق إيجاد سبب أو أسباب مقنعة للرأي العام الغربي والدولي[5]. وهكذا تمَّ احتلال مجمل أراضي العراق والقضاء على النظام البعثي وإعدام الرئيس صدام حسين، غير أنَّه لم يتمّ العثور إلى حدّ اليوم على أيَّة أسلحة دمار شامل، ولم يتوصَّل الخبراء إلى وجود أيّ تنسيق ملموس بين نظام صدام وقاعدة أسامة بن لادن! ولعلَّ هذا ما يميّز ميليسن عن العديد من الإعلاميين الغربيين الذين انساقوا وراء الادّعاءات الأمريكيَّة دون أيّ نقد أو تمحيص، فكانت كتاباتهم مجرَّد صدى لما يتمُّ التخطيط له في كواليس الأجهزة الاستخباريَّة الغربيَّة، وتكاد تخلو من التفسير العميق لأسباب الإرهاب والمساهمة الجادَّة في طرح البدائل الممكنة لتجاوز الأزمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ عقود طويلة. وهكذا يذهب ميليسن إلى أنَّ سياسة الولايات المتحدة الأمريكيَّة وحلفائها في العراق هي العامل الجوهري في تغذية أسباب التطرُّف والإرهاب، وذلك عبر مختلف الإجراءات والسلوكات الجائرة التي سنَّتها أثناء مرحلة الاحتلال، كتجويع الشعب وتفقيره مثلاً عبر عدم توفير الحاجيَّات الأساسيَّة من ماء وكهرباء وتطبيب، وهذا ما تكشف عنه الكثير من شهادات المواطنين العراقيين، التي دوَّنها الكاتب آنذاك أثناء تغطيته للغزو الأمريكي لجنوب العراق، وهي تُجمع كلها على أنَّ ما قامت به الولايات المتحدة وحلفاؤها في العراق لم يكن تحريراً[6]. ومن بين الإجراءات التي يعتبرها الكاتب سخيفة، وهو ما أقدم عليه الحاكم الأمريكي في العراق بول بريمر لمَّا سرَّح كلَّ من ينتمي إلى حزب البعث، دون أن يأخذ بعين الاعتبار أنَّ العديد من العراقيين كانوا منخرطين في هذا الحزب، لأنَّ ذلك كان أمراً إلزاميَّاً في زمن الرئيس صدام حسين. ثمَّ إنَّ الضحيَّة الأولى المستهدفة بذلك الإجراء هي الشريحة السنيَّة التي كان ينتمي إليها صدام نفسه، ما جعلها تحتجُّ بشكل مكثف ضدَّ ذلك القرار. وأكثر من ذلك، فقد تلا عمليَّة إطلاق السجناء إجراء أخطر، وهو تسريح الجيش العراقي برمَّته قصد تأسيس جيش جديد ونظيف، دون أن يدرك المخطّطون الأمريكيون أنَّ مئات الآلاف من الرّجال المسرَّحين، الذين يتقنون فن القتال، سوف يصيرون بلا عمل، بل ما يزالون يحتفظون بالسلاح[7]. وفضلاً عن ذلك، لعب الصراع الشيعي السنّي دوراً أساسيَّاً في نشوء احتقانات وتوتُّرات داخل المجتمع العراقي، وسوف يتعمَّق ذلك أكثر أثناء فترة حكم المالكي الشيعي، الذي استبعد السنَّة لعدم الثقة بهم. وهكذا أدَّى تنامي مشاعر الخوف بين أوساط المجتمع، لا سيَّما في بغداد، إلى هجرة الكثير من الشيعة للاستقرار في الأحياء الشيعيَّة[8]. وقد ترتَّب عن هذه الأجواء المشحونة قيام مقاومة عنيفة من قبل السنَّة في الكثير من المناطق العراقيَّة، سواء ضدَّ الوجود الغربي أو ضدَّ حكومة بغداد المتواطئة معه، وسوف تتعزَّز هذه المقاومة بالجهاديين المتشدّدين الذين عادوا من حرب أفغانستان، فوجدوها فرصة سانحة لمواجهة القوات الأمريكيَّة والغربيَّة تحت قيادة أبي مصعب الزرقاوي، الذي أصبح زعيم جناح القاعدة في العراق منذ 2004. ويعتبر ميليسن أنَّ هذا الجناح المسلّح سوف يتطوَّر لاحقاً بعد مقتل الزرقاوي في 2006 إلى الدولة الإسلاميَّة في العراق، التي بدورها سوف تتحوَّل في 2014 إلى ما يعرف اليوم بالدولة الإسلاميَّة[9]. الحرب الأهليَّة السوريَّة وظهور داعش
قبل الظهور الرّسمي لتنظيم داعش كانت المنطقة العربيَّة قد شهدت موجة من احتجاجات ما يعرف بالرّبيع العربي منذ عام 2011[10]، التي ترتَّب عنها سقوط بعض الأنظمة العربيَّة الاستبداديَّة أمام الإرادة الشعبيَّة التي لم تقهرها لا الدّبابات ولا الطائرات، ما زرع مشاعر التفاؤل بغدٍ أفضل لدى شعوب المنطقة التي بدأت تهيّئ نفسها لولوج مرحلة الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، غير أنَّ الحالة السوريَّة كانت منذ الوهلة الأولى عصيَّة على التفكيك، فاستحال الربيع خريفاً، وتساقطت أوراق الأشجار، لتعمَّ البلاد فوضى عارمة أنتجت حرباً أهليَّة دمويَّة تعدَّدت أطرافها، إلّا أن تنظيم الدولة سوف يكون الطرف الرئيس فيها[11]. وفضلاً عن الأسباب التاريخيَّة الآنف ذكرها، فإنَّ نظام الأسد أدَّى دوراً جوهريَّاً في صناعة الإرهاب وزرع بذور التطرُّف؛ يشير ميليسن إلى أنَّه تمَّ أثناء بدء الثورة السوريَّة إطلاق سراح العديد من المتطرّفين من السجون، وهو أمر يبدو في شكل عمل إنساني قيّم، غير أنَّه في الباطن عمل انتهازيّ، لأنَّ الأسد كان يتوقَّع أن يتكتل أولئك المساجين المتطرّفون في طوائف مختلفة، فيخادع العالم بأنَّه يواجه القاعدة[12]. وفي مقابل ذلك، يتساءل ميليسن على لسان أحد شخوصه حول سبب عدم مبادرة الغرب إلى مساعدة الجيش الحر السوري كما حصل في ليبيا: "أنا لا أفهم موقف المجتمع الدولي، فهم يقولون إنَّ البلاد سوف تعمُّها الفوضى بمجرَّد سقوط الأسد، لكن لماذا سوف يحدث ذلك؟ يمكن أن نتعايش بشكل جيّد مع المسيحيّين وأيضاً مع العلويين أنفسهم، إذا لم تتلطَّخ أيديهم بالدّم"[13]. في خضم الفوضى التي شهدها السياق السوري منذ انطلاق الاحتجاجات التي واجهها نظام الأسد بالحديد والنار، لن تمرَّ إلّا بضع سنوات ليعلن أمير القاعدة في العراق عن ولادة تنظيم داعش، وبالتحديد في 8 أبريل 2013، وفي 29 يونيو 2014 سوف يتمُّ الإعلان الرّسمي عن تأسيس الدولة الإسلاميَّة في الأراضي العراقيَّة والسوريَّة التي توجد في قبضة التنظيم بزعامة الخليفة أبي بكر البغدادي. وقد خصَّ ميليسن صفحات للتعريف بمختلف جوانب هذا التنظيم التاريخيَّة والإيديولوجيَّة والتنظيميَّة. فهو يعتقد أنَّ البغدادي يطرح من خلال إعلانه عن الخلافة نموذجاً مصغَّراً لطبيعة الدولة الإسلاميَّة المستقبليَّة، وما يثبت ذلك هو اعتماده أحكام الشريعة الإسلاميَّة (الإعدام، الصلب، منع التدخين ...) حسب تأويله الخاص[14]. ثمَّ إنَّ خطبته التي ألقاها في المسجد الكبير بالموصل، والتي تضمَّنت أخطاء فقهيَّة متنوّعة تنمُّ عن عدم تمكّنه من معرفة الدين الإسلامي، تشير إلى الخليفة الأوَّل أبي بكر الصديق، وكأنَّه يريد بذلك أن يموضع نفسه في خطّ الخلافة الإسلاميَّة كما أرسيت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا يعني بداية انتفاء الحدود بين دول العالم الإسلامي، وتحقيق مفهوم الأمَّة الإسلاميَّة الموحَّدة. وقد جاء في شريط فيديو تحت عنوان: نهاية سايكس بيكو، أنَّ الحدود السائدة اليوم في الشرق الأوسط كانت حدوداً استعماريَّة، فسايكس بيكو هو اسم الاتفاقيَّة التي عقدتها بريطانيا وفرنسا أثناء الحرب العالميَّة الأولى لترسيم الشرق الأوسط[15]. وسوف يسعى تنظيم داعش بمختلف أجهزته العسكريَّة والإعلاميَّة إلى ترجمة مشروع الخلافة على أرض الواقع، وتنزيل أفكار زعيمه في شكل نظم وأحكام في المناطق التي يهيمن عليها، ولن يتأتَّى ذلك إلّا بواسطة استراتيجيَّة سياسيَّة وحربيَّة تنطبق على طبيعة الإيديولوجيا المذهبيَّة التي يتبنَّاها التنظيم، ويرى ميليسن أنَّ هناك تشابهاً كبيراً بين الاستراتيجيَّة المتَّبعة من قبل تنظيم الدولة وما ورد في كتاب إدارة الأعمال الوحشيَّة الذي ظهر في شبكة الإنترنت العالميَّة في 2004، ويركّز على آليَّات العنف وزرع الخوف وحرب العصابات لبناء مشروع الخلافة، فالعنف عنصر جوهري في الطريق نحو تحقيق الخلافة، وتخويف العدو أساسي في جعله يسعى إلى الصلح الذي لا يقبله المتطرّفون، وهذا ما يخلق الارتباك لدى العدو. ثمَّ إنَّ الجيش الذي يتمركز في موقع واحد يفقد التحكّم، في حين أنَّ الجيش الذي ينتشر يفقد فعاليته، لذلك ينبغي البدء بالعمليَّات الصغيرة التي بمجرَّد ما تنجح تفسح المجال لعمليات أكبر[16]. وغير ذلك من أساليب المواجهة الميدانيَّة والحرب النفسيَّة التي يقترحها هذا الكتاب. أمريكا وتغذية التطرُّف
يشدّد الإعلامي ميليسن في مواضع مختلفة من الكتاب على الدّور الأمريكي في تغذية التطرُّف ونشوئه، وهذا ما ينطبق على حالتي القاعدة وداعش، فإذا كانت تقوية المجاهدين الأفغان في الماضي عن طريق التمويل والتسليح ضدّ الدبّ الروسي قد أدَّت إلى ظهور تنظيم القاعدة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فهذا ما سوف يتكرَّر بسبب غزو العراق من طرف أمريكا وحلفائها، الذي أوجد المناخ المناسب لنشوء القاعدة، وفيما بعد تنظيم الدولة. بل إنَّ دور الأمم المتحدة لم يتعدَّ ما هو نظري، لذلك فإنَّ العديد من السوريين يعتقدون أنَّ هدف التدخل الأجنبي هو إضعاف سورية الذي هو في صالح إسرائيل[17]. ولا يقف ميليسن عند هذا الحد، بقدر ما يذهب إلى أنَّ إشكاليَّة الشرق الأوسط أكبر ممَّا يُتصوَّر، فهي لا تتعلق بأزمة العراق وسورية فقط، بل هناك قضايا أعظم سوف تفضي إليها الأيام القادمة، "فالمنطقة تهتزّ وترتجف وتتمزَّق، وهذا أكبر من داعش نفسها. إنَّها تمزُّقات عارمة بحجم صفائح تكتونيَّة سياسيَّة واجتماعيَّة سوف تؤدّي إلى تحوُّلات مختلفة. فالذي قامت به داعش هو إلغاء الحدود بين العراق وسورية كما هي محدَّدة في اتفاقيَّة سايكس بيكو، وهذا لا مفرَّ منه. فهذه الحدود تخضع لمنطق يتناسب والمصالح الاستعماريَّة الفرنسيَّة والبريطانيَّة قبل قرن من الزمن. فهم لم يأخذوا بعين الاعتبار مثلاً القبائل العراقيَّة والسوريَّة التي تشمل أعضاء لها على كلا الطرفين من الحدود الجديدة بين ذينك البلدين"[18]. وهذا يدلُّ على أنَّه من الأفضل لأمريكا وحلفائها أن يتجاوزوا مجرَّد التفكير في تنفيذ عمليات عسكريَّة لاكتشاف محاربي التنظيم والقضاء عليهم. بل يجب التركيز على العوامل المغذّية التي تجعل المجموعات المتطرّفة مثل داعش تصير أكبر بشكل سهل وسريع. وتتحدَّد هذه العوامل المغذّية فيما هو داخلي، كالأنظمة الاستبداديَّة في الشرق الأوسط التي تضطهد فئة كبيرة من المجتمع، وعادة ما تتلقّى الدعم من الغرب. فالمسلمون السنَّة في العراق وسورية على سبيل المثال يجب أن يردَّ لهم الاعتبار، ثمَّ انعدام فرص الشغل والتقسيم غير العادل للعمل. وفيما هو خارجي، كالتدخّل الأمريكي في العراق وأفغانستان الذي كان المواطنون الأبرياء ضحيَّته، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ثمَّ سجن غوانتانامو الذي لم يفلح الرئيس أوباما في إغلاقه كما سبق أن وعد[19]. بناء على ما سبق، يمكن القول إنَّ كتاب داعش القادرة على كلّ شيء يحمل رؤية تختلف، بشكل أو بآخر، عمَّا هو متداول في العديد من الإصدارات الغربيَّة حول قضايا الربيع العربي وداعش والإرهاب، لا سيَّما من حيث المنهج المعتمد الذي يتَّسم بالنقد الموضوعي لجملة من السياسات الأمريكيَّة في منطقة الشرق الأوسط، التي يعتبرها ميليسن المسؤول الأوَّل عن نشوء التنظيمات القتاليَّة كالقاعدة وداعش، وخلق فوضى عارمة في المنطقة ترتَّب عنها دمار بلدان بأكملها ونزوح ملايين اللّاجئين نحو الشمال والغرب. ولا يمكن إذن تشخيص ما يحصل في الشرق الأوسط بشكل موضوعي، ومن ثمَّ استيعابه في انفصال عن الحرب الأفغانيَّة السوفياتيَّة والصّراع الإسرائيلي الفلسطيني وغزو العراق، وفي غياب مثل ذلك التشخيص والاستيعاب لن يتأتَّى تجفيف ينابيع الإرهاب الطَّائفي والرَّسمي بشكل نهائي، كما يحلم الغرب وحلفاؤه.