الزملاء الأعزاء
تحيّة طيّبة
أعمل حالياً على تأليف كتاب ( حول نشأة اللغات الإنسانية وآلية تطورها وما
طرأ عليها مِن تطورات تختلف باختلاف الجغرافيا والواقع الاجتماعي لكُل أمة
مِن الأمم " وما حرّضني على البدء بتأليف هذا الكِتاب الذي وإن امتد
العُمر بي ربما أستفيض به ليكون مجموعة مجلدات لتنير عقول الناس وليتخلوا
عن العنصرية والتحيّز القومي والديني الأعمى الذي أنهك الجنس البشري لآلاف
السنين
وسأقدم لكم جزءاً يسيراً مما أرغب في نشره على شكل كِتاب في المستقبل القريب
تطوُّر اللغة منذ الطور الأكادي اللغة الأكادية وكتابتها لم تعرف أبجدية الحروف الحالية وكانت المفردة
أصغر الوحدات اللغوية، وعُرّفت الكتابة الأكادية بأنها مقطعية تصويرية
وشكّل الحرف الأبجدي المعروف اليوم ستة مقاطع فقد كان حرف الدال الحالي
على هيئة ستة مقاطع هي:
أّدْ ، أُدْ ، إِدْ ، دَاْ ، دُوْ ، دِيْ,
وكذلك كانت كافة الحروف على نفس الترتيب، تارةً تأتي الحروف الصوتية الثلاثة (ا، و، ي) لاحقة وتارة سابقة له.
والمقطع الأكادي هو مفردة وكلمة مستقلة بذاتها فكان المقطع:
أّدْ: يعني قدم لاحظ العامية (أَدَمْ) ويصوَّر على شكل مسقط باطن القدم على الأرض مع تفاصيل الأصابع الواضحة.
إِدْ: " إيد أو يد في اللهجة العامية " ويكتب تصويراً على شكل قبضة يد مع
الساعد "في حين الهيروغليفية يكتب فيها حرف الدال "د" ويصور على هيئة ظاهر
الكف حتى الرسغ بقبضة مفتوحة".
ولنقارن مؤقتاً هذا المقطعان مع اللهجة الحالية فإنّ إد هي اليد وكذلك
اشتقاقاتها أداة وإدَّة وأدى، فالأداة ما تستعمله اليد والأداء هو العطاء
من يد إلى يد ولنقارن بقية أعضاء الجسد مثلك قد ـ جلد ـ دم ـ يد ـ أدَم ـ
قدم ـ أدمه .......
فالمقطع الأكادي هو مفرده، ويمكن للمفردة أن تتكون أيضاً من مقطعين أو ثلاثة.
ومن خلال هذه الملاحظات والتي سنرى أمثلة كثيرة جداً عنها خلال البحث يمكن أن نستنتج:
من الناحية الشكلية: كل مقطع أكادي مكوّن من حرفين أحدهما صوتي الأول منه متحرك والثاني ساكن وعروضياً هو ( َ ْ ).
وبذلك فإنَّ أي محاولة لتركيب مفردة أو جملة أو نص أكادي سيكوِّن سلسلة هندسية عروضية هي على التوالي:
حركة /سكون/ حركة/ سكون/ حركة/ سكون ....
واللغة الأكادية ذات بنية عروضية على وزن واحد وتفعيلة واحدة هي فعلن
فعلن.... وهي طور شعري لا يحوي النثر فالنثر الأكادي موزون كالشعر ويختلف
معه في القافية فقط.
وإذا كانت اللغة العربية لا تسمح بنيتها اللغوية بالتقاء الساكنين فالطور
الأكادي إضافة إلى ذلك لم يسمح بالتقاء المتحركين وهي بنية متطورة عن
(التهجئة) أما عن هذا الوزن فقد احتفظت به الأغاني الشعبية التراثية ذات
الامتداد الكنعاني ونلاحظ أنها على وزن فعلن نفسه فقط مثل:
عَاْ ، لَاْ / دَلْ ، عُوْ/ نَوْ ، عا / لَاْ ، دَلْ / عُوْ/ نَاْ/
َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ
جَفْـ، رَوْ/ يَ اْ ، هَرْ / رَاْ، بِعْ/
َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ
يَ اْ ، زَاْ / رِيْ ، فَطْ / طُوْ ، وُلْ/ يَ اْ ، بُلْ/ مِيْ ، جَاْ / نَاْ .......
َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ
وأتوقف هنا عند حرف الواو في مفردة طول التي تلفظ غنائياً بواوين مما
يستدعي الحديث عن حروف المد، فالأكادي الذي يحوي كل مقطع على حرف مد من كل
حرفين يعني هذا أن حروف المد تشكل نصف حروف القاموس الأكادي تماماً والتي
تضاءلت في الكنعانية مع وجود الحرف المجرد من الحروف الصوتية والكنعانية
(الفينيقية) التي أوجدت الحروف المجردة من الصوتيات وظهر الحرف لأول مرّة،
كأصغر وحدة في اللغة التي تخلت ـ كتابياً ـ عن حروف المد فإنها لفظاً
احتفظت بحروف المد هذه بصورة أقصر وهي الحركات القصيرة (الفتحة والضمة
والكسرة) ولم تُدون هذه الحركات.
وفي الكتابة الإنجيلية (الآرامية الفلسطينية المسيحية) حدث فيها ما يشبه
التطور اللغوي في التدوين خلال العصر الإسلامي حفاظاً على دقة النصوص
الدينية فأوجدت الآرامية المسيحية السورية (السريانية) تدوين الحركات
القصيرة التنقيط ,وهكذا كانت العربية قد أخذت بكل هذه الاكتشافات السابقة
وأضافت أشكال أخرى مثل كتابة الهمزة والشدَّة وأصبحت بهذا الشكل الحالي.
وبالعودة إلى الصوتيات والتي تعود إلى النشوء الأول للغة فقد كانت لغة
الإنسان الأول وقاموسه هي الصوتيات، وكانت المفردة الواحدة تحمل أكثر من
معنى تختلف معانيها حسب طريقة أداء اللحن (الغناء ـ والطريقة التعبيرية
الصوتية الحسية) مازال بعضها مستعملاً فإن كتابة مفردة (آه) تختلف بطريقة
لفظها ويمكن أن تعني الحزن أو الفرح أو الحسرة أو الإعجاب تدل عليها طريقة
التصويت واللحن وما زالت أيضاً بعض الترنيمات والمفردات من هذه الصوتيات
في أغانينا مثل: أوف ـ أو يهه (الزغرودة) وخلال عمليات التطور فقد خضعت
هذه الصوتيات إلى اختصارات مثل ما حدث من الأكادية إلى الكنعانية التي
احتفظت بنوعين من حروف المد هي الحرف الطبيعي (ا ، و ، ي) والحركات
الصوتية القصيرة (فتحة ـ ضمة ـ سكون) فإنها في اللغة الأكادية عرفت نوعاً
آخر من حروف المد هو المد الطويل ناتج عن التقاء مقطعين ينتهي الأول بحرف
صوتي والثاني يبدأ بنفس هذا الحرف مثل: با ـ اب.
هذا ما ترك أثره واضحاً في همزة المد التي هي بالأصل تكرار الحرف الصوتي وهكذا تكتب الأكادية كلمة با اب التي هي باب حالياً.
وهذا المد الطويل والطبيعي والقصير ترك أثره في أحكام التجويد في أزمان
(2ـ4ـ6) فلا تلفظ الألف في سماء (سمااء) كما هي في طابع أو يلفظ حرف الواو
في داوود (داود) كما هو في سوء .... وبذلك نعيد قراءة مقطع إنانا الوارد
سابقاً حسب لفظه (العروضي):
صِ يْ غَ رْ تُ وْ شُ مْ يَ اْ أَ لْ (12 حرف)
هـَ رْ مَ كْ مَ نْ طَ اْ بَ اْ إِ لْ (12 حرف)
ب تْ صِ بْ أَ هْ خَ اْ شُ وْ إِ لْ (12 حرف)
مَ اْ خَ صْ شُ شْ إم خَ تْ ي لْ (12 حرف)
فعلن فعلن فعلن
ونلاحظ أن هذا التكرار للقافية (ل) وكل سطر هو بيت شعر مكون من 12 حرف كما
أن الوزن الواحد فعلن هذا التكرار في القافية وتكرار عدد الحرف وتكرار
الوزن فعلن هي تكرارات لا أستطيع أن أتقبل تعليلها بالمصادفة.
لقد ذكرت أهم ما حدث من تغيرات في عملية التطور اللغوي التي استغرقت زمناً
طويلاً بلا توقف وإن كانت هناك وقفات تطورية بارزة كما هو معروف مثلاً في
مرحلة تدوين القرآن والإنجيل، وهذا التطور حدث بشكل طبيعي وهو أعقد بكثير
مما عرضته في صورة مبسطة عن آلية التطور التي تحتاج بحوث وسلسلة من
المجلدات حولها، ولما لم يكن غاية هذا المدخل سوى التأكيد على نقطة واحدة
هي أن جُملة اللغات الشرق أوسطية كانت مِن منبع واحد " اللغة الأكادية "،
واعتبر كل طور منها لغة أو لهجة مستقلة بذاتها فنحن أمام حضارة واحدة ولغة
واحدة مرّت بأطوار حضارية ولغوية عديدة.
ونستطيع أن نلخص البنية اللغوية الشكلية بأنها مرّت بأطوار عديدة واحتفظت
اللهجة العاميّة بكثير من خصائص أطوارها القديمة الأكادية والوسيطة
الكنعانية الآرامية.
أما من ناحية المضمون ومعنى المفردات فقد لاحظنا من جهة تشابه الحروف
والضمائر في الطور القديم مع الوسيط من خلال نصوصها الأثرية مع الضمائر
والحروف في اللغة العربية واللهجات المحلية على اختلافها وسأتحدث عن بعض
المفردات وطريقة انتقالها من الأكادية إلى الكنعانية إلى العدنانية اختار
أسماء الآلهة لتكون دليلاً لغوياً هنا أكثر مما هو بحث أسطوري وتكون بنفس
الوقت مدخلاً لبحث أقوم بإعداده عن (آلهة بلاد الرافدين وأساطيرها) وهذا
الموضوع سيكون بحدِّ ذاته بحث في الأسطورة وأمثلة عن مفردات الأكادية
وتطوراتها وتفرعاتها وأختار هنا الإله الأكادي "أبكالو" على سبيل المثال
وهو في المعاجم والقواميس إله مجهول المصدر (ولهذا اخترت المجهول!) ويعني
مخلوقات مركبة ويظهر في المدائح الإلهية وخاصة الآلهة انليل /مردوخ /
نابو.
والإله أبكالو هو جملة من ثلاث مقاطع أكادية ( أب ـ كا ـ لو) وسنرى في كل
مقطع (مفردة) ومعناها الأكادي، وكتابتها التصويرة ومقارنتها مع المعنى
اللهجة الحالية:
آب: تعني بالأكادية النبات وترسم على شكل نبات الفطر وهي تعني أيضاً في
القواميس العربية الحالية (المرعى) وفي اللهجة آبَّ الشيء أي نما.
كا: يصور هذا المقطع مقابل رأس إنسان جانبي مشطوب عدا الفم له وظيفة
الكلام (قال) ويكون كا = قا وبإضافة لام إيل (التي نراها كثيراً في مفردات
الكنعانية والآرامية) وهي اختصار إل = إيل وقد مرّت في نص نزول إنانا
السابق وهذا يستدعي ذكر المقطع المشابه له والذي يعني الوظيفة الثانية
للفم (الطعام) وهو:
كو: ويصور بنفس صورة كا مضافاً إليه صورة صحن طعام أمام الفم وعلى الشكل
(وهنا لا بد أن نشير إلى حرف ك في الهيروغليفية يصور صحن طعام ) وبإضافة
لام ايل إلى كو فهو كول وهي اللفظة العامية الحالية تماماً أمّا العربية
مع ملاحظة اختصار الحروف الصوتية في العصر الوسيط الكنعاني فهي كُل= كول
وهو فارق في حرف المد ما بين القصير والطبيعي.
أما المقطع الأخير لو: فهو يصور إنسان ويعنيه ونحن نستخدم هذه المفردة في
لهجتنا الحالية عندما يَنْهر شخص آخر ويحذره ويقول له (ولو) أي (يا بني
آدم) ويا إنسان.
ويصبح المعنى الحرفي للجملة اب ـ كا ـ لو هو: نبات ـ أكل ـ إنسان أي/
النبات الصالح للغذاء الإنساني، وكان في هذه المرحلة من الضروري تصنيف
النبات الصالح للإنسان عن غيره واعتقد أن هناك أكثر من تصنيف لنبات الآلهة
(البخور واللبان) ونبات الحيوان العاشب (أباسون) ونبات الشياطين وهو
النبات السّام ونبات الطيور وهو الحبوب ونبات آلهات الشفاء الذي ما زال
الطب الشعبي يستخدم معظم أعشابه ولنا تفصيل حولها لاحقاً في موضوع آخر "
إن أتيح لي الوقت " .
وإذا كنا شرحنا كيفية تطور المقاطع إلى حروف من الأكادية إلى الكنعانية
فإنّ أبكالو بتجريده من حروفه الصوتية هو كنعانياً " بَكَلَ " أي بَقَلَ
التي أصبحت في اللغة العربية البقول كما أن اسم نبات البقلة ما زال حالياً
وهو ليس من الحبوب، وما حصل من اختزال رائع من جملة اب ـ كا ـ لو إلى
مفردة هو أهم مميزات اللغة وخصائصها خلال تطورها وسنعود إلى ابكالو قليلاً
بعد أن نتحدث سريعاً عن مثال آخر هو الإله نينجرسو ويعني مقطع نين أنه
السيّد ونرفع الكلفة والألقاب لنتعرف على جرسو الذي يعرّف بأنّه إله خصب.
ونلاحظ من مطابقة اللفظ ووظيفته الإخصابية بأن يقابل اللفظة العربية
الحالية غرسو (غرسة ـ غراس) كما تقابله اللفظة الإنكليزية Grass والتي هي
العشب وهو لا يحتاج إلى جهد كبير للتعرف إليه إلا أن اليونانية استبدلت
اللقب سيد (نين) إلى لقب عربي آخر هو (مار) وهو من مر ومرأة ومروءة وأضافت
أيضاً التابعة الملحقة us (يوس) إلى جرسو وأصبح مارجريوس الذي هو في
التراث الإسلامي " الخضر" على ما أعتقد
ولهذا هو يرد في مدائح الآلهة مردوخ ونابو لأن هذين الإلهين من أشهر آلهات
الخصب المعروفة في ديانات وأساطير العالم فعلى الإنسان أن يشكر هذه الآلهة
المعطاءة في مدائحه وأغانيه.
وليكون لنا مدخلاً للفقرة التالية نعود إلى أبكالو، ومقطع أب الذي يعني
النبات فهل الكنعانية عندما تخلت عن الحرف الصوتي كتابة وجعلته حرفاً
متحركاً بالمد القصير وأصبح بَ .... فهل هذا الحرف المجرد ظلّ عالقاً
بالصدفة كأول حرف في أسماء النباتات والخضار مثل:
بندورة ـ باذنجان ـ بقلة ـ بامية ـ بازاليا ـ (بطاطا) ـ بقدونس... علماً
بأن هناك مجموعة أخرى تبدأ بحرف الفاء فول ـ فاصوليا ـ فليفلة ـ فرفحينة
.... ولأنني لم ولن استخدم ما سمح أصحاب علوم اللسانيات لأنفسهم في القلب
والاستبدال واعتبارهم لأن حرف الباء = الفاء فإنها المرّة الوحيدة التي
استند فيها إلى ذلك نظراً لاستعمال هذه القوانين للتشويه والتعمية في كثير
من الأحيان.
وهل استمرار حرف الباء في أسماء النبات يشبه تكرار حرف الدال سابقاً في أسماء أعضاء البدن.... ؟
هذا السؤال هو موضوع الفقرة التالية.
التوابع " اللواحق والسوابق "التابع هو مقطع يتكرر في مفردات كثيرة وهذا التابع يعني ميزة واحدة في
جميع هذه المفردات المختلفة المعاني مثل حرف النون في بداية الفعل المضارع
الذي يدل على نحن نأكل والنون هي تعني نحن في أي فعل باختلاف معاني الفعل،
كما هي ياء المضارع (هو) وتاء المضارع (هي) .....
وبذلك يختصر التركيب من (ضمير منفصل + فعل) إلى مفرده، ويمكن أن يكون
التابع في نهاية المفردة مثل تاء التأنيث التي تدل في نهاية المفردة على
تأنيثه.
وإذا كان التابع في بداية المفردة فهو من السوابق، ويكون من اللواحق إذا جاء في نهاية المفردة وسأتناول مثال بسيط
اللاحقة (تو):
في الأسطورة الأكادية التي فيها آن ـ كي (السماء ـ الأرض) والذين أول من
ظهرا في التكوين زوج وزوجة فإن كي ترد باسم آخر هو أنتوم( ) حيث يصفها
القاموس بقرينة آن فتكون (آن ـ توم) والأكادية التي تُقرأ فيها مفردات
الجملة من اليسار فهي توم ـ آن وكلمة توم هي لهجة حالية وفي العربية هي
توأم ومن هنا القرينة
يتبع في موضوع آخر
شكراً على القراءة