مقدمة:
يعيش العالم المعاصر ثورة تكنولوجية هائلة جعلتنا نشهد ميلاد مجتمع الشبكة (société en réseaux) الذي انفتحت فيه عوالم الممكن للتثاقف وتتفق مع حراكيات بشرية انسيابية تتحدى حدودها الجغرافية والثقافية لتنسج الروابط وفق اعتبارات أكثر تحررا من المألوف الجماعي والقرابة، ورغم تطرق العديد من الدراسات إلى هذه التحوّلات، إلا أنّها ركزت اهتمامها على التحوّلات التكنولوجية في بعدها الماكروسوسيولوجي وأغفلت الميكرو سوسيولوجي؛ بمعنى آخر انطلقت من مفاهيم كبرى وهلامية مثل العولمة والرأسمالية الثالثة والثورة التكنولوجية كمدخل لملامسة الآثار الاجتماعية للوسائط التكنولوجية. هذا هو محكّ الجدّة والجدارة والمشروعية الذي يجعلنا ننطلق من الفايسبوك كوسيلة تواصل افتراضية قادرة على تجاوز نسقية حدود الزمان والمكان، وتجاوز إلزامية الحضور الفيزيقي لأطراف التواصل الاجتماعي، لفهم تأثيراتها على الشباب. التطرّق إلى هذه المسألة سوسيولوجيا يجعلنا نكشف المستور عن الفايسبوك، لأنّ هذا الأخير لا يخلو من رهانات واستراتيجيات فاعلين أرادوا من خلال هذه الواسطة الافتراضية بلورة مقاصد وغايات. ومؤدى هذا الموقف أن نتجنب القبليات الفكرية ونمارس الحيطة تجاه بعض الأحكام المسبقة التي تخفيها سرديات الحداثة الكبرى (الفايسبوك أداة تواصل، علامة من علامات التحضّر والتقدّم، ضروري...) كي لا نكون ضحيّة لذلك "لأنّ التحليل قد يكشف أنّ ما نحسبه من طبائع الأمور هو نتاج ثقافي مصنوع، وما نظنّه بداهة قد يكون مجرّد معتقد أو فرض لا برهان عليه وما نظنّه معقولا قد يكشف عن أغرب أنواع اللامعقول"[1]. لذلك، سنحاول جاهدين كشف خفايا العلاقة الارتباطية بين الشباب والفايسبوك ووضعها على مشرحة التحليل والتفكيك على سبيل الفهم والتشخيص. - اقتباس :
أمام واقع مأزوم تسوده البطالة والفقر، فإن الشباب كذوات فاعلة لن تخضع لإملاءات النسق وترضى بالتخوم، بل تسعى إلى تدبّر أمورها وحلّ مشكلاتها
أوّلا: التأسيسات النظرية والمنهجية
1. إشكالية وتساؤلات الدراسة:
سنولي اهتمامنا بدراسة العلاقة الارتباطية بين الشباب والفايسبوك، باعتبارها تجربة اجتماعية ذات دلالات ومقاصد، ولعبة تفاعلية لا تخلو من رهانات ومسرحة واستراتيجيات. هذه العلاقة وإن تعدّدت مشاربها غير أنها يمكن أن تحوصل في التساؤلات التالية:
كيف يتمثّل الشابّ الفايسبوك؟
وما هي جملة الرهانات والاستراتيجيات التي توّجه الشاب في الفضاء الفايسبوكي؟
2. المفاهيم الاساسية:
أ. الشباب إجرائيا:
إنّ الشابّ في عالم اليوم لم يعد سوى "مجالا اجتماعيا هشّا"[2] وهو تعبير استخدمه جون فرانسوا رينيه في إحالة إلى الصعوبات التي يواجهها شباب اليوم في ظلّ صيرورة اللامأسسة ووهن الاجتماعي اللّذين تمخضا من رحم الليبرالية الجديدة، حيث لم يعد الشغل قارا ومضمونا، بل أصبح محكوما بالهشاشة ما يحول دونهم وبناء مسار مهني ثابت والاندماج في سوق الشغل، الأمر الذي جعلهم يعيشون تعارضا بين عالم الاستهلاك وعالم الحرمان وغير قادرين على تحقيق الأهداف الحياتية التي يصبون إليها (شغل، مسكن، سيارة) بمعنى أنّ الشباب تحكمه ثنائية الموجود والمنشود، طموحات عدّة يرغب في تحقيقها على أرض الواقع ومن ناحية ثانية استحالة تنفيذها في ظلّ واقع متأزم يسوده الفقر والبطالة والمعطوبية الاجتماعية، أنهكته العولمة وسياساتها. لكن من خاصيات الشاب التحرّك ضدّ كلّ ما من شأنه أن يقف حائلا أمام تحقيق طموحاته وبالتالي البحث عن تغيرات معيارية تفتح هوامش المناورة والتحكم الفرديين والرهان ثالوث الاعتراف والدور والمكانة، ولعلّ الهبّة الشبابية التي حصلت في فرنسا في مايو 1968 وأطاحت بديغول خير دليل على ما نقول[3]. وأمام سعيهم إلى أجل تشكيل هوية إيجابية حول أنفسهم، ومن أجل أن يحصلوا على الاحترام والتقدير اللائقين والمناسبين من قبل الآخرين سيستثمر الشباب جميع الموارد والإمكانات الذاتية التي تحقق ذلك وإن عبر العالم الافتراضي. ب. تعريف الفايسبوك:
هو شبكة تواصل افتراضي تأسس في 2004 على يد مارك زوكربرغ (Zuckerberg)، كان في البداية مخصصا للتواصل بين الأصدقاء في جامعة هارفارد فقط، وبعد النجاح الذي لقاه وقع توسيع قاعدته ليشمل باقي الجامعات الامريكية، ومن ثمّ المدارس الثانوية ثمّ أصبح متاحا للجميع [4]عموما هو واسطة تواصل افتراضية تمكّن مستخدميها من التواصل عبر الرسائل والصور والفيديوهات وكذلك تكوين صداقات من مختلف بلدان العالم ومن تجاوز حدود الجغرافيا واللّون والمعتقد والجنس وبالتالي نسج روابط وعلاقات مع مختلف بقاع العالم دون الزامية الحضور الجسدي. 3. منهجية الدراسة وعيّنة البحث:
سنعمد إلى استخدام المنهجين الكمّي والكيفي لكشف جوانب الموضوع من زواياه المختلفة: قياسا وتكميما عبر تقديم أرقام ونسب حول الشباب في العالم الفايسبوكي، وسنرتكز في ذلك على تقنية الاستمارة. أمّا الجوانب الخفيّة التي لا يمكن ضبطها رقميا سنحاول تبيانها انطلاقا من المنهج الكيفي معتمدين بالأساس على تقنيتي الملاحظة والمقابلة. انطلاقا من عيّنة بحث قدرها 120 شاب.
- اقتباس :
تشكّلت هوّية ثقافية شبابية جديدة، الفايسبوك مكوّنا رئيسا فيها، إذ أصبحت معايير التقدير والتقييم تصنع عبر العالم الافتراضي
ثانيا: الفايسبوك: الخفايا والرهانات
الفايسبوك كآلية لترميق الذوات المأزومة:
أمام واقع مأزوم تسوده البطالة والفقر، فإن الشباب كذوات فاعلة لن تخضع لإملاءات النسق وترضى بالتخوم، بل تسعى إلى تدبّر أمورها وحلّ مشكلاتها، فتجري عمليات المعالجة وتركّب حلولها في الفضاء الفايسبوكي الذي أضحى مجالا لضروب من المناورات والاستراتيجيات، بغية احتلال موقع مميّز على الخارطة الاجتماعية.
الجدول رقم (1): الشباب والفايسبوك من خلال متغير العمل
المهنة
التكرارات
النسبة المائوية
طلبة وتلاميذ
11
09,16
عمل قار
14
11,66
عمل مؤقت ومتغير(هش)
37
30,83
بدون عمل
58
48,33
المجموع
120
100,0
نلاحظ ممّا سبق، أنّ قرابة نصف عيّنتنا عاطلين عن العمل، الأمر الذي جعلهم أسفل سلم المحترمية الاجتماعية ويعيشون على الهامش. هذه الوضعية الدونية جعلت الشباب ينتجون جملة من التصوّرات والخطابات المتصلة بواقعهم. نلمس صداها في الفضاء الفايسبوكي، خطابات تعبّر عن الأزمة والضيم من ناحية أولى، وتعيد الاعتبار للذات والكرامة المفقودة من ناحية ثانية ومنها ما لاحظناه من منشورات فايسبوكية يحمّلها العديد من أفراد عينتنا، لا تخلو من النقمة المستفيضة على الوضع السائد والرغبة الجامحة في التغيير، على سبيل المثال "الرفاه للشيوخ والمعاناة للشباب" كتوصيف لبعض الساسة أو "إذا خيروني بين تونس وجهنم فجهنم أرحم".
هذه المنشورات عبارة عن عملات رمزية وهندسة اجتماعية، تجعلهم ينسون ولو لبرهة وضعيات الفقر والتهميش والإقصاء التي يعيشونها. منشورات لها منطقها الداخلي. الاعتراف رهانها؛ أي قدرتها على تمكين الشباب من الرضا عن الذات والشعور بالفاعلية عبر تركيب الخطاب الفايسبوكي وبنائه بلغة التحويل الخلاّق، بعقل مبدع يستطيع صاحبه اختيار الخطابات والصوّر التي تعبّر عن الواقع المأزوم بتعقيد تضاريسه وتقاطع خطواته وتفاعل عناصره.
هذه المأزومية تعبّر عنها منشورات دينية وأخرى أسطورية تمدح سير الأبطال والصحابة ومضامينها "الدعوة إلى الصبر" و"إبراز قدرة الشباب على التغيير". كما تتجسم الأزمة في حالة الالتباس والازدواج، لشخصية الشاب في الفضاء الفايسبوكي، فتراه تارة ينشر أحاسيسه بالفرح والسعادة وتارة أخرى ينشر ما يشعر به من خيبة أمل ووهن وأحيانا ينشر منشورين متعارضين في مدّة زمنية قصيرة. هذه المتعارضات تدل على خلخلة لدى ذوات شبابية عاجزة ومحبطة، ممزقة بين الواقع والمثال. نحن إذن إزاء انشطار يخترق الذوات الشبابية متمظهرا في المنشورات الفايسبوكية وما تحويه هذه الأخيرة من مفارقات والتباسات ومتعارضات وغموض ترتبط بحالة اللايقين التي يعيشها الشباب العاطل عن العمل، فيكون الفايسبوك مصدر الحركة والتغيير ومحرّكا نابضا وحافزا للذوات المأزومة التي تعيش خواء وتوترا. فالمنشورات الفايسبوكية إذن بنية مركّبة وملتبسة مرتبطة بالذوات الشبابية وأوضاعهم الاجتماعية الهشّة.
ألا يجوز لنا، انطلاقا مما سبق تحليله اعتبار الفايسبوك آلية للنضال الاجتماعي؟
في توصيف للحركات الحضرية بالمجتمعات التابعة وصف عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات سياساتها بسياسات "الزحف الهادئ"، والتي تعتمد الحراك الهادئ وطويل الأمد ضمانا للبقاء وترصد الفرصة للتغيير. وما يعنينا ليس الفكرة في حدّ ذاتها بل الاستراتيجيا، فالملاحظ أن الفايسبوك عبارة عن تفاعلات شبابية يحكمها التوتر والهشاشة الاجتماعية بتعبير رينيه. تؤدي هذه الوضعية إلى نشأة شبكة علاقات سلبية passive network وأقصد بشبكة العلاقات السلبية الأفعال وردود الأفعال حول سياسات الإقصاء والتهميش، وهذه المطالب لا تشترط ضرورة الاشتراك في الحيز المكاني الواقعي بل المهمّ وجود "هموم مشتركة" الأمر الذي يؤدي إلى نشوء شبكات نشطة تعتمد سياسة الزحف الهادئ تتدرج من الغضب، فبناء خطابي فيسبوكي هادف فالتجييش عبر الفايسبوك إلى الحراك الشعبي. الأمر الذي يفسر نوعا ما دور الفايسبوك في الثورة التونسية، ليكون الفايسبوك بذلك آلية من آليات المفاوضة والتحرك وبالتالي النضال والثورة.
1. التلاعب القيمي والمعياري وفن إخراج الذات:
إذا ما اتخذنا المنطلقات النظرية للتفاعلية الرمزية في ما يخص مسرحة الحياة اليومية كمدخل للتحليل فإن الفايسبوك أضحى مسرحية لها ممثلوها وهم فئات شبابية يقومون بجملة من الأدوار على ركح الفضاء المسرحي (الفايسبوك) الذي له كواليسه، وهو الواقع. على نحو صار فيه مبدأ "اعرض نفسك" بديلا لمقولة سقراط "اعرف نفسك".
عموما يتفنّن العديد من الشبان في إخراج أنفسهم في صورة مثالية تخفي في متونها وجها آخر مخالف للواقع (la masque et la face). فعلى سبيل الذكر لا الحصر يحاول العديد من الشابات إخراج أنفسهن في صورة التقية الطاهرة والمتدينة...عبر تحميل كم هائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبصفة دورية. تبدو لغير المتمعن في المسألة حبا في الدين وتعلقا بتعاليمه غير أن الوجه الحقيقي يكشف جملة من المصالح المراد تحقيقها كالسعي للزواج أو المغالطة وإخفاء الوجه الحقيقي تقول الشابة س. ص: "أنا من عائلة محافظة وإخوتي يراقبونني باستمرار، ويمنعونني من الخروج والتصرّف بحريّة والغريب أن أمي تقول لي باستمرار اصبري وسيأتيك نصيبك [5]فلم يبق لي إلا الفايسبوك متنفسا".[6] وكم هي عديدة تلك الصور والمناشير التي يتفنن فيها الشباب بإظهار ذواتهم والاحتفاء بمنجزاتها بين ذاك الذي يحتفي بقدراته المعرفية (قرأت هذا الكتاب، لحظة تكريم) وذاك الذي يقف وراء أحدث السيارات وتلك التي تريد من خلال صورتها إظهار هاتف من آخر الصيحات مثل "البلاك بيري" و"الآيفون" وأخرى تظهر صورا في أرقى المناطق، وحتى الجسد صار يستثمر في صيرورة إظهار الذات والجسد الذي نقصده سوسيولوجيا لا يعني الجسد في معناه الفيزيولوجي أي الجسد كمنتوج اجتماعي أي الجسد كمجال للتمثلات والمخيالات والرموز، إذ ومن خلال تقنية الملاحظة، نرى شبان يسعون إلى إظهار قوتهم البدنية وفتيات يتفنن في جذب الجنس الآخر عبر حركات جسمية (حركات الشفاه على سبيل المثال أو النظرات)مختلفة وفي الآن ذاته يظهرن التزاما بالتقاليد عبر ارتداء الحجاب والسعي إلى وإظهاره. إنها مُرَاوَحَةً بين الاجتماعي والمخيالي (جيلبار دوران، روجي كايوا، ميشال مافيزوللي، ...).
ولما كان الاعتراف وتقدير حاجة بشرية تتبوأ مكانة محورية في هرم ماسلو يتم تحقيقها من خلال توفير الظروف التي تساعد الإنسان على إظهار ذاته بحثا عن الاعتراف، كان من الضروري توافر جملة من الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق الغايات السالف ذكرها، هذه الأخيرة لها صداها في كواليس الفايسبوك الذي هو عبارة عن رهانات وتكتيكات لشباب يحركهم مبدأ التغيير والصعود الاجتماعيين، مستخدمين بشكل تطويعي الفايسبوك كآلية لتحقيق هذه الأهداف المحكومة بسقف رمزي. ممارسات شبابية يوميّة مشحونة بمعاني قد تختفي على المناظير الأخرى، هذه الأخيرة أضفت على الواقع بعده الخيالي إلى درجة أنّ الفضاء الفايسبوكي أضحى فيلما تطغى عليه الظلمة والنور، تعبر عن تحدّ للنظام الاجتماعي القائم الذي يحاول فرض نوعا من التوازن والانسجام، وسعي إلى الحراك عبر ما يمتلكوه من معارف وخبث لمقاومة كل ما من شأنه أن يكون عائقا أمام طموحاتهم. ما يؤدي إلى انبلاج واقع اجتماعي افتراضي ومجال علائقي رمزي ذي بعد درامي لا يخلو من أدوار تتغير بحسب قواعد اللّعبة. هو إن شئنا واقع مصغر (micro réalité) لشبيبة محبطة وفاقدة للأمل، لأنّ الفايسبوك يترجم ما يحدث في عالم اليومي من ألغاز ومشكلات.
2. كوسموبوليتية التواصل الفايسبوكي: من الحراك المحلّي إلى الحراك الكوني:
أمام التحولات المطردة والسريعة التي شهدها العالم المعاصر في ظلّ العولمة وانهيار الدولة الوطنية الراعية لم نعد نتحدث عن شغل قار وثابت بل عن تشغيلية مؤقتة وهشّة. فالاجتماعي بصدد التشكل المستمر والمتواصل بلغة الإنتوميتودولوجيين. وبالنتيجة إلى ما سبق ذكره انتشرت ثقافة الفهلوة (débrouillardise la) في صفوف الشباب التونسي باحثين عن سبل تمكنهم من العيش بكرامة وتجاوز أوضاعهم الاجتماعية الهشة، وبما أنّ آمالهم مستحيلة التحقق في الإطار المحلّي الوطني فإنهم سيسعون إلى الحراك الكوني. في هذا الصدد يستخدم الفايسبوك لبناء صداقات متعدّدة مع أشخاص من أقطار أخرى بحثا عن حلّ يخرجهم من الوهن الذي يعيشون فيه. في هذا الإطار يقول ع. ب (29 سنة) "أحاول بناء علاقات مع فتيات غربيات وكسب محبتهم بشتى الطرق لعلها بذلك تسهل سفري إلى الخارج"[7]. فالفاعل إذن من منظور اثنوميتودولوجي خاضع للبنى وضغوطاتها ولكنّه يفاوضها باستمرار ويلعب بغرض التغيير دون المساس من علويتها لأن له من الكفاءة ما يجعله قادرا على "تحيين وتفعيل"[8] مكتسباته وقدراته وذكاءاته المتعددة في تغيير وضعيته. ولا يكون ذلك إلا عبر الحراك الكوني. هذا الحراك الكوني يكشف وهنا في اشتغال النسق المحلّي الذي غدا عاجزا على الاستجابة لحاجيات الأفراد لكنّ هؤلاء الأعضاء لهم من الكفاءة ما يجعلهم يتدبّرون وسائل التغيير. - اقتباس :
يكون الفايسبوك الدعامة الأساسية لإعادة تركيب وبناء الهوية الثقافية ضمن عمل هوياتي تأسيسي يتجاوز ما هو سائد
3. العائلة على محك التغيير:
أظهرت دراستنا رقما مفزعا يدعو للتساؤل والاستشكال، وهو أن قرابة ثلثي (65 بالمائة) عينتنا يقضون أكثر من ثمان ساعات على الفايسبوك. فهل أن الفايسبوك آلية لتخليص الناس من عزلتهم أم لتعميقها؟ أي معنى للعائلة من خلال الشبكات الاجتماعية الجديدة؟ يرى الباحث مارشال ماكلوهان أن أي تغيير يصيب المجتمعات في أية حقبة زمنية يرجع إلى وسيلة الاتصال أو الإعلام التي تربط الأفراد فيما بينهم وهو ما سماه بالحتمية التقنية technological determinism ,[9] ورغم حتمية هذا الرأي وإنكاره للذات الفاعلة القادرة على ابتداع تاريخانيتها لكن قياس هذه المقولة بالواقع يكشف التداخل الكبير بين عالم الواقع والعالم الافتراضي حتى صار الخط الفاصل بينهما هشا إن لم نقل أفل. عالمان جعلا من الفضاء الأسري مجرد فضاء للتلاقي فداخل العائلة الواحدة يشترك الفاعلين في المكان لكنّهم يختلفون في الهواجس، فالكلّ منشغل بعالمه الافتراضي ما أدى إلى خلخلة في مؤسسة العائلة التي لم تعد تقوم على روابط متينة، بل روابط هشّة. إننا نشهد خلخلة في الروابط الأسرية التي تكاد تتلاشى لتظهر مكانها روابط ثانوية تستمد جوهرها ومضمونها من تطور وسائل التواصل الاجتماعي، لحظتئذ يكون الفايسبوك بمثابة العالم الموازي الذي يلتقي فيه الشاب بأصدقائه الافتراضيين وفيه يحقق كل ما لا يستطيعه في العالم الحقيقي والمتنفس الذي يحررهم من وطأة القيود والضغوطات والمحرّمات التي تضعها العائلة فضلا عن منظومات القيم ونماذج الثقافة، وبهذا المعنى لم تعد العائلة تلك المؤسسة التي تقوم على التوالف والتواشج وتقوم بعملية التنشئة الاجتماعية وتؤمن الانسجام لأعضائها بل "مجرد فضاء يجتمع فيه الغرباء"[10] على حد تعبير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت بومان، لا نبالغ إن قلنا إن المعادلة انقلبت فأضحت العائلة تتلقى تنشئة من قبل أبنائها لتواكب طفرات العلم وثورة التكنولوجيا. من غير أن نمارس الحجب والنفي أو التهويم أضحى الفايسبوك لا فقط آلية من آليات التواصل بل فضاء يعوّض ما عجزت عنه مؤسسات التنشئة الاجتماعية. هو إن شئنا مكمّلا لها ويتجلى ذلك في قول الشابة م. س (23 سنة) "أشعر بالقلق والتوتر عندما أكون في البيت ولا أقوم بأيّ عمل، جلّ وقتي أقضيه في الفايسبوك، الذي يجعلني أنسى قليلا حالة القلق والتوتر التي أعيشها".[11] بهذا المعنى تشكّلت هوّية ثقافية شبابية جديدة، الفايسبوك مكوّنا رئيسا فيها، إذ أصبحت معايير التقدير والتقييم تصنع عبر العالم الافتراضي. "فمن تحت التموج السطحي لهذا التدفق (وسائل التواصل الحديثة)، تحدث تبدلات باطنية في الفعل التنشيئي من إطار مؤسسي ومحلي ذي طابع أبوي تقليدي إلى فضاءات مستجدة معولمة، ومن غير أصول اجتماعية وحضارية محددة. لعله تزحزح ضمني يطال بنى الشخصية الاجتماعية في العمق لدى الأفراد والجماعات، فيحوّر مصادر الأنا أو يربك مرجعيتها ويضعف مصداقيتها داخل إطارها داخل محيطها العائلي والمدرسي"[12]. إنّه زمن العولمة: تنقلب المفاهيم وتتبدل الأدوار والمشروعيات وتتآكل الثوابت والمرجعيات فضلا عن تآكل الخصوصيات وموت الهويات وانتشار المعلومات. إنها حالة من "الارتباك الشامل"[13] على حدّ تعبير غوستاف لوبون. ليس من باب التهوين والتهويل إذا قلنا إنّ مؤسسات التنشئة الاجتماعية أضحت آفلة وفاقدة للدور الذي كانت تقوم به سالفا، وهو التنشئة الاجتماعية، من هذه الزاوية المستجدة لم نعد نتحدث عن تغيرات في أساليب الإنتاج وأنماط العيش فقط، بل عن تغير في مرجعيات المعنى وعناوين الوجود. تجدر الإشارة إلى أنه من المهم التنبّه إلى أنّه وراء بحث الشاب عن أطر بديلة قد يتيه في عالم الاغتراب التي تسهم فيه وسائل الاتصال والفايسبوك بشكل خاص، حيث إنّ الشباب وراء سعيه إلى أبدية اللّذة والراحة التي تخرجه من عالم الفراغ في لحظية المتعة وآنيتها بلا توابع أو مسؤوليات مترصدا فرصا قد تظهر وآفاق قد تستجد ليتجاوز ضغوطات الواقع ويتخفف من مسؤولياته، فإنه يتيه في عالم الصلات العابرة والعلاقات الهشّة التي قد تنتهي في أي حين، فتكون النتيجة أن يتيه الشاب في عالم التعاسة جراء الهشاشة العلائقية وعلاقاته التي قد تنقطع أو انقطعت، كعلاقات الحب وكم هي كثيرة في عالم الفايسبوك؛ فالحب في الفايسبوك ينتهي بكلمة أو تعليق وليس من طبيعة الحب في هذا الفضاء قبول المجازفات والمتاعب والإخلاص كما يرى ذلك الشاعر الروماني لوكانوس، بل جوهره ومضمونه وغايته التخلص من توترات واقع ممل ويصيبه الوهن. تقول الشابة ع، بـ: "لقد أحببته بصدق وتحملت مشاكله لكنه ولما تعرف على فتاة أخرى أزالني تماما من قائمة أصدقائه"[14] ما يدل أنّ العلاقات الإنسانية قد تشيأت وأضحت مجرد منتج يستهلك قد يتم رميه بمجرد انتهاء صلاحيته، كيف لا والفايسبوك بالمعنى الأدبي جسور لا تغطي كامل المسافة بين شاطئي الواقع والوهم. 4. الفايسبوك كتعبير عن هوّية ثقافية شبابية بصدّد التشكل:
من خلال ملاحظتنا لتفاعلات أفراد عينتنا على الفضاء الفايسبوكي، لاحظنا أن الشبيبة تسعى إلى تأسيس حقل ثقافي مفردن من خلال استعمال لغة تتخلّلها الأرقام (رقم7=حرف حاء، رقم 3=حرف عين، رقم8=حرف غين، رقم9=حرف القاف...) وعبارات مبتورة وجمل ناقصة ومقطوعة لزيادة سرعة التبادل (مثال: السلام عليكم تختصر بكلمة slt وكلمة bonjour ب bnj) هذه اللّغة المشفرة التي تبتر اللغتين العربية والفرنسية معا، نابعة من رغبة ذوات شبابية تسعى إلى التغيير والتمايز وحماية حقلها من الاختراق. هكذا يصبح الشاب "فاعل لغوي بمعنى أنه يفعل باللغة وفيها ويخلق عبر كلامه وأدائه عالما ممكنا يسهم في إعادة إنتاج اللغة كبنية تفاضلية"[15]. وما يميز الهوية الثقافية الجديدة تشيئة العلاقات الإنسانية في إطار المجتمع الافتراضي الذي أصبح فيه الخيالي والوهمي ينازع الواقع، حتى صار الافتراضي هو الواقع، الصداقة افتراضية، الحب افتراضي، والابتسامة افتراضية حيث تقاس المشاعر بكلمة Jaime ولفت الانتباه بال poking وإعلان القطيعة ب block. إن الحياة الاجتماعية بتعدد أبعادها وتعقد تضاريسها نقلت إلى الفضاء الافتراضي. إنه فضاء جديد تؤول فيه المشاعر والعلاقات بنحو مغاير، علاقات جديدة استبدلت فيها وسائل الاتصال من المنطوق إلى الالكتروني الصامت والرسائل الخطية بالإلكترونية والجلسات العائلية بالشاتنغ chatting. فلا حاجة للقاء الأصدقاء ماداموا في اتصال دائم بالفايسبوك ولا حاجة لفهم خطأ شخص معين مادام إعلان القطيعة أمر بسيط وتحدده كلمة بلوك، ارتباك شامل للحياة الاجتماعية بكافة مدلولاتها العلائقية والثقافية في مقابل تشكل عالم ما فوق الواقع hyper reality. بذلك يكون الفايسبوك الدعامة الأساسية لإعادة تركيب وبناء الهوية الثقافية ضمن عمل هوياتي (travail identitair) تأسيسي يتجاوز ما هو سائد. هذه الديناميكية الهوياتية هي التي ترسم فواصل بين النحن كجماعة والهم، بل قل أضحت عاملا من عوامل التو اشج والتوالف والانسجام بين الشباب لتشكل نوع من الحميمية والتوادد البينذاتي (intersubjectivité) بينهم و"حاجز مادي للحيلولة دون اقتحام فضائهم الشخصي"[16] إضافة إلى أنّها حاملة لرسالة للآخر المعمّم متضمنة قدرة الشباب على البناء والتأسيس والسيطرة على الحقل الميدياتي الذي يفتح له المجال للعب والمناورة، ويشكلون الحقل الفايسبوكي على النحو الذي يحقق لهم الرضا. وقد حاولنا في الرسم البياني التالي جمع المرتكزات العملية التي تتأسس عليها الهوية الافتراضية لشباب الفايسبوك: الرسم البياني رقم (1): الهوية الثقافية لشباب الفايسبوك
خاتمة:
تحمل دراستنا كثيرا من أمارات الديناميات التي يعيشها المجتمع التونسي، إذ إن التغيّرات المتسارعة التي شهدها المجتمع في ظلّ الكوني والعولمي، لم تنعكس فقط على مرجعيات المعنى وما أصابها من وهن وانهيار، بل إنّ مفهوم الذات في حدّ ذاته صار موضع تساؤل: أيّ معنى للذات في ظلّ عالم معولم؟ أيّ سبل لاكتساب المعنى في ظلّ تحوّلات عالم العمل وتنامي البطالة والتهميش؟. هكذا أضحى الفايسبوك المرتجى والحلّ في العصر الميدياتي وفضاء يمكّن الشبيبة من تشكيل قيم ومعايير مرنة عبر التلفيق والتوليف الخلاّق لتجاوز مآسي الواقع المعيشي، وإعادة الاعتبار للذوات الشبابية التي أصبحت تعيش هامش المجتمع. بذلك يكون الفايسبوك ميكروسكوبيا الواقع الطافح بالهشاشة. إذا جاز لنا النظر إلى الفايسبوك من وجهة نظر وظيفية، فإنه لا يقوم فقط بوظيفة ظاهرة تتمثل في التواصل وتقريب المسافات وإزالة الحدود، إنما يقوم كذلك بوظيفة خفية، وهي تحقيق اللحمة والاندماج بين الشباب المأزوم. ومن وجهة نظر فعلانية مرتكزين في ذلك على جورج بالندييه (George Balandier) وألان توران، فإنّ الشبيبة تحاول بناء تاريخيتها الخاصّة وتسعى إلى الحراك والتغير الاجتماعيين وتأسيس هوية ثقافية منفلتة عن مؤسسات التنشئة الاجتماعية وضغوطات النسق وبذلك أضحى الفايسبوك مجالا للصراع والحراك الاجتماعيين. أما من منظور التفاعلية الرمزية نتبين أن الفايسبوك فضاء ممسرح به جملة من الأدوار والرهانات والكواليس لشبيبة تريد تحقيق جملة من الأهداف، سواء عبر التفنّن في إظهار الذات أو التخفّي. ولا مراء من أن براديغم البنيوية التوليدية لصاحبه بيار بورديو يمكننا من رصد جانب آخر لهذا الفضاء الافتراضي، إذ أضحى رأسمال رمزي في واقع يجعل من الشباب خارج دائرة التبادل المعياري وحقلا يعيد إنتاج الإقصاء والتهميش بآليات ومعطيات افتراضية. لكن عموما ما يميّز الشباب أنّه يمتلك جملة من الاستراتيجيات والتكتيكات تجعله يناور ويراوغ ويطوّع الفايسبوك للصعود الاجتماعي، هو إذن لا يخلو من خيارات عقلانية مدروسة كما تذهب إلى ذلك الفردانية المنهاجية (L'individualisme Méthodologique). ولكن ألا يجوز انطلاقا من مقومات الحركة الاجتماعية التي حددها ألان توران والمرتكزة على ثالوث الهوية والتضاد والشمول اعتبار شباب الفايسبوك حركات اجتماعية جديدة تتمايز عبر هويتها الثقافية ومنطق التضاد مع دولة تهمشهم وتعزلهم عن دائرة التبادل المعياري وشمولية مطالبها لكافة المجالات؟