المظاهرات والغضب العنيف ضد السفارات والقنصليات الأمريكية
احتجاجا على إنتاج فيلم سينمائي ركيك ومستفز تعمد الإساءة إلى الرسول (ص)
بدأ عرضه بدور السينما الأمريكية تزامنا مع الذكرى الحادية عشرة لهجمات
سبتمبر ونشر على مواقع اليوتيوب. تطرح تساؤلا عما إذا كان هذا الفيلم هو
السبب المباشر أم انه كان الثقاب الذي أشعل فتيل الغضب ؟ صحيح أن الفيلم
سيء للغاية ويحمل رسالة كراهية لا موضع للشك فيها ولكن المتأمل والباحث
المحايد لا يشك أن الفرضية الثانية هي الأدق. فهناك العديد من العوامل
التي تساهم في حالة الاحتقان العربية ضد الغرب عموما والولايات المتحدة
خصوصا ، فهناك العوامل الثقافية الحضارية لأن اللقاء بين الشرق والغرب، هو
لقاء نشأ في غالبية الأوقات على أسس غير ودية ، بل إن عماده كانت العداوة
والكراهية . ولكن المتمعن في تاريخ تلك العلاقة يدرك تماما أنها لم تكن
مطلقة دائما، بل إن الخاصة من الناس كان لهم مفهوم آخر، فالسلطان الكبير
صلاح الدين الأيوبي الذي كان رغم حروبه مع المسيحيين مشهورا عندهم بصدقه
وعدالته، وابن سينا الحكيم الكبير الذي يدرس كتبه الغربيون وكذلك ابن رشد
أستاذ الفلسفة الإسلامية الذائع الصيت لدى الغربيين . ومن يقرأ كتاب ”
النظرات ” للمؤلف المصري المسلم مصطفى المنفلوطي يلاحظ انه وهو الكاتب
الثابت على دينه استنكر استنكارا تاما أعمال التعصب العدواني أيا كان
مصدرها . وهذه الأمثلة تدل على قيمة الضمير الإنساني الواعي في الشرق
والغرب على حد سواء . فهذا الضمير الذي يمنع العداوة المطلقة، ويحقق أهم
فضائل كل من الدينيين الإسلامي والمسيحي.
وهناك جانب آخر من جوانب العلاقة بين الشرق والغرب، وهو جانب
العلاقات الثقافية التي بدأت في القرن التاسع عشر، ولكن أعاق تياره الدافق
الاستعمار والتسلط الغربي الذي لا يوافق عليه في كل أطراف الدنيا، هذا
التسلط الذي اتخذ ستار التعاون على التقدم والحضارة، وقد أخذ بهذا الرأي
أيضا بعض علماء الشرق في ذلك الحين- من أمثال الجبرتي، ورفاعه الطهطاوي،
وجمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، ومصطفى كامل . ومن هنا كانت
خطورة الأطروحات الاستعمارية، فلو كان الاستعمار مجرد سيطرة قوة على قوة
أخرى لكان أمره هينا ، ولكنه كان عملية نقل حضارة، وأفكارا لتبرير ذلك
الاستعمار وهذا التسلط . فالغرب يؤمن أن التغير الاجتماعي يتم بالقدر الذي
تكون فيه المجتمعات العربية الإسلامية المتخلفة مستعدة لتقبل المقومات
المادية وغير المادية الغربية للتقدم، وبذلك يختزل التطور والتقدم باكتساب
المجتمعات غير الغربية لخصائص المجتمعات الغربية المادية وغير المادية
وصفاتها بغض النظر عن أنماطها الثقافية الخاصة، أو خصائصها الاجتماعية
المغايرة للمجتمعات الغربية أو طبيعتها التاريخية والمكانية والمناخية . ثم
التدمير المنهجى الأمريكي لبنية المجتمعات العربية في العراق وليبيا
بالقوة القاهرة مما أدى إلى ترنح تلك المجتمعات وانتشار الفوضى والعنف فيها
.
وهناك محاولة واشنطن تغيير دفة الانتفاضات العربية التي لم
تساهم بها وكانت دوما مع الطغاة ضد شعوبها وكانت المفاجأة أنها عملت على
تمكين الحركات الإسلامية المعتدلة منها والمتطرفة لأهداف تتعلق بخلق محور
سني ضد محور إيران الشيعية وحلفائها في المنطقة وهذه إستراتيجية خطيرة
تحمل من الفشل أكثر من النجاح علاوة على أن السلوك التدخلي الإيراني في
الشأن الغربي الداخلي موضع سخط عربي. وبذلك خذلت واشنطن المجتمع المدني
الذي قام بالثورة ليختطفها “الجهاديون” المتدثرين بغطاءات ديمقراطية لا
تحمل الا آلياتها وقشورها. كما وجدنا الزحف السلفي على الدولة العربية
الهادف إلى تأسيس دولة دينية وفق رؤية مغلقة ومتشددة، تريد أن تمارس
إستراتيجية التحريم بالنسبة للتفكير والإبداع، بل وفيما يتعلق بالسلوك
الاجتماعي ذاته. مما يشير إلى ردة في مجال حريات التفكير والتعبير والإبداع
بالإضافة إلى محاولات بائسة لاعتقال حركة المرأة العربية. كما أن قوى
الإسلام السياسي المسنودة أمريكيا هي قوى مضادة للتحديث وعصرنة المجتمع
تعتبر التحديث والديمقراطية خطراً يهدد مقومات الأمة ومرتكزاتها الأساسية.
وكان على الأمريكيين أن يدركوا أن بناء الديمقراطية والمجتمع المدني
يستلزم بالضرورة إحداث تحولات بنائية وهيكلية في الدولة والمجتمع بل وفى
سيكولوجية الفرد والجماعة. و رأينا أن رؤية التحديث السياسي والاقتصادي
لتلك الجماعات يتم هندستها وفق عملية مزدوجة تأخذ طابع التوفيق/التلفيق بين
التقليد والحداثة، مما يعطى شكلاً مشوها لطبيعة الدولة وآليات عملها، هذه
الازدواجية ترجع إلى ازدواجية مماثلة في نمط الإنتاج ومنظومة العلاقات
الاجتماعية، بحيث تبدو مظاهر التحديث متجاورة ومتشابكة مع المظاهر
التقليدية في صورة تشوه البناء الاجتماعي والنظام السياسي العام في الدولة
والمجتمع. مما أدى إلى توتر مجتمعي وفشل اقتصادي وآمال محبطة لدى الجماهير
سيما الشباب الذي فجر تلك الانتفاضات العربية .
وهناك بالطبع عوامل أخرى داخلية من استغلال الأحزاب السياسية
الحاكمة لتلك الأحداث من اجل بناء شرعية عاجزة عن تجسيدها لإعطائها أهمية
لمصالحها الضيقة على حسابات تطلعات شعوبها .
وكان الحصاد الأمريكي الغضب الكبير والحاشد ضد الأمريكيين
مما أدى إلى حالة الإحباط التي اعترت الإدارة الأمريكية من السلوك السياسي
لحلفائهم الجدد ذو الخطاب المزدوج . فعلاوة على اغتيالات بني غازي كان رفع
علم القاعدة فوق السفارات والقنصليات الأمريكية في العالم العربي تزامنا
مع ذكرى هجمات سبتمبر دليلا على الفشل الكامل للسياسات الأمريكية في
الشرق الأوسط . وعليه يجب النظر إلى حالة الغضب كتعبير عن حالة شعوب
متوترة منهكة مأزومة محبطة تحمل هواجس ضد سياسات الغرب وواشنطن التي
يرون أنها تسببت في حالة الذات العربية المجروحة !
* كاتب ومدير مركز الكنانة للدراسات والبحوث بمصر
منبر الحرية، 17 سبتمبر/ايلول2012