منطق الفكر ومنطق الرَّغبة” عنوان يدلّ على إضافة نوعيّة إلى المكتبة الفلسفيّة المغربيّة، وقّعه المفكر المغربي حسن أوزال، الّذي يواصل إلى جانب عدد من المفكّرين من جيله، تحرير الفكر المغربيّ من إشكاليّة التراث، ومركزته حول أسئلة جديدة تتعلّق بالجسد والرّغبة والمتعة والحياة.
وكما يصرّح بذلك المؤلّف في مواقع مختلفة من عمله، فالمسعى الأساسي من هذا الكتاب، يتجلَّى في الكشف عن آليات التّنميط الَّتي ما فتئت تطال الرّغبة وتعوق مصالحتنا مع أجسادنا؛ ممَّا يضطرنا إلى إعادة صياغة تصور بديل لذواتنا، وخط إبستيم متعوي (من المتعة) مغاير للإبستيمات السَّائدة.
وهو المسعى الّذي جعل حسن أوزال يخوض طيلة صفحات الكتاب (الصادر عن دار إفريقيا الشَّرق 2013) في استشكالات عديدة، تراوحت ما بين الدّين والسّياسة مرورا بالطبّ والبيوطيقا، كما العقلانيّة والإيمان، والأقليّات ،الكتابة والصيرورة والصَّمت ..
وكلّها محاور شغلت تفكيره في كتبه السَّابقة، و تعاود الظّهور مرّة أخرى في عمله هذا. وهو ما يوضحه قائلا: ” لقد كان هاجسنا الواحد والوحيد، هو كيف نبني المتعة؟ وهل من سياسة لفنّ الاستلذاذ؟ وأيّة وضعيات اجتماعيّة أو سياسيّة يلزمنا الانفلات من قبضتها حتّى لا تضمحل كياناتنا ونلوذ بحياة سعيدة؟ ”
و يؤكّد أوزال دون أدنى تردّد، إنّ بناء المتعة فنّ يستلزم المقاومة، والتمكّن من مبدأ حساب الملذَّات، ومعرفة اتّخاذ المسافة الضَّروريَّة اتّجاه الفخاخ الاجتماعيَّة والتّرسيمات القطيعيّة، مادام الوقوع فيها أمر يكاد يجهز على حميميتنا ويودّي بنا في غياهب جحيم لا يطاق.
ويقترح حسن أوزال في كتابه الجديد، تأمّلات عميقة مستمدّة من حياته، هو الّذي علمته الطّفولة ما لم يعلمه إيّاه سنّ الرّشد، كما يقول:” أجدني دوما ضدّ التيّار. لكن هذا الشّغب إن كان ينبع من أيّام الطّفولة فهو ما تقوى ما أن شرعت أهوى شيئا اسمه الفلسفة.هذا الفنّ الّذي لم أتعلمه في المدرسة، لأنّ المدرسة ضدّ الفلسفة؛ بل هي ضدّ كلّ ما يرقى بالإنسان في الحياة..”.
ويرى صاحب الكتاب أنّ ثمّة خطرين يهدّدان الحياة، الأستاذ والمثقّف. الأستاذ اعتبارا لبعض ما سلف أمّا المثقّف، فلأنّه تحديدا من لا يعرف أن يحيى جرّاء ادعائه الثّقافي أساسا. وكما يقول المؤلّف فالمثقّف على حدّ تأويل كونديرا، هو من لا يعرف كيف يمارس الحبّ. أي ذاك الَّذي يقوم ضدّ نفسه كما ضدّ النَّاس، لأنَّه لا يجعل من الكتابة فعلا للفكر وأسلوبا للسَّعادة أكثر ممَّا يجعل منها طريقة لنيل الاعتراف ونهجا للارتزاق. وهو بذلك يرغب في أن يغدو مؤلّفا قبل أن يكون مبدعا. فيخسر الرّهانين معا.
من هو الفيلسوف؟ يتساءل حسن أوزال ، ويجيب بأنّ هذا السّؤال، يحتلّ صدارة الإشكالات الفلسفيّة كلّها، بل دون الإلمام به وأخذه بعين الإعتبار نخسر رهان الفكر ذاته. لأنّ ما تراكم لدينا عبر تاريخ الفكر من فلسفات يفترض على نحو مسبق وجود فيلسوف بلحمه ودمه. فالمسألة إذن تفترض أنّ ثمّة بالضّرورة خلف كلّ فكر مفكر ووراء كلّ فلسفة فيلسوف.
ويشير إلى أنّ كلّ مشروع إبداعي كيفما كان، إنّما هو في آخر المطاف حصيلة فوران ذات ونتاج حياة جسد. ويُعلّل ذلك قائلا:”حجتنا في هذا الصّدد الثَّورة العظمى الّتي عرفها تاريخ الفكر والّتي دارت رحاها وما تزال حول إشكاليّة الجسد من حيث كونه حقّ يستدعي الأمر إيلاءه ما يستحقّ من عناية، بتحريره من إواليات الحصر الأنطولوجي الّتي ما فتئت تنال منه وتعرقل مسيرته في الوجود. ذلك أنّ كلّ فكرة فكرة، إنّما تُنحت في ظلّ الجسد وبين ثناياه، فالفكرة على حدّ تأويل الفيلسوف الفرنسي “أونفراي” تتغذَّى من الجسد، من حالات قوّته كما من حالات ضعفه، من عنفوانه كما من انكساراته، من طاقاته كما من انهياراته. فالفكر نتاج الجسد مثلما هو قوس قزح نتاج تآلف مكوّنات ثلاث هي: الماء، الهواء وشعاع الشّمس”.
في كتاب “منطق الفكر ومنطق الرّغبة” نكتشف أنّ ردّ الاعتبار للفلسفة يتأتّى من الاعتراف بها أسلوبا للعيش قبل أن تكون رزنامة أفكار، ومشكلة حياة قبل أن تكون إشكالات معرفيّة. فالفلسفة على نحو ما تُقدّم إلينا اليوم شوِّهت من لدن مؤرّخين ينحدرون من المدرسة المثالية، حاولوا طمس معالم كلّ حياة فلسفيّة لا لشيء إلاّ لأنّها لا تنسجم والأخلاق الزّهديَّة. كما أنّ تاريخ الفلسفة الرَّسمي قام ضدّ نشوء باقي الفلسفات الهامشيّة وسعى إلى محوها من مسرح الأحداث، هكذا ظلّت الفلسفة الماديّة والمتعيّة واللاَّأدريّة وكذا النّفعيّة تعيش على نحو مضطهد.
لقد صار من الوهم الحديث عن الخير والشّر دونما استحضار الأفق المتعوي . ذلك ما يشدّد عليه حسن أوزال. وإذا كان الخير هو ما يزيد من قدر المتعة بينما الشّر هو ما يقلّص منها، فذلك ليس إلاّ لأنّ السّعادة تعني غياب الألم مثلما يعني الشّقاء غياب المتعة. لا لشيء إلاّ لأنّ الاستلذاذ هو غاية الرّغبة في صلتها بالمعرفة. فالحكمة ـ حسب المنظور الّذي دافع عنه ـ تكمن في الانصهار الممكن مابين الاثنين، من أجل الظَّفر بحيز أنطولوجي مشمول بالجماليّة والرَّوعة، ينتصر فيه الكيف على الكمّ والاستثناء على القاعدة والغندرة على الابتذال. فنحن، في المتعة لا نسعى وراء الكمّ ولئن كان قدر منه مهمّا، أكثر ممّا نسعى نحو شيء آخر، وحده الإنسان قادر على الإتيان به كإضافة نوعيّة؛ وحده الإنسان يستطيع البحث عنه، والإمساك بتلابيبه والعثور عليه، لأنّه من يملك دونما سواه فنّ حساب الملذات وانتقاء أجودها من أضحلها، مادام هو الكائن الواعي بذاته، صاحب العقل والوجدان في الآن نفسه.
وذلك ما يجعل سؤال الفلسفة يتقاطع مرّة أخرى بالسّؤال الأخلاقيّ. أي أنّه على نحو مَّا يبلور تأمّلات ويطرح تصوّرات على نحو مَّا يخلق شروطا جديدة للوجود، أو بالعكس ينشد نمطا من الحياة قار ومختزل ليس يقبل أدنى تعديل.
من ثمَّة يغدو التَّفلسف ـ حسب حسن أوزال ـ هو ذلك النّشاط الّذي عبره نفكّر في حياتنا ونحيا أفكارنا. فالفلسفة كما يذكرنا بذلك على لسان “أندريه كونت سبونفيل” ليست نسقا معرفيّا ولا مدرسة لأنّها لا تقدّم لنا وصفة جاهزة يُقتدى بها، أو ينبغي للآخرين الإقتداء بها، لأنّه لا أحد يمكنه أن يحلَّ محلَّنا في الحياة ولا أن يقوم مقامنا في التّفكير؛ بل وحده الّذي يحيا حياته يستطيع أن يمنحها أسلوبا وبعدا جماليّا أو العكس. الفلسفة بهذا المعنى فنّ للحياة لا نظريّة، وأسلوب للعيش لا معرفة. على هذا الأساس إذن يغدو الفيلسوف هو من يحيا حياة فلسفيّة أي حياة لا تنحصر في مهنة تأليف الكتب والتّفكير بداخل المكتبات فحسب، بل تتجاوز ذلك لترقى إلى حدّ يستحيل الفصل فيه ما بين الكتابة والحياة. مادام أنّ حياة الفيلسوف كما مشروعه ينبغي النّظر إليهما كوجه وقفا الورقة الواحدة. عندها تضحى الكتب عظيمة والحياة أعظم: إنّ فعل الكتابة ـ يخلص حسن أوزال ـ يكون عديم الجدوى حالما لا يكون هو ما يسعفنا على العيش ويمنح قيمة إضافية للحياة.