رولان بارث: من "منطق" اللّعبة الرياضية إلى منطق الزمان التاريخي
[size=40]22يناير 2016بقلم عبد السلام بنعبد العاليقسم: الفلسفة والعلوم الإنسانيةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
لا يكتفي رولان بارث، بإقامته لسيميولوجيا الحياة اليومية، بأن يبرز الدلالات الثاوية خلف تصرفاتنا العادية، وكيف تتحول ثقافة بعينها إلى طبيعة فـ"تتأسطر" المعاني، وإنما يسعى إلى أن يطرق قضايا الفلسفة الشائكة من خلال متابعته لليومي، ومن غير حاجة إلى أن يقتحم "تاريخ الفلسفة"، ويضيع بين نصوصه، ويغرق في بحر المفهومات المجردة والمصطلحات التقنية. على هذا النحو يعرض في "كتابه" ميثولوجيات لمسألة الزمان التاريخي، وقضية المفاضلة بين التوليدي والتاريخي عن طريق مقارنة يعقدها بين مباراة الملاكمة ومباراة الكاتش، يقول: "مباراة الملاكمة عبارة عن حكاية تُبنى تحت مراقبة أعين المشاهد. أما في الكاتش فالمعنى يُستمد من اللحظة، وليس من الدّوام والاستمرار. المشاهد هنا لا يشغل باله بعملية تكوُّن ونشأة، وإنما يترقب الصورة اللحظية لتجلي بعض الانفعالات. يستدعي الكاتش إذن قراءة مباشرة لمعان تتراكم دونما حاجة لربطها فيما بينها، فلا يهمّ المشاهد هنا مآل المعركة الذي يمكن للعقل أن يتتبعه. أما مباراة الملاكمة فهي تستدعي معرفة بالمآل وتبينا للغايات والمرامي وعلما بالمستقبل. بعبارة أخرى فان الكاتش حصيلة مشاهد لا يشكل أيّ منها دالة تتوقف على غيرها من المتغيرات: فكل لحظة تتطلب إحاطة كلية وانفعالا ينبثق في انعزاله وتفرّده من غير أن يمتد ليتوّج مآلا بأكمله".
مباراة الملاكمة حكاية تروي حركة موصولة تصدر عن أصل لتمتد في الزمان كي تسير نحو غاية، أما مباراة الكاتش، فإن دلالاتها تقف عند اللحظي الذي لا يتخذ دلالته من غاية الحركة ومسعاها، ولا يتوقف معناه على كلية خارجية. لا يعني هذا مطلقا أن الأمر يقتصر على المقابلة بين الزماني واللحظي، بين الحركة والتوقّف، بين التّاريخ ونفيه، بقدر ما يعني تمييزا بين تاريخ وتاريخ: فـ"تاريخ" مباراة الملاكمة تاريخ توليدي تكويني génétique، لا يدرك المشاهد معناه إلا إن هو بَنَى حكاية تربط الأصل بالغاية كي ترى في اللحظة، ليس معنى في ذاته، بل حلقة في سلسلة مترابطة يتوالد فيها المعنى ولا يكتمل إلا عند معرفة المآل. لذا يعلق بارث: "في الملاكمة تقع المراهنة على نتيجة المعركة". أي أن الأمور تكون في الملاكمة بخواتمها، أما في الكاتش "فلا معنى للمراهنة على النتيجة" لسبب أساس، وهو أن المعنى لا يمثل في حركة الأصل، ولا ينتظر المآل، وإنما يتجسد في غنى اللحظة. بيد أن هذا لا ينفي التراكم، ولا يستبعد التاريخ. لكنه ليس التاريخ التاريخاني، وهو ليس حركة حاضر ينطلق من أصل لينمو في اتصال وتأثير وتأثر حتى يبلغ النهاية والغاية والمعنى sens. ليس التاريخ هنا سريان المعنى ونموّه وتطوره développement في مسلسل مستمر و"سيرورة" processus متواصلة، وإنما هو إعادة اعتبار لكثافة اللحظة لكي تحتفظ بثرائها من غير أن تذوب في الديمومة القاهرة.
تنتقل بنا سيميولوجيا الحياة اليومية إذاً من دلالة اليومي، إلى معنى التاريخ، ومن "منطق" اللعبة الرياضية إلى منطق الزمان التاريخي. إلا أنّ ما ينبغي الإلحاح عليه هنا هو أن الأمر لا يتعلق مطلقا بذم التاريخ وتفتيت زمانه إلى آنات متناثرة، كما أنه لا يتعلق بإعلاء البنية على حساب النشأة والتكوين، على غرار ما كان يوجّه للبنيوية من انتقادات خلال ستينيات القرن الماضيgenèse/structure . لا يتعلق الأمر إلا بالتمييز بين تاريخ وتاريخ: تاريخ توليدي تكويني، وآخر يريد أن يكون مضادّا، يرفض أن يضحّي باللحظي في سبيل حركة كلية، بل إنه ينقل الكلية إلى مستوى الحدث كي يقف عند كثافته وغناه.
ولعل كل المسألة تؤول عند صاحب ميثولوجيات إلى التمكّن من الانفلات من النزعة التكوينية التوليدية من غير التضحية بالتاريخ. ذلك ما اعترف به بارث نفسه في كتابه عن نفسه عندما بيّن أن ما يأخذه على النزعة التوليدية هو خلطها الدائم بين الحقيقة والأصل. "ذلك أنها تعجن في العجين نفسه الأصل والحقيقة.. فترى في البحث عن الأصل الاشتقاقي مرمى كل معرفة". وهو يبين هنا كيف كان يحتال لمراوغة فكرة الأصل فيقول إنه "كان يسعى ألا يرى في الطبيعة إلا الثقافة، فيعمل بذلك على إقصاء الطبيعي ليحل محله التاريخي، واقتناعا منه، مثل بينفينيست، أن كل ثقافة ليست إلا لغة، فانه كان يرمي بالثقافة في الحركة اللامتناهية للخطابات المتراكمة (وليس الخطابات المتوالدة)".