معضلة المؤمنين بالقياس إلى العقلانيين، تتجلى أول ما تتجلى، في
كونهم فضلا عن اعتبارهم، أن الإنسان مذنب أصلا لأنه تَوارَتَ الخطيئة
الأصلية التي هي أساس كل الشرور التي ابْتُلي بها العالم البشري، يعتقدون
أيضا أن كل ما هو سلبي، إنما سقط علينا من السماء ولا جذور له في الأرض.
أصل الشر بنظرهم، أصل ما ورائي . والنتيجة لهكذا وثوقية، تعني ألا خلاص، من
كل ما يتربص بنا ككائنات حية إلا الخلاص التيولوجي و ألا حل للخروج من
الأزمة، إلا التكفير عن الذنب الأول، الذنب الذي ارتكبته حواء بطبيعة
الحال. تبعا لذلك، فكلنا خطاءون، تؤكد الشريعة، وخير الخطاءين، التوابون.
أي أولئك الذين تَخَلَّوا كليا عن إعمال الذهن و ألقوا بالعقل في سلة
المهملات كيما يتمسكوا بالإيمان و الاعتقاد. إننا، بحسب التيولوجيا،لا
يمكننا أن نؤسس لقاعدة أخلاقية،على أساس عقلاني-علمي،ويستحيل أن نستنتج
نظاما قيميا اعتمادا على مبدأ منطقي، لأن ثنائية الخير والشر، تقوم هنا،
على مسلمات ماورائية.
فالمؤمن على كل حال،لا ينظر إلى الخير والشر كمواضيع أرضية أكثر ما ينظر
إليها كمواضيع سماوية، مُنَزَّلة . هكذا يغدو الفعل الأخلاقي، رهين الأوامر
القطعية، المبتوتة في الألواح المقدسة بدل أن تضحى الأخلاق، قضية
بشرية-سياسية، تفترض التدبير العقلاني و التعاقد الاجتماعي. في سياق هذا
الجدل، تغدو الحقيقة لا زمانية، وأبدية بدل أن تكون مشمولة بالتبدل و قابلة
للتفكيك و البناء، هنا و الآن ويصير الإيمان بها عماد التقوى و صلب الخلاص
. لكن الإيمان على هذا النحو "إِنْ كان يُخَلِّص فليس إلا لأنه يَكْذِب
"(نتشه)، أي أنه يخدع ويوهم، يعمي الأبصار و يجعلك تستشعر السعادة حتى بين
براثن الشقاء، و أحضان البؤس . ولئن كان سحر الإيمان يفضي بصاحبه، إلى أن
يغدو بلغة العصر خارج التيار"hors raiseau"،أي كائنا مهزوزا و مستلب العقل،
تكاد أن تتعطل عنده كل إمكانات الحياة، فذلك ليس سوى لأنه مقرون دوما
بالمتعالي، ومتوقف على هذا النومين الذي لا يمكننا إدراكه عقليا، و المدعو
الله . و الحال أن مفهوم الله، كما ألح صاحب "ما وراء الخير و الشر"، إنما
ابتُكِر كنقيض لأطروحة الحياة،و ينطوي على كل ما هو ضار و مؤذ و ناقم و
حاقد على الحياة، كما ابتُكِر، مفهوما "الآخرة " و "العالم
الحقيقي "بغاية تبخيس هذا العالم الذي نحياه، و حتى لا يبقى لحقيقتنا
الأرضية، أيَّ هدف، و أي منطق و أية مهمة . "( Nietzsche , Ecce homo ,
Pourquoi je suis un destin ,§ 8. ). على هكذا أساس، ما كان للأديان إلا أن
تَشُنَّ، حملة تطهيرية تاريخية ضد العقل ؛ فباتَتْ لا تسمح بإعماله إلا في
حدود، و نطاق إتيان الشعائر الدينية، من قبيل :ضبط مواقيت الصلاة و مواعيد
الأكل و الجنس و الصوم و العمرة . . . من ثمة نستوعب كيف أضحى العقل منذ
قصص الخلق الأولى، مقرونا بنفحة شيطانية،بل وجسَّد جوهر الصراع الأبدي،
مابين الله من جهة و الشيطان من جهة ثانية . فبقدرما الأول رمز، للانصياع و
الخضوع بقدرما الثاني،دلالة على التمرد و العصيان . الله يفترض مريدين و
أتباع أما العقل فلا تقوم له قائمة إلا على النقض و الإبرام . و إذا كانت
دينامية الأول عمودية، تروم تقسيم الإنسانية إلى فقراء و أغنياء، كفار و
مؤمنين،أسياد و عبيد فدينامية الثاني أفقية، تعمل كأداة لتفكيك و هد صرح
هذه الثنائيات بالذات . نلمس حدة هذا الصراع عندما ندرك، كيف راحت كل
العلوم مثلا، تُختزل بالنسبة للمنطق الإيماني في معرفة القِبْلة و تُسخر
لإتيان مناسك الحج ليس إلا.
أما عندما تكون في خدمة الحياة، و تُسعِف على التوسيع من نطاق الحرية
البشرية، فهي بلا شك،منبوذة، بدعوى أنها تشرك بالله ثارة، و تَمُسُّ
بمشيئته المطلقة ثارة أخرى . يكفيني حجة على ذلك، التذكير على سبيل المثال
لا الحصر، بما وقع، لغاليليو، الذي حُوكِم سنة 1633 لمجرد قوله بمركزية
الشمس، و قبل ثلاثون عاما من هذا التاريخ، نُصِبت أيضا محاكمة قاسية،
لجوردانو برونو، لنفس السبب، فتم حرقه يوم 17 فبراير 1600 . هكذا جرى
تجريم، نظرية مركزية الشمس، و تم رفض أي استقلالية للعلوم المعاصرة، التي
تقوم على المنهاج التجريبي . مما نتج عنه، انتصار هائل للتيولوجيا على
العلم، وزحف الخرافة على أنقاض العقلانية، لوقت طويل ؛ولا أدل على ذلك،
مِنْ كون النظرية السالفة الذكر،ظلت لأزيد من ثلاثة قرون من الزمان (منذ 22
يونيو 1633) مرفوضة من لدن الكنيسة، و لم تَنَلْ حقها من الاعتراف إلا في
31 أكتوبر 1992، من طرف البابا يوحنا بولس الثاني . وما حدث في مجال علم
الفلك ، حدث أيضا في مجالات العلوم الأخرى.
فالتجريم هو المنطق السائد، و استئصال العقلانية هو النهج الذي طبع على
الدوام، أخلاق التيولوجيا . إذ على هكذا أقنوم، جرى أيضا، تجريم تشريح
الأجساد، في عز تطور الطب، مع مجيء فيزال (1514-1564)، و لم تسلم نظرية
داروين التطورية(1809-1882)، بدورها من الحصر بالرغم من مشروعيتها، كما تم
تحريم العازل الواقي وكذا حبوب منع الحمل(1956) منذ اكتشافهما، مع أنهما
حررا الإنسان من قدر الإنجاب، ومكنا المجتمعات من تنظيم عملية النسل، و
يَسَّرا على الفقراء ممارسة الجنس دونما خشية عواقب التوالد المكلفة، لا بل
ودونما نقل جرثومة الخطيئة الأصلية، التي على أساسها تشكَّلتْ فكرة الشر
التيوقراطية . هذا،علما أن الرغبة الجنسية، لم تتخلص مما علق بها من
سلبية إلا بعدما اكتشف الميكروسكوب الذي مَكَّن العلماء من تحديد ماهية
الحيوان المنوي سنة 1677، وكذا البويضة (1683)، مما يَسَّر بالتالي، الفهم
العقلاني للتزاوج، مابين الاثنين،و تَشَكُّل اللاقحة . وبفضل استماتة
العقلانيين، تطورت الأشياء ليضحى السبيرماتوزويد ( سيما بعد سنة 2000 حيث
تم ضبط الجينوم البشري )لأول مرة في التاريخ،كائنا رقميا، و يدخل مرحلة
الحساب الدقيق بعد أن كان مرتع الهلوسات التيولوجية . نفس الشيء حدث كذلك،
عندما توصل ثلة من الأطباء، إلى اكتشاف تقنية زرع الأعضاء، سنة 1959، و
استطاعوا أن يمنحوننا فرصة أخرى في الحياة . فصار متوسط العمر يطول ، و
نجحت الإنسانية في التخلص كليا من مجوعة من الأمراض الفتاكة، متنعمة بفضل
العقلانية بسعادة لا تقدر بثمن ؛هي سعادة يستشعرها من يكون على مشارف
الموت، فيفاجأ بإمكانية، بَعْثِه من جديد ، كما يُحِس بها من يتناول
المسكنات فيلوذ، تَوّا، بالأتراكسيا بعد أن ذاق مرارة آلام المرض.
مسيرة العقلانية، إذن، مسيرة شاقة، تكبَّدْنا معها ، و ما نزال، نتكبد،
ويلات تلو الويلات وقدَّمت الإنسانية من أجلها، ضحايا لا تُعَدّ، ولا تُحصى
! ولنعلم، أن حجم معاناة كل من ساهموا في مشروع التنوير، سواء في الفلسفة
أو الآداب أو العلوم الأخرى، جراء جبروت اللاهوت، وعنف المنطق الإيماني،
الإقصائي، كان في غاية الضخامة؛ ويكفينا توضيحا لذلك، التذكير مرة أخرى،بأن
نظرية مركزية الشمس، التي قال بها كوبرنيك سنة 1543 و أكدها برونو، ثم
برهن عليها غاليليو بالتجربة و الملاحظة، سبق و أن قال بها Aristarque de
samos سنة 250 قبل الميلاد، لكنها أُجْبِرَتْ على أن تبقى متنحية و على
هامش المسار التاريخي ما يناهز 18 قرنا من الزمن . على هذا النحو نلمس حدة
تأخرنا، جراء، آليات الإقصاء التي برع في نهجها المنطق الإيماني، إذ لا
مناص لكل من أبدع أو سعا إلى رفاه الإنسانية ، من المطاردة و المحاكمة .
فمنذ عهد ليس ببعيد، حاول الطبيب الروسي فرونوف، البرهنة على أن عملية
الإزدراع، ليست مجرد، عملية بسيطة بل هي آهلة بإمكانات مذهلة، و تبشرنا
بميلاد عصر إنسان جديد. إنسان، مجتث الجذور،متعدد الأصول،لأنه لأول مرة في
التاريخ، يمتزج فيه، التقني بالبيولوجي،ويختلط فيه الحيواني بالبلاستيكي .
هكذا فبعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر،التي معها تحقق انتشار كبير
لوسائط النقل،من سكك حديدية و سيارات و طائرات، و بعد ثورة وسائل الاتصال و
البث الفوري،التي تجلت بوادرها سواء عبر اختراع الراديو كأداة للسماع عن
بعد أو التلفزيون كوسيلة للرؤية عن بعد،أو الانترنيت كتكنولوجيا للتحكم عن
بعد و العمل عن بعد،و التمرد عن بعد (ثورة الفيسبوك و اليوتوب كمثال)و كذا
العلاج عن بعد. . . إلخ أقول بعد هاتين الثورتين، ها نحن على حد تأكيد
فيريليو، فيلسوف التقنية بامتياز أمام ثورة لا مثيل لها في تاريخ
البشرية:"إنها ثورة الإزدراع،التي لها القدرة على تجهيز و تعمير الجسد الحي
بواسطة معداة تكنولوجية مُهيِّجة، كأنما الفزياء(الميكروفزياء)قد
تَوَلَّتْ من الآن فصاعدا مهمة منافسة الصناعة الكيميائية للمواد الغذائية و
المنتجات المنشطة "(Paul Virilio,l’art du moteur,éd. Galilée,1993,P.
133) . بفضل الابتكار العقلاني،إذن استطاع الإنسان أن يعيد إنتاج نظام
الحياة،و أن يتحكم في إيقاعها بل و حتى أن يستعيض، عنه أحيانا أخرى. وبعدما
تعاطى أو أَلِفَ على الأصح، ولمدة طويلة، أَكْلَ المواد الفلاحية و
المنتجات الطبيعية، بات "بإمكانه اليوم أن يتناول بفضل العلوم البيوتقنية
كل أنواع المنشطات، ليس فحسب المواد المنشطة الكيميائية و الفلاحية بما
فيها من مهيجات حديثة معروفة كالكحول و القهوة، السجارة و المخدرات أو
مسهلات الإبتناء، بل أيضا المواد التكنولوجية من قبيل المنتجات
البيو-تكنولوجية و الأقراص المنبهة القادرة على إثارة قوانا العقلية
"(فيريليو،مرجع مذكور ص . 134 ). واستئنافا لحديثنا عن فرونوف، بعد هذا
التوكيد على قدرة العقل الإنساني على مطاردة اللانهائي و اختراق المألوف،
نعود للقول بأن الرجل من كثر هوسه العلمي وفضوله المعرفي، أبى إلا أن يركب
مغامرة البحث و الاختبار، فأقام تجارب هنا وهناك، في أوربا و أفريقيا،
راميا إلى فسح المجال أمام عبقرية العقل، فاستطاع أن يبتكر أسس علم التجميل
و مقاومة الشيخوخة، و إليه يعود الفضل اعتمادا على أبحاثه في ابتكار
الفياغرا، التي ينعم بمحاسنها اليوم ملايين البشر.
لكن الكهنوت، لم يجد كجزاء له على هذا العمل الجبار،إلا أن يشطب على
اسمه من لائحة الأطباء الدوليين، ليعيش متنكرا له و لم يعتذر له الجهاز
الطبي الأرتودكسي، إلا مع حلول سنة 1923 . السر في ذلك، إن كان يعود إلى
شيء، فإنما يعود إلى ما تنطوي عليه، تجاربه من خطورة،و ما أحدثته اختباراته
الطبية، من خلخلة وزلزال،كاد أن يهز القاعدة الرئيسية التي عليها ترسو
الخرافة الإيمانية وأن يأتي كليا، على تلك الفكرة العمود الفقري،
للتيولوجيا،والتي هي فكرة الروح. كيف؟لأن صاحبنا،كشف بالملموس، و دونما أي
غلو نظري،بأن الإنسان ليس إلا مجرد تنسيقات مابين مجموعة من الأعضاء.
فالحياة تستمر، بحسبانه، طالما،استمر التناغم مابين أعضاء هذا الأوركسترا
العظيم؛ وتنتفي تبعا لذلك،بانتفاءه ليس إلا. فالموت يَحُلُّ فينا، حالما
تخار كل القوى التي بها نقاوم القصور. وإذا كانت الحياة بتعبير" بيشا"، هي
مجموع القوى التي تقاوم الموت،فالاستمرار فيها، أو عدمه، هو ما أضحى يتوقف،
على مقدرتنا أو عجزنا على، استبدال عضو مريض بآخر صحيح. وليس يهم،هاهنا،
لا جنس و لا نوع ولا أصل هذا العضو، أكثر مما يهم مدى قدرته على أداء
الوظيفة المنوطة به،استرسالا لعملية التنسيق السالفة الذكر. إن الإنسان
بالنسبة لطب اليوم ليس إلا جسدا والحياة لم تعد تفهم على نحو،اثنيني، خرافي
و أسطوري،أكثر مما صارت تتحدد على نحو مادي عيني،كما أوضحنا. بعد هذا
الجرد البسيط، الذي توخينا منه تبيان مدى المعاناة التاريخية التي تكبدها
رواد العقلانية، يبقى المدهش إنما هو كون، المناوئين لهم، باسم الأسطرة و
الخرافة، هم أول المستفيدين من منتجات العلم . ويكاد، يصدق عليهم، هنا،
المثل الشعبي، الذائع الصيت، التالي :"يَنْدَبْ مْعَ السَّارْحْ أُو يَا
كُلْ مْعَ الذِّيبْ ".
لكن هلا سألنا المنطق الإيماني، لِمَ لَمْ تنفع الكفارة، في النهوض بأحوال
أمم المؤمنين ؟و في إحراز السعادة ؟ لماذا بقي العالم مليئا بكل ضروب
الشر، طيلة مسار التاريخ البشري؟لماذا لم يستطع الإيمان مهما تقوى، أن يخلص
العالم من الأمراض و الأوبئة،كما من الحروب و التقتيل؟إن المنطق
الإيماني ، بدل الوعي و الاعتراف، بأنه المسئول عن بقاء دار لقمان على
حالها، يسترسل في عَنَتِه، ويُصِرُّ،جاهدا على عَزْوِ الشر إلى ينبوع
السماء، مصادرا بذلك، قدرة الإنسان على الفعل. مما نتج عنه إلغاء منطق
العقل، وتقليص كبير لحيز الحرية وبالتالي شل كل إمكانيات الابتكار و
الإبداع البشريين . لكن لا يمكنني أن أنكر، إطلاقا أنه نجح إلى حد ما في
مهمته تلك، حتى كاد أن يعطل لقرون طويلة، مسيرة التطور و يعرقل مسلسل
النمو، و الرفاه، الذي ناضل و ما يزال يناضل من أجله العقلانيون.
في إحدى شذراته بعنوان وهم النظام الأخلاقي، يكاد نتشه، يلخص ما رمينا إلى
توضيحه قائلا :" ليس ثمة من عدالة أبدية،تفترض التكفير عن كل خطأ و تلزم
بالتأدية عنه(…)ليست الأشياء هي ما يزعج الناس، بل تصوراتهم لهذه الأشياء
التي لا وجود لها. "(Nietzsche, Aurore ,Traduction D’henri
Albert,Librairie Générale Française 1995,Frg. 563 ) . بديهي إذن أن
الإنسان بالفعل ، نتاج آرائه، وحصيلة ما يحمله من اعتقادات . فالبؤس أو
السعادة تصور،و منظورية قبل أن يكون واقعا و حالة معاشة . فلا يكفي مثلا،
امتلاك الثروة لتحقيق فرحنا، طالما لم نمتلك أسلوبا للعيش، كفيلا بجعلنا
نسمو بحيواتنا،باعتبارها الرأسمال الحقيقي الذي ما بعده رأسمال . من ثمة
أهمية العقلانية في الحياة.
فالعقلانية، خلافا للنزعة الإيمانية، هي ما يسعفنا على أن نحيا أفكارنا،
على نحو ما نفكر في حيواتنا. إنها هذا الفن، في تدبير ضرورات الوجود،بحيث
يلزمك للاستمرار،تغيير الأفكار تماما مثلما تغير الثياب. العقلانية، تفيد
أن تعرف في كل حين، كيف تنظف حياتك، كيف تعمل على تنقيحها مثلما ينقح
المبدع عمله الإبداعي، ومثلما يسهر الإنسان العادي على تنظيف جسمه من
الأوساخ .
العقلانية فن قبل أن تكون حقيقة و أسلوب يستدعي التمرس قبل أن يضحى نمط
عيش. إنها اجتهاد لا كسل و حركة ضد سكون، و جريان بدل ثبات . أما الإيمانية
فهي انتصار لوهم الخلود و تبخيس للحياة بدعوى أن لا قيمة ترجى منها . فما
الحياة بحسب هكذا رأي إلا معبر،وقنطرة، الغاية منها المرور بعد عملية
ابتلاء، إلى العالم الأخروي، عالم الخلود و الجزاء، حيث تتحقق نبوءة: "فمن
يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ". بديهي، جدا أن
تصورا ، يتوقف على هكذا خطاب خرافي ، هو ما يفضي بصاحبه إلى التحجر و
الجمود . فالمؤمن حيثما كان هو من يعيش على نفس الوثيرة،ويغرف من الصحون
عينها . إنه ابن الطريق المستقيم، وسليل الصراط القويم . يكره الإعوجاجات
مهما كانت من طبيعة الأشياء . كيف لا وهو حليف الدوكسا، و مناصر الرأي
الواحد . أما العقلاني فابن الزيغان و لِمَ لا التيهان . لنقل أنه
اللاوصاية و اليتم عينه . نموذجه الأمثل هو النهر . آه . . . على نهر
هيراقليطس، الذي يزج بكل شيء في حركة، بما في ذلك الحقائق و التمثلات بل و
الأفكار ذاتها. أما المؤمن فشأنه ، شأن الأفعى التي لا تغير جلدها، إذ
سرعان ما تنتهي كما قال صاحب أفول الأصنام، بالموت و الفناء.
يكفينا أن نتصفح التاريخ لندرك مدى معضلة المجتمعات التي قوامها
التيولوجيا، إذ بحكم انغلاقها، و رفضها لرياح العقلانية، تكبدت و ما تزال
تتكبد خسائر لا حصر لها، على كل المستويات سواء منها الاقتصادية أو
السياسية أو الاجتماعية . ولنا في المغرب، أحسن مثال،بحيث لا أحد يخفى
عليه، أن مطلع القرن العشرين، كان مرحلة تاريخية للنهوض على شتى المجالات،
إلا أن التصور اللاهوتي السائد، حال دونما استفادة أكبر، مما عرفه العالم
من تقدم تكنولوجي و اختراعات تقنية . يكتب محمد سبيلا في كتابه بعنوان
:"المغرب في مواجهة الحداثة":"من المستحدثات التي قام حولها جدل كبير في
أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين آلة
التلغراف. ففي الوقت الذي كان فيه السلطان الحسن الأول قد تقبلها و جربها و
أدخلها إلى قصره، بل استعملها بنفسه في إرسال الرسائل خارج القصر بدل
الخدم المكلفين بذلك، و أظهر اهتماما بكل "المخترعات الوقتية"كآلات توليد
الضوء الكهربائي التي جربها في قصره بمراكش، و السكة الحديدية و التلفون و
آلة التصوير و آلة الكلام (الفنوغراف )،كان الفقهاء وبعض رجالات الدولة
يتساءلون عن مدى شرعية استعمال التلغراف، ومدى شرعية الاعتماد على الأخبار
التي ينقلها وخاصة منها ما تعلق بالشرع و الشعائر الدينية، كحلول هلال
رمضان أو هلال العيد . "(محمد سبيلا، المغرب في مواجهة الحداثة منشورات
جريدة الزمن، 1999، ص . 13 -14 ) و يضيف في موضع آخر أن "الفقيه أحمد بن
عبد المالك العلوي، قاضي فاس و مكناس في عهد الملك عبد الرحمان بن هشام، قد
وضع تأليفا في تحريم السكر المستورد من أوربا باعتباره بضاعة جديدة لا
يعلم حكم الشرع فيها . و يقال إنه كان لا يقبل شهادة من يشربه . "(ص. 20).
واضح، وضوح الشمس، أن ثنائية الحلال و الحرام، التي ساهمت في تعطيل مشروع
التحديث بالمغرب،منذ ما يناهز قرن من الزمن،مما انعكس سلبا على الدهنيات،
دهنيات أضحت تحريمية بتعبير صادق جلال العظم، هي الآلية نفسها،
المُفَعَّلة لأزيد من20 قرنا من تاريخ البشرية،ضد كل من تجرأ على استعمال
العقل و مساءلة علل الظواهر الطبيعية. ضد العقلانية إذن، كان ثمة صنم
الإيمانية ينتصب. الأولى رمت إلى تحرير الإنسان بينما الثانية أسرعت
بموته،لأنه بحسبانها، ينافس العناية الإلهية. عناية فرضت سلطانها، للأسف
حتى على فيلسوف من طراز كانط، حينما خانته الجرأة و راح يستسلم لحبال
الميتافيزيقا، داعيا إلى ضرورة وضع حدود للعقل، كيما نفسح مجالا للإيمان،
ونبقي على الشر كسر لا يمكننا استئصاله. فهل لنا ما يكفي من الجرأة، لإعمال
العقل،و إنقاذنا من هذا النزوع التخريبي، الذي ظل يجرم الفعل الإنساني
؟عذري في ما أنا بصدده من مفاضلة، إن كان لا بد لي من عذر، فإنما هو
اعتباري أن الخير، الذي هو ما به تتحقق كل الحاجات الإنسانية، و يُسَاهَمُ
في تطوير شروط وجودها من قبيل :العدالة، المساواة، الحرية و الكرامة و
بكلمة واحدة، السعادة، يكاد يستعصي طالما لم نجعل من الثورة العقلانية
رهانا . فالخير،هو ما يسمح بالتمرد على الرجعية؟ أما الشر، فهو بخلاف ذلك،
ما يحول دونه، و يعمل على عرقلة كل تغيير،ليس إلا.