الأنثى الخالدة ترفعنا إلى السَّماء
غوته
********
الحبّ!
الحبّ بين الرّجل والمرأة!
لعلّها على مرّ العصور وفي مختلف الحضارات الكلمة الأكثر تردّدا على ألسنة النّاس، والفكرة الأكثر إلهاما لخيالات الفنّانين والأدباء والمفكّرين!
إنّه فطرة فينا، وعامل جوهري في تكويننا الوجدانيّ، وهو الشّعور الأكثر حرارة وسحرا، والقوّة الخلاّقة الّتي تجعل وجداننا يتألّق ويتوهَّج، ويشع بضوء إنسانيّ مشرق، فنرى في رُوائه العالم في صورة مختلفة، صورة يصبح فيها لوحة إبداع كوني حيّة، مزيّنة بأبهى وأحلى الألوان، ومعطّرة بأشذى العطور، وغنيّة بأجمل وأنبل المعاني.
إنّه حالة قد يحياها الإنسان البسيط في أكثر أشكالها بساطة وعفويّة وقربا من الطّبيعة، و قد يحياها الفنّان أو المفكّر أو العالم وأمثالهم، فتأخذ لديهم أبعادا ومضامين وتجلّيات مختلفة، وتدخلهم إلى آفاق ورحاب وأعماق غير مسبوقة، ليكتشفوا من خلالها معان جديدة للحياة والوجود، ويدركوا عبرها ذرا أعلى في مراقي الذّات الإنسانيّة.
لكنّ الحبّ ليس حالة منفصلة يحياها الإنسان بمعزل عن ثقافته وبيئته الاجتماعيّة، و ا هو شكل موحّد يختبره النّاس رغم اختلاف العصور والظّروف والوقائع، فالحبّ يتداخل دوما -فاعلا ومنفعلا- مع العناصر الأخرى المكوّنة لكلّ من الذّات الفرديّة والبيئة الاجتماعيّة، والمؤثّرة فيهما، وهذا يدفعنا للسّؤال عن طبيعة الحبّ، وأسبابه، وعلاقته بالعوامل الفاعلة الأخرى في كلّ من الفرد والمجتمع.
وربّما يكون من أكثر هذه الأسئلة إلحاحا، الأسئلة عن علاقة الحبّ والجنس، وعن طبيعة الحبّ بحدّ ذاته، ودور كلّ من المحبّ و المحبوب في نشوئه، وتأثير الظّروف والعوامل الموضوعيّة المحيطة عليه، وهذا ما سنذهب إلى النّظر فيه في الفقرات التالية.
1- العلاقة بين الحبّ الجنس:
إنّ ما يجمع الحبّ والجنس هو كون كلّ منهما دافعا طبيعيّا جوهريّا يدفع كلا من المرأة والرّجل نحو الآخر، وفي تفسير العلاقة بينهما تختلف المواقف بين من يطابق ومن يميّز بينهما.
فبالنسبة للمطابقين، يُنظر إلى كلّ من الحبّ والجنس كمظهرين لنفس القوّة الدّافعة نحو الجنس الآخر، فيفسّر الجنس بأنّه تمظهر لهذه القوّة على المستوى الجسديّ الحسيّ، فيما يفسّر الحبّ بأنّه تمظهرها على المستوى العاطفيّ الشعوريّ، وهنا يصبح من الوارد الكلام عن:
- حبّ جسدي، وهو الجنس.
- حبّ رومانسي، وهو الحبّ العاطفي.
[size]
ويصبح من الممكن في هذا السّياق الكلام أيضا عن:
– حبّ عقلي، وهو الإعجاب أو التّقدير.
لكنّ هذه العلاقة الخطيّة التسلسليّة المترابطة بين الحبّ والجنس، يمكن مقابلتها بعلاقة أخرى، يمكن وصفها بأنّها علاقة استقلال وتوازٍ وتفاعل، وفيها ينظر إلى الحبّ والجنس كقوّتين مستقلتين متمايزتين.
في هذه المقاربة ينتمي الجنس إلى الجانب البيولوجيّ الغريزيّ في تكوين الإنسان، وفيه يتشابه مع الكثير من أنواع الحيوانات المتطوّرة وفي طليعتها الثّدييات، وهو هنا نشاط جسدي متشابه في شكل أدائه ووظيفته البيولوجيّة عند كلّ من الإنسان وهذه الحيوانات.
لكنّ هذا لا يعني بتاتا تطابق النّشاط الجنسي عند كلّ من الإنسان والحيوان، فهذا النّشاط هو عند الحيوان نشاط طبيعي روتيني محض، وكلّ الحيوانات المنتمية لنفس النّوع كانت وما زالت تقوم بنشاطها الجنسيّ وغير الجنسيّ منذ نشأت على الأرض وحتّى الآن وفي مختلف بقاع الأرض بنفس الشّكل، ودون أي تغير أو تطوّر.
أمّا الإنسان فهو كائن جدّ مختلف! فهو ليس مجرّد كائن طبيعي، بل كائن اجتماعي وثقافي و تطوري، وهو ليس مكوّنا من بنية فيزيولوجيّة وحسب، بل لديه بناه السيكولوجيّة والعقليّة والروحيّة، ومع أن شيئا من السيكولوجيا والذّكاء يتواجدان بدرجة أو بأخرى عند هذا النّوع أو ذاك من الحيوانات، إلاّ أنّ وجودهما بدائي وجدّ محدود، ولا يلعب أدوارا جوهريّة في حياتها كما هو الحال عند الإنسان.
الجنس عند الحيوان يقوم على الليبيدو المحض، أمّا عند الإنسان فيتداخل الليبيدو الغريزي الفيزيولوجي مع السيكولوجيا والفكر والثّقافة وغيرهما من العوامل الذاتيّة والموضوعيّة ليشكّل شكلا آخر للجنس، شكلا يمكننا تسميته بـ “الأيروس”.
وفي الوقت الّذي يتمظهر فيه الدّافع الجنسي عند الحيوان كليبيدو جسدي غريزي وحسب، فهو عند الإنسان يتمظهر أيضا سيكولوجيا وفكريا على مستوى الفرد، وثقافيا على مستوى الجماعة، ليعيش الإنسان حياته الجنسيّة بشكل تتفاعل فيه عواملها الجسديّة والسيكولوجيّة والفكريّة الذاتيّة، وتؤطّرها النّواظم والضّوابط الثّقافيّة والاجتماعيّة الموضوعيّة.
وبينما يحافظ الحيوان تماما على شكل أدائه الجنسيّ البسيط والعفويّ، نجد الإنسان بشكل مستمرّ يغيّر ويطوّر نشاطه الجنسي ومواقفه من الجنس، ويكوّن تقاليد وعادات وأعراف، بل وفلسفات ومعتقدات جنسيّة متغيّرة في الزّمان والمكان والظّرف، فتارة يوضع فيها الجنس في مكانه الطبيعي المعتدل، فيما يرفع تارة أخرى إلى مستويات عالية من التّبجيل والاحترام، بل وحتّى التّقديس أحيانا ليصل حالة ما يسمّى بـ”الجنس المقدّس”، ولكن بالمقابل يمكن أن يـُحـَطّ قدره ومكانته ليُرى فعلا دنسا نجسا حقيرا، ويتمّ التّعامل معه كشرّ لا مفرّ منه؛ هذا إضافة إلى أنّ التّقاليد البشريّة تنتج باستمرار تغيّرا وتعدّدا في أشكال الجنس المشروعة على مدى التّاريخ وامتداد الجغرافيا.
في كلّ هذا وذاك وذلك، الحبّ له موقعه المستقلّ، فهو لا ينتمي إلى المجال الفيزيولوجيّ، ولا إلى المجال الشّهوانيّ، اللّذين ينتمي إليهما الجنس على امتداده من الليبيدو إلى الأيروس، فالحبّ ينتمي إلى المجال العاطفيّ والشّعوريّ عند الإنسان، وهذا مجال إنساني بامتياز يتميّز فيه الإنسان عن سواه من الكائنات، لكنّه أيضا مثل الجنس ليس منفصلا عن الفكر والثّقافة والظّروف المحيطة، كما أنّه بدوره متداخل ومتفاعل مع الجنس.
2- العلاقة بين الحبّ و الجنس والثّقافة:
العلاقة بين هذه الأطراف الثلاثة وثيقة وقويّة، فالثّقافة تؤثّر مباشرة على كلّ من الحبّ والجنس على حدة، وتؤثّر بشكل غير مباشر في التّأثير المتبادل بينهما، وقد تمّ التّطرق أعلاه إلى تأثير الثّقافة المحيطة على الجنس، وهي تؤثّر تقريبا بنفس الآلية على الحبّ، فقد تضعه في موقع وسطي مرحبا به، وقد ترفعه وتعظم شأنه، وقد تعيبه وتسفهه، بل وحتّى تحاربه! وفي ثقافتنا العربيّة لدينا صورة جدّ متدنية ومأزومة للجنس، لكن وضع الحبّ ليس أحسن حالا، فبالرّغم من كثرة ما لدينا قديما وحديثا من قصص الحبّ، وأشعاره وأنثاره وأغانيه، وما شابه، فما تزال حتّى اليوم علاقة الحبّ العاطفيّة مرفوضة غالبا، ومقرونة بالعيب والشّذوذ في معظم مناطق عالمنا العربيّ! فالعلاقة بين الجنسين بكلّ أبعادها ما تزال لدينا محكومة بأقسى التّابوهات غير السّوية.
إنّ تأثير الثّقافة على كلّ من الحبّ والجنس- كما سلف القول- ينعكس بشكل جوهري على العلاقة بينهما، ففي البيئات المحافظة عموما، الّتي يقيد فيها الجنس بقيود صارمة، والّتي غالبا ما تحاصر الحبّ نفسه بنفس الدّرجة من الحظر والتّقييد، يجد الحبّ بالرّغم من ذلك مجالا أوسع للحضور من البيئات المتحرّرة، الّتي تضعف فيها القيود والحدود الجنسيّة، فينمو فيها الشّكل الاستهلاكي للجنس ويتصدّر المشهد على حساب كلّ من الحبّ العاطفيّ وأشكال الأيروس الرّاقي المرتبطة بنظم ثقافيّة ودينيّة محافظة محدّدة، كما هو الحال مثلا لدى بعض المذاهب الهنديّة والتبتيّة وغيرها، حيث يعطى للجنس صفة المقدّس.
وفي علاقة الحبّ والجنس، ووفقا للثّقافة المحيطة بهما، وتداخلات العوامل الذاتيّة والموضوعيّة في محصلتها على مستوى الفرد، قد نجد التّوافق والتّكامل، أو التّعايش، أو قد نجد التّضاد والتّنافي! ففي حالة ثقافيّة تنظر إلى الجنس كنشاط دنيء ومنحطّ، سيجد الحبّ نفسه تلقائيا في موضع تضاد مع الجنس، وستتعالى نظرة المحبّ إلى المحبوب عن المستوى الجنسيّ، وهنا قد يحدث صراع بين هذين الدّافعين يزعزع الاستقرار الدّاخلي للشّخص، أو ربّما تضعف الشّهوة الجنسيّة تجاه المحبوب، وقد تضمحل مع تنامي الحبّ؛ وهذا أيضا ممكن الحدوث أحيانا حتّى في حالة نظرة طبيعيّة سليمة، بل وحتّى إعلائيّة للجنس، فمن الممكن أن تحدث حالة من التّسامي العاطفي إلى درجة التجاوز الجنسيّ! لكن في الجهة المقابلة، يمكن أن نجد حالات مختلفة، يتكامل فيها الحبّ والجنس، فيرقـّي الحبّ أو الثّقافة، أو كليهما معا، الجنس ليعطيانه صفة العلاقة الحميميّة النبيلة والسّامية المناظرة للحبّ؛ كما يمكن لهما أن يعطيا للجنس صفة لا تتعدّى حدود الحاجة الطبيعيّة الاعتياديّة؛ وفي ظروف معيّنة محكومة بعوامل فرديّة أو مجتمعيّة أو كلاها معا يمكن للجنس أيضا أن يوجد بلا حبّ، وهذا ممكن في كلّ من البيئات المتحرّرة الّتي ينتشر فيها الجنس الاستهلاكي العابر، والبيئات التقليديّة الّتي يسود فيها الزّواج التّقليدي، المحكوم بالعادات والتّقاليد والأعراف، والّذي غالبا ما يغيب عنه عنصر الحبّ قبل الزّواج وخلاله لاحقا، بل ويغيب عنه في الحالات الشّديدة المحافظة حتّى عنصر الإرادة والاختيار وبالأخصّ بالنسبة للمرأة، وهنا تقوم علاقة بين طرفين جنسيين لا تربطهما جنسيّا أيّة عاطفة فعّالة، ولا يجذبهما إلى بعض إلاّ الرّغبة الغريزيّة، والّتي يمكن حتّى أن تكون غير متبادلة في بعض الحالات، فيتدنّى الجنس في هذه الحالة إلى بعض من درجاته الدنيا، ليصبح شكلا من أشكال الواجب، أو الفعل التقايضي.
3- طبيعة الحبّ وماهيته بين الذّات والآخر:
الحبّ شعور وعاطفة، جذره فطري، وهو ينتمي إلى مملكة القلب، مقصودا بالقلب المنظومة العاطفيّة الشعوريّة عند الإنسان، ويبقى دور العقل – من حيث المبدأ- مقصورا على مراقبته والاعتراف به أو تعزيزه، أو العكس، ولذا يصعب علينا أن نجد أجوبة منطقيّة عن الأسئلة المرتبطة بالحبّ من قبيل “لماذا نحبّ الجنس الآخر، وماذا نحبّ فيه بالتَّحديد؟”.
لكن نستطيع أن نقول أنّ طبيعة الإنسان مفطورة على اللاّمحدود، وعلى السّعي الدّائم إلى الكشف والاختبار والتّفاعل مع ما تكتشفه وتختبره والارتقاء بواسطته إن كان قابلا لذلك؛ وهي أيضا مفطورة على حبّ الجمال، وهناك في داخلنا معياريّة إحساسيّة كامنة وفاعلة لمعايشة الجمال وعرفانه واختباره والحسّ به؛ ومفطورة أيضا على دافع التّفاعل مع الموجودات الأخرى والتّقارب معها بقدر ما يتجسّد فيها من جمال، وعلى أنسنة وتمثّل كلّ حدّ أو درجة تدركهما في الكشف والاختبار الوجوديّ لتجليات الجمال وحضوراته.
والجنس الآخ، تبعا لطبيعتنا الجنسيّة، هو أكثر أشكال الآخر نديّة وإثارة وجذبا بالنسبة لنا، إنّه الآخر الّذي يمثّل بشكل مباشر صورة أخرى للذّات على مستوى النّوع، وهو الأولى بالكشف والعرفان والتمثّل، بل والتذييت في الذّات، وهو الأولى بإيجاد فيه أحلى وأرقى قيم وأشكال الجمال والتّواصل والتّكامل معها والاكتمال بها! وهذا ما نسعى لتحقيقه بالحبّ.
فنحن عندما نحبّ نقوم بشكل عفويّ برسم صورة في منتهى الجمال للمحبوب، صورة جماليّة مثلى نحبّه فيها ونعرفه من خلالها عرفانا داخليًّا بجعله يعيش بواسطتها في صميم وجداننا، وهذه الصّورة فيها من الجمال جزء موعى، لكنّ الجزء الأكبر منها هو دائما غير موعى، فما هو بمرسوم من قبل الوعي، فهذه الصّورة نكوّنها للمحبوب بشكل غير واع، ونتفاعل أيضا معها بشكل غير واع، فنتلقاها ونعايشها كإحساس وشعور، وكأنّ فينا (أنا خفيّة رائعة) تفعل كلّ ذلك وفقا لنواميسها الخاصّة.
ولذا فعندما نسأل أنفسنا عمّا نحبّه في الشّخص الآخر، فقد نجد بعضا من الجواب في بعض الأحيان، ولكنّا غالبا لا نجد جوابا محدّدا أو مقنعا.
إنّ الصُّورة الّتي نرسمها للآخر، هي قطعا ليست صورة انعكاسيّة محض موضوعيّة له، مهما كانت قريبة من صورته الحقيقيّة وضمّت عناصر مشتركة معها، فهذه الصُّورة فيها جانب ذاتي يتضمَّن الكثير ممَّا يراه عالمنا الشّعوري الدَّاخلي جميلا ورائعا، بحيث يمكننا القول أنّ الصُّورة الَّتي نرسمها للمحبوب هي في جزء منها تركيب من عناصر موضوعيّة كائنة فيه ومن عناصر ذاتيّة كامنة فينا، ولكن مع ذلك ففي هذه الصّورة أجزاء تتجاوزنا كلينا معا في إطار شخصيتينا، ومن الممكن القول أنّها تنطلق بنا نحو أبعاد ورحاب أعمق وأشمل وأغنى لتُصور صورة إنسانيّة مثلى للمحبوب، تمثّل النّظير الإنساني المكمل لذاتنا في شكلها الأمثل، لنحبّها فنتكامل معها ونكتمل بها.
هنا لا مفرّ من طرح سؤال ظريف: هل نحبّ الشّخص الآخر بسبب الصُّورة المثلى الّتي نرسمها له؟ أم نرسم له صورة مثلى لأنّنا نحبّه؟ وإن كنّا نحبّ ما نرسمه، أفلا يمكننا عندها أن نرسم هذه الصُّورة ونسقطها على أيّ شخص من الجنس الآخر، ونحبّه من خلالها؟!
ذكر أعلاه أنّ هذه الصُّورة تتضمّن عناصر من شخصيّة المحبوب، وهذه العناصر هي الّتي تحرّك عاطفتنا تجاهه، وتدفعها لإكمال الصّورة، وبهذه العمليّة تتحقّق جدليّة الحبّ التكامليّة بين الذّات والآخر، فلو أحببنا الآخر فقط في صورته الموضوعيّة بالنسبة لنا، لكنّا في موقع السلبيّة والانفعال المحض من هذه الصّورة المحدودة المنعكسة المحبوبة، ولكنّنا عندما نقوم بإكمال الصّورة وفق جماليّة ذاتنا ومعايير أنانا المثلى، فنحن نشرك هذا المحبوب في ذاتنا، بل في الشّكل الأمثل لهذه الذّات، عن طريق صورته الأرقى الّتي نسهم في خلقها له، وفي إعادة خلقه وخلقنا فيها.
وهذا يعني أنّني عندما أحبّ شخصا من الجنس الآخر، فأنا لا أحبّه في صورة منعكسة لشخصيته فيّ، ولا أحبّه في صورة إسقاطيه لشخصيتي عليه، بل أحبّه في صورة تتوحّد فيها ذاتينا، وتتعالى متخطية شخصيتينا من حدود الواقع إلى مشارف المثال.
أفليس في هذا اختلاق وهمي وتزييف للحقيقة والواقع؟!
لكن ما هو الواقع؟ وما علاقته بالحقيقة؟ وما هي الحقيقة بحدّ ذاتها؟
إنّ مصطلح “الواقع” يدلّ على ما هو موجود وقائم في الزّمان والمكان الرّاهنين بكلّ ما فيه من سلبيات وإيجابيات؛ أمّا مصطلح “الحقيقيّة” فهو مصطلح غير محدّد ولا محدود، ومثالي الإيحاء، ومع ذلك فإذا كان “الواقع” يعني “حاصل الوجود”، فـ “الحقيقة” يمكن أن تعني كلا من “ممكن الوجود” من حيث المبدأ و”واجب الوجود” من حيث القيمة، وبما أنّ المطابقة بين الواقع والحقيقة تعطي صورة جدّ منقوصة ومحدودة للحقيقة، لا تلبّي طموحات النّفس الإنسانيّة، ولا ترضي معايير العقل العقلانيّة، فلا بدّ من طرح العلاقة بين الواقع والحقيقة وفقا لذلك بالقول أنّ الحقيقة هي الواقع الأمثل؛ أو الواقع في صورته المثلى، وفي الواقع الإنسانيّ، الإنسان كائن ناقص محدود، ولكنّه الوحيد المفطور والمؤهّل على تجاوز نقصه وتخطي محدوديته، وهو الوحيد القادر على وعي قيم الحقّ والخير والجمال، والإحساس بها، وعرفانها وتمثّلها، والسّعي بالتّالي لأنسنتها، والارتقاء بها وإليها! وهذه القيم تبقى قيما مجردّة إن لم يرها الإنسان حقيقة محقّقة في عالمه في إنسان مثله! وهذا التّحقق سعى الإنسان عبر تاريخه لتحقيقه بصور شتّى تتدرّج بين الواقع والخيال، فجسد الآلهة والكائنات السماويّة في بشر، واخترع الكائنات الأسطوريّة والخرافيّة على صورته، وصنع الأبطال والقدّيسين والحكماء والعظماء والعباقرة والمبدعين، وما شابه من المثل والرّموز الإنسانيّة، ولكن كلّ ما تقدّم يخلق لدينا بشكل عام شعورا بأنّه بعيد عنّا، لأنّه يمثّل نماذج فرديّة فريدة من النّاس أو من الكائنات غير الواقعيّة أرقى وأعظم منّا، هذا من ناحية، وغير قابلة للتّواصل والتّفاعل معنا من ناحية أخرى؛ أمّا في الحبّ ومع المحبوب، فنحن نزيل الحدود بين بعدي صورتنا، الواقعي والمثالي، ونشعر بأنّنا انفتحنا على صورة الإنسان المتعالي فينا واتّصلنا بها، فعبر حبّنا لمن نحب وتواصلنا معه في صورة تتخطّى شخصيته ولا تنفصل عنها، وإعادة خلقه واكتشافه في صورته المثلى، نتعالى إلى صورتنا المثلى دون إلغاء شخصيتنا الواقعيّة والسّقوط في الوهم.
هذا لا يعني أنّنا في هذه العمليّة نتحوّل إلى شخصيات مثلى، لكن بقدر ما نكون أقدر على مثل هذا الحبّ، وعلى تعزيزه بالوعي المستنير والمعرفة العقلانيّة الحكيمة والأخلاق الإنسانيّة الرّفيعة، نصبح قادرين أكثر على الاقتراب بصورتنا الواقعيّة من صورتنا المثلويّة، ويكون الحبّ في تجربتنا اكتمال، وتزكية للذّات بتمثّلها للجمال المؤنسن وتكاملها معه عبر تواصلها مع الآخر في صورته الأجمل، وتفتح وإزهار وإثمار للإنسان الأمثل فينا![/size]