أعطني أذنا أعطيك صوتاً… هكذا
يكون شكل الحوار عند جبران خليل جبران. ونحن نريد حواراً كهذا فأصواتنا
هادئة جداً وسط الضجيج، فهل من آذان صاغية؟ الحوار الهادئ العقلاني المنتج
هو هدفنا، لا نريد أسلوباً خطابياً مشوشاً للعقول، محاولاً إقناعها
باللاحقيقة، فسورية بلد يستحق الأفضل بالتأكيد، و شعب سورية تليق به قوانين
مرنة، عقلانية، معاصرة، تحترم إنسانيته وعقله.
قانون الأحوال الشخصية، تسمية لائقة، لكن جوهر هذه التسمية مناقض تماماً
لشكلها، لأنه وببساطة شديدة ما زلنا نعيش حالة الجماعة والقبيلة والعشيرة،
ويلزمنا وقت ليس بهيّن كي يتم الاعتراف بالفردية، والإنسان، كشخص مستقل،
يفكر ويعقل ويشعر دون أن يذوب في الجماعة. ما يدعو للأسف حقاً هو أن قانون
الأحوال الشخصية الجديد ليس بجديد ويضرب بعرض الحائط قيم العلمانية
والعقلانية واحترام الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق و
الواجبات.
عندما نقرأ نسخة القانون الصادرة عن وزارة العدل سنجد الكثير من المواد
التي تستفزّ كل إنسان يطمح للارتقاء بإنسانيته والسّموّ بها، ويتطلّع إلى
واقع أكثر انسجاماً مع التطور، فعلى سبيل المثال جاء تعريف الزواج في
المادة(1): (الزواج عقد بين رجل وامرأة يحل لها شرعاً غايته إنشاء رابطة
للحياة المشتركة والنسل). إذن، ما زلنا نعتبر أن الزواج مؤسسة وغايتها هي
الإنجاب، فلماذا لا يكون الحب هو الأساس و يكون الإنجاب خياراً و ثمرة للحب
بدلاً من أن يكون ضرورة من أجل استمرار النسل، والمادة (4) والتي تتضمن
سبعة بنود تتحدث عن المهر ولا يشتمّ أي إنسان حر منها إلا رائحة نتنة تجعل
من المرأة سلعة، وتتوضّح سلعيّة المرأة أكثر في المادة(56) في البند الثاني
منها حيث جاء: (يحق للمرأة الامتناع عن الدّخول حتى يدفع لها مهرها
المعجّل). والمادة(58) تقول: (إذا سمّي مهر في العقد الصحيح ووقع الطلاق
قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة وجب نصف المهر). فهذه طريقة قديمة ومستهلكة
في تناول موضوع إنساني كالزواج، ويشعر المرء هنا وكأن الزواج صفقة أو عملية
بيع وشراء للأجساد، بحيث أن تقديم المرأة لجسدها مشروط بمقابل مادي، أليس
في هذا انتهاك مشرعن لكرامة المرأة واتجار بجسدها؟ ألم يحن بعد تشكّل
مفاهيم تجعل من المرأة تقدم حبها وروحها وجسدها بإنسانية عالية، تحترم
علاقة التكامل بينها وبين شريك حياتها دون أن يكون هناك أعلى وأدنى؟
أما المادة(12) وفي البند الأول منها نقرأ: (يشترط في صحة عقد الزواج حضور
شاهدين رجلين أو رجلين أو رجل وامرأتين مسلمين، عاقلين، بالغين، سامعين
بالإيجاب و القبول، فاهمين المقصود بهما). المرأة إذن ناقصة في العقل بحيث
أن كل رجل يعادل امرأتين، وكلام كهذا يعارض كل الحقائق العلمية التي تؤكد و
استناداً إلى التجارب أن العقل البشري واحد، وأن عقل الرجل لا يتفوّق على
عقل المرأة، و إنما الاختلاف يكمن في تركيبة دماغ كل من الأنثى و الذكر،
وأصلاً ما يجعل المرأة امرأة والرجل رجلاً هو المجتمع وليست الطبيعة.
الذكورة والأنوثة تتكاملان بحيث أن الذكورة تأخذ ما ينقصها من الأنوثة
والأنوثة تأخذ ما ينقصها من الذكورة، تحضرني هنا فلسفة الطّاويين الصينيين
في(الين و اليانغ)، حيث أنه لا يوجد شرّ مطلق ولا خير مطلق، ولا ذكورة
مطلقة ولا أنوثة مطلقة، فالحياة تداخل وتكامل.
وجاء في المادة(73): (لا يجوز أن يتزوج الرجل خامسة حتى يطلّق إحدى زوجاته
الأربع وتنقضي عدتّها). النظر إلى المرأة باعتبارها شيئاً، مادة، موضوعاً
أو مجرد عدد، ينفي عنها جوهرها كذات، ويتجاهل نصفاً حقيقياً ينبغي أن يكون
حيويّاً و فعّالاً في المجتمع. وتعدّد الزوجات مشكلة حقيقية على الصّعيد
النفسي للمرأة وعلى الصّعيد الاجتماعي لأنه يساهم في التفكك الأسري،
وبالتالي قد يؤدي إلى الجريمة والانحراف، والوهم الأكبر أن نعتقد أن تعدّد
الزوجات هو حل لمشكلة (العنوسة) مثلاً، وأقول هنا (عنوسة) على سبيل المجاز
لأن كلمة عنوسة غارقة في التخلف، وهي من مفرزات ذهنية ذكورية تقلل من شأن
المرأة، ثم أن المرأة في عصرنا هذا باتت مثقفة ومتعلمة وعاملة وبالتالي
أصبح الزواج بالنسبة لها خياراً أكثر منه ضرورة. و إذا قلنا، على سبيل
المجاز أيضاً، أن الزوج هو ربّ البيت والزوجة ربّة البيت كذلك، فالشّرك
بالرب كفر. وعند تعميق النّظر في مادة كهذه سنجد أنها تفتح باب التعسّف على
مصراعيه، فمثلاً قد يخضع اختيار الرجل لطلاق إحدى زوجاته وإحلال امرأة
أخرى محلها لمزاجيّته و ضبابيّته، ولنا الحق أن نسأل مثلاً كيف سيكون حال
الأطفال بعد طلاق أمّهم المختارة للطلاق…. للأسف، ما زلنا نعيش في ظلّ
قوانين نسجت لتلائم واقعاً مات وانقضى منذ قرون، ونتجاهل بعداً زمنياً
مهمّاً ونابضا بالحياة، ألا وهو الحاضر، وهو الجدير أن ننطلق منه لنعيش
واقعنا نحن، لا أن نعيش واقع غيرنا.
أما المادة(74) فتقول: (إذا نشزت الزوجة فلا نفقة لها مدة نشوزها).
والمادة(75) تعرّف الناشز بالقول: (الناشز هي التي تترك بيت الزوجية بلا
مسوّغ شرعي أو تمنع زوجها من الدخول إلى بيتها قبل طلبها النقل إلى بيت
آخر). هذه مواد أخرى تزيد (الطين بلّة) فهي تسلب المرأة حقها في رفض واقع
لا تريده وغير مرتاحة فيه، فماذا لو تعرّضت المرأة للعنف والضرب من قبل
زوجها، هل ترضخ للذّل والألم؟ أم أنها إذا لجأت إلى إحدى الجمعيات مثلاً،
كي تحميها و تساعدها ، تصبح ناشزاً و خارجة عن طاعة الزوج وينقلب الحق
ضدها؟ المجتمعات المغلقة تحرص على السريّة، لدرجة أنه ممنوع على المرأة
إيصال صوتها ولا بد من التّكتّم على سلوك زوجها المشين منعا للفضائح أمام
الناس، فالإنسان في المجتمعات المقهورة يخجل من ذاته ويخاف افتضاح أمره،
لذلك يلجأ إلى التّعتيم على كل ما يجعل السّمعة سيئة، ولهذا السبب أيضاً
نجد أنه كثيراً ما يتم التّستّر على حالات الاغتصاب وعدم التقدم بشكوى لدى
القضاء خشية العار والفضيحة.
كما أنه يوجد في هذا القانون مواد مثيرة للقلق حقاً، فقد جاء في المادة
(16): (تكمل أهليّة الزواج في الفتى بتمام الثامنة عشرة وفي الفتاة بتمام
السابعة عشرة). وفي المادة (18) في البند الأول منها جاء: (إذا ادعى
المراهق البلوغ بعد إكماله السابعة عشرة أو المراهقة بعد إكمالها الخامسة
عشرة، وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما و احتمال
جسميهما). المراهقة لغة، تعني الاقتراب من الرّشد، وعلم النفس يؤكد أن
المراهق طفل كبير، والسؤال هنا هل نضج الفتاة والصبي جسديّاً، يعني نضجهما
عقليّاً؟ بأيّ حق نزوّج الأطفال ونحمّلهم مسؤولية الإنجاب؟ أين سترمى
الدراسة مثلا الضروريّة لبناء الإنسان، وأية أسر سننتظر من آباء وأمهات
بعمر الخامسة عشرة والسابعة عشرة؟ إن هذا باختصار شديد قتل للطفولة وتشريد
لها.
أما المادة الأكثر طرافة، والمضحكة المبكية في نفس الوقت، هي المادة (15)
والتي جاء في البند الثاني منها: (للقاضي الإذن بزواج المجنون أو المعتوه
إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من ذوي الاختصاص يختارها القاضي بإشرافه، أن
زواجه يفيد في شفائه، وأن مرضه لا ينتقل منه إلى زوجه، أو نسله). تعالوا
نتخيّل زواجاً لا يسنده العقل وهو السّمة الرّئيسة التي تميّز الإنسان عن
بقيّة الكائنات!. ما رأيكم بأطفال من زواج مجنون بلا عقل؟ أهكذا نتقدّم
بمجتمعنا؟!
أما المادة (48) وفي البند الثاني منها تؤكد أن ( زواج المسلمة بغير
المسلم، باطل). وهذا أولاً: إعلان صريح للإسلام بمعاداة الأديان الأخرى،
وخلق لأجواء عدائيّة طائفيّة ومذهبيّة، في حين أن الإسلام الحقيقي بعيد عن
هذا، فالدين في جوهره منظومة أخلاقية تدعو للمحبة و السلام، فالتعامل مع
الآخر على أساس خلفيّته الدينية، والتفريق بين البشر بالقول هذا مسيحي وذاك
مسلم، تماماً كالقول هذا أبيض وذاك أسود، و نحن الآن في ظل هجمة شرسة على
الإسلام وعلينا أن نكون حريصين على عدم تشويهه، فالحضارة الإسلامية قدّمت
الكثير من المفاهيم الإنسانية الرّاقية وأغنت الحضارات الأخرى بها، وتراثنا
الإسلامي فيه الكثير من الشخصيات التي كانت أنموذجاً للتسامح و قبول
الآخر. ثانياً: ما شأن الدين بمشاعر إنسانية خاصّة جداً، ويستحيل تعميمها؟
ولماذا نزجّ الدين في الأمور العملية في حين أنه يجب أن يسمو فوق أمور
الدنيا لأنه جانب روحاني محض وخاص بين كل الإنسان وربّه، فالدين يفسد حينما
يدخل في عراك الأيديولوجية. ثالثاً: تظهر ذكوريّة هذا القانون التّسلّطيّة
بوضوح، حينما يحرّم على المرأة المسلمة الزواج بغير المسلم ويمنح هذا الحق
للرجل المسلم.
يكفي أن نعمل الحد الأدنى من عقولنا حتى نصل إلى نتيجة مفادها أن هذا
القانون قاصر الرّؤية، ولا يليق بالمرأة السورية وبالمكانة التي وصلت إليها
في كافة المجالات، كما أنه لا يليق بالإنسان السوري الذي يريد لوطنه أن
يكون مضيئاً دوماً.