“الحياة وحدها
هي التي تقتلنا.
الموت ليس إلا مُضيف
يحرّر البيت من سياجه
ويدفعه
نحو حافة الغابة.”
René Charرونيه شار،
حدّاد يطرق القصائد
ترجمة وإعداد: أمين صالح
رونيه شار: طويل، مهيب،
ذو شخصية قوية وجذابة. رجل فعل. مقاتل صلب وعنيد، قاد فرق المقاومة ضد
الاحتلال النازي في الجبال. في الوقت ذاته، هو صاحب قلم من الطراز الأول.
شاعر مجدد، بارع في الاستبطان وخلق الحالات الحميمية.
ولد شار في قرية
"ليل سور لاسورغ" في 14 يونيه 1907، وتوفى في باريس في 19 فبراير 1988.
والده كان رجل أعمال ومحافظا محليا، وقد توفى مع بلوغ شار العاشرة من عمره.
ويرى العديد من النقاد أن رحيل والده عنه وهو في سن مبكّرة قد مارس تأثيرا
كبيرا على شار والذي تجلى ليس فقط في شعره بل أيضا كعامل مساهم في تعميق
العزلة والإحساس بالفقد لديه.
مع أنه تلقى تعليما جيدا، إلا أنه لم يكمل
دراسته الثانوية، واختار بدلا من ذلك الالتحاق بالمدرسة التجارية في العام
1925. ثم أدى الخدمة العسكرية الإجبارية في وحدة سلاح المدفعية من 1927
إلى 1928. خلال هذه الفترة نشر مجموعته الشعرية الأولى "أجراس على القلب"،
وهو الكتاب الوحيد الذي نشر باسمه الأول رونيه-إميل شار.
شار هو واحد
من أبرز وأهم الأصوات في الحركة الشعرية الفرنسية الحديثة.
أثار إعجاب
الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر (الذي يعد مؤسس الفلسفة الوجودية) لعمق
فلسفته الشعرية.
في العام 1929 ارتبط بالحركة السوريالية، وظل لعدة
سنوات من العناصر النشطة في الحركة. ساهم مع أندريه بريتون وبول إيلوار في
تأليف كتاب مشترك بعنوان "أعمال بطيئة" (1930)، ونشر نصوصه في المطبوعات
السوريالية، وشارك في احتجاجاتها السياسية، كما التزم لفترة بتقنية الكتابة
الآلية. غير أنه، منذ منتصف الثلاثينيات، راح يقصي نفسه تدريجيا عن
الحركة، حتى أعلن – في هدوء- قطع علاقته مع السوريالية، مفسرا السبب في
رسالة بعثها إلى الشاعر السوريالي بنجامان بيريه في العام 1935 قائلا: "
السوريالية بحاجة إلى التلاشي برشاقة وكياسة من أجل حمايتها من الإذلال
الذي سوف تتعرّض له عند بلوغها المائة عام. لكن ألستم مؤمنين بالقضاء
والقدر؟ هل كانت سلالة ساد ورامبو ولوتريامون بأسرها من فئة المفكرين؟ وأنا
أرى هذه التسوية المثيرة للشفقة قادمة، فإنني أرفض إقرارها والتصديق
عليها. سوف أغادر هذا السيرك."
تزوج في العام 1932، بعدها بسنوات قليلة
عاد إلى مسقط رأسه، في قريته الواقعة بالقرب من أفينون، ليتولى إدارة أعمال
الشركة التي أسسها والده (في مجال تجهيزات البناء)، لكن أصيب بمرض أدى إلى
استقالته، في العام 1937، وانتقاله إلى قرية سيرست لاستعادة عافيته. بعد
سنوات، أثناء الحرب العالمية الثانية، سوف يعود شار إلى هذه القرية ليشكّل
وحدة مقاومة في الحرب ضد النازية.
قبل انضمامه إلى المقاومة، كان قد كتب
عن صديق (وربما عن نفسه): " هو كان مولعا بالانتقاد، مفعما بالارتياب بشأن
حياته، مسموما بالرياء. شيئا فشيئا استوطنته الكآبة العقيمة. الآن هو
عاشق، ملتزم، قابل لأن يبذل نفسه ويضحي بها. إنه يمضي عاريا، مشحونا
بالتحدي".
شارك في الحرب الأهلية الأسبانية إلى جانب الجمهوريين. وفي
1940 انضم إلى المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، ليس كشخصية أدبية
"مقاومة" يكتب مقالات ثورية، عند الاقتضاء، وينشرها في المطبوعات السرية
التابعة للمقاومة، بل كمقاتل مناضل أثبت كفاءة عالية أهّلته لأن يصبح قائدا
ميدانيا لأحد جيوب المقاومة في الجنوب الفرنسي.. وقد عبّر عن هذه التجربة
بنصوص، على شكل يوميات شعرية، هي مزيج من التأملات الفلسفية والقصائد
النثرية،كتبها في الفترة بين 1941 و 1944، باسمه الحركي المستعار، هيبنوس،
إله النوم عند الإغريق،ثم نشرها بعد الحرب (1946) في كتاب حمل عنوان "أوراق
هيبنوس".
في السنوات التي تلت الحرب، وتحديدا من 1950 إلى 1962، اتسعت
شهرة شار كشخصية أدبية مؤثرة، ونال احترام وتقدير العديد من الكتّاب
والتشكيليين والموسيقيين، وتعاون مع عدد من الفنانين في أعمال مشتركة، في
مجاليّ التشكيل والموسيقى.
كان صديقا حميما للعديد من الرسامين
والكتـّاب، مثل: براك، جياكوميتي، بيكاسو، ألبير كامو.
في سنوات
الستينيات اهتم بقضايا البيئة، وكان ناشطا في الحملات الاحتجاجية ضد تلويث
البيئة، وضد منشآت الطاقة النووية في الأقاليم.
في 1971 أصدر كتابه
"العري الضائع" والذي جمع فيه القصائد التي كتبها منذ 1964. ومع أن هذا
الكتاب يعد خلاصة وافية لأعماله، إلا أنه استمر، بثبات، في الكتابة والنشر
حتى منتصف الثمانينيات، مقتفيا المسارات التي غذّت رغبته في دعم الإبداع
كشكل من أشكال المقاومة الفكرية ضد المظاهر القمعية واللا إنسانية في العصر
الحديث.
في أواخر 1987 أرسل شار كتابه الشعري الأخير إلى الناشر، لكن
طباعته لم تجهز إلا بعد أشهر من وفاته.
رونيه شار كان الرجل الذي يرتدي
قناع اللغة، لا لحجب هويته، بل ليجعل من دوره في المأساة بسيطا وجليا. كان
أشبه بالحدّاد الذي يطرق القصائد ليصوغ علاقات جديدة مع الكلمات، تاركاً
شرارات اللغة تتطاير.
حياته جزء من شعره. هما بالأحرى متلازمان،
ويتعذّر فصلهما. في كتاباته الشعرية، بدءا من 1928 وحتى عامه الأخير، كان
يؤكد على الأمل في مواجهة أي صراع، رافضا التسوية والامتثال، مسلّما بصحة
اعتبار الرغبة محوراً للإلهام. مخاطبا الأحاسيس الكونية الرحبة. لقد آمن
شار بفكرة أن الفن والأدب والموسيقى متصلة في علاقة متبادلة كوسائل تعبير
ضرورية للمقاومة، وضرورية للحفاظ على إنسانية الفرد وقيم المجتمع
الأخلاقية.
تأملاته في الحاضر تستدرج الحنين إلى قيم الماضي، إلى
الحقائق البسيطة المتصلة بالحب والجمال واحترام النظام الطبيعي، إلى
مسؤولية الفرد تجاه الكائنات البشرية الأخرى. كتابات شار هي تأملية، تختزل
القضايا الخطيرة والهامة إلى عناصرها الجوهرية لتعبّر عنها في ومضات تأخذ
شكل القصيدة أو الحكمة.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فرض
شار نفسه كصوت أدبي مهيمن ومؤثر. ومع أنه لم يكن شاعرا محلياً على الإطلاق،
إلا أن إقليم بروفانس، الذي نشأ وعاش في ربوعه، يوفّر خلفية للعديد من
معالجاته الأدبية للنزاعات الكونية بين الخير والظلم، والمقاومة في مواجهة
الاضطهاد.
عالم رونيه شار الشعري يستعصي على التصنيف لتجاوز أعماله
الأشكال المتكرّسة والتصنيفات القائمة. نصوصه الشعرية والنثرية تعكس رؤاه
الفنية والسياسية والأخلاقية، بلغة تتسم بالعمق والبساطة معا، متأثرا
بالشعراء- الفلاسفة الإغريق، وبالفلسفة التاوية.. وهذه النصوص – كما يقول
الناقد ماركوس نيكولاس نيكو- توحّد الطبيعة والجمال واللامعقول وترفعها إلى
الموضع الذي فيه تزول الفوارق، والجُمل تبدو كما لو أنها ترتعد لما تحمله
من طاقة مكتشفة حديثا.
ويضيف ماركوس: " في العديد من أبيات قصائده،
الفوضى الحاضرة في كل الأذهان تجعل حضورها معلوما وبقوة جميلة وغريبة، ما
يصمم المرء أن يسميه تشوشا أو فوضى، رونيه شار يخلقه، أو بالأحرى يكشف
النقاب عنه بوصفه إدراكا متأصلا".
نصوص شار في أغلبها تنتمي إلى الشعر
الحر أو هي عبارة عن قصائد نثرية. وهو موهوب بلغة مجازية يتم توصيلها غالبا
على نحو غنائي، يتخللها العنف أحيانا. والعديد من نصوصه تتسم بالبساطة
والتكثيف على طريقة الزن Zen ، خصوصا تلك التي تتخذ من الطبيعة وعناصرها
موضوعات لها. وكان شار يؤمن بأن على الكائن البشري أن يتعامل مع الطبيعة
كصديق وخصم معاً بدلا من الإذعان لها أو التكيّف معها.
عن علاقته
بالطبيعة يقول ميشيل فيغني: "في شعر رونيه شار، بوسع المرء أن يسمع صوتا
قويا جدا يشجب الأشكال المتعددة للحداثة، خصوصا تلك التي جعلت من الطلاق
بين الإنسان والطبيعة أمرا واقعا. في بعض نصوصه نجد أصداءً لروسو و عدد من
المفكرين الفطرانيين (المؤمنين بأفضلية الحياة البسيطة المشدودة الجذور إلى
الطبيعة) نابذاً العلم والحضارة المدينية. بعض الباحثين شعروا بأن مثل هذا
الموقف سوف يؤدي إلى تصنيف شار بين الرجعيين المثاليين، وحاولوا إنكار هذا
الأساس النوستالجي في رؤيته للعالم".
ويقول عنه إيف بيرجيه: "كتاباته
هي بورتريه لرجل ذي إرادة وطاقة ونفاد صبر وقوة حيوانية تقريبا. لا شيء
يستفزه أكثر من الثبات والجمود (أعني الإذعان أو التسليم بالوضع الراهن).
هكذا هي لغته، صوره الحافلة بالحركة.. الحركة ليست طرية ومتدفقة، لكن
سريعة، قوية، عنيفة، بل وحتى وحشية".
أما صديقه الكاتب ألبير كامو فقد
سماه، في العام 1952، "المتفائل المأساوي" واعتبره أعظم شعراء فرنسا
الأحياء، "الشاعر العظيم الذي كنا جميعا في انتظاره".
وحيدا على تخوم المحتمَـل
رجل وافر: في الحجم، في الحيوية والنشاط، في الكلام، في حالات الصمت، في
الأفكار والمشاعر، في الجديّة، المرح، الوداعة، العنف.
خلاصة كل هذا،
ضرب من الكثافة التي يبدو أنها حرّة، في أية لحظة، في اتخاذ أي اتجاه أو
منعطف.
الحياة المفرطة فيه هي التي تقوده، وتمنحه شعورا بالقوة
والأهمية.يتحدث بإيقاعات مقاطعة بروفانس، حيث وُلد ونشأ وعاش. أنهى دراسته
الثانوية في أفينون، ثم التحق بالجامعة في Aix.
كان واحداً من أوائل السورياليين.
لكن الحرب، وتجربته كقائد لمجموعة
من الماكيين (المقاتلين في حركة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني)
في بروفانس، هي التي مارست تأثيرا عميقا على أعماله، إذ وجّهت موضوعاته
الرئيسية الهامة نحو مجرى معيّن، ووفرت مادة خصبة للعديد من أشعاره. لقد
تحوّل الحرمان والعوز والجوع والمعاناة، في تلك السنوات الصعبة، إلى نوع من
الاقتصاد المتقد الذي وسم أسلوبه، وإلى رغبة عارمة في تركيز وتكثيف كل شيء
في شكل تأملات وأمثال وحكم وتفجرات نثرية.
رونيه شار أعاد إلى الشاعر
رسالته في عالمنا المضطرب، شديد الاهتياج. هذا كان الواجب الأهم لأعماله.
لقد واجه أوضاعا وحالات صعبة من الحرية الإنسانية، وفهم وظيفة المخيلة في
حياة الإنسان.
دافع عن الشعر بنفس الدرجة من العاطفة والانفعال التي
دافع بها شيلي عن الشعر.. لكن بدرجة أكبر من الحكمة والدفء البشري. هو يبزّ
أغلب معاصريه بعواطفه الإنسانية، بما يكتنزه من مشاعر حب. لكن هذا الحب
كان مقدراً له أن يبتلي بالمحنة. ذلك لأن الشاعر هو المرشد الرؤيوي للبشر،
الشخص المطلق الذي يتحرك وحيدا على تخوم المحتمـَل.. "هناك حيث السماء قد
انحدرت منذ لحظات".
مهمته أن يجلب إلى الوجود ما لا رجاء فيه، ما هو غير
متوقع. في الإشراق البالغ لحبه سيء الطالع، في وميض القصيدة، تعلم شار كيف
يأمل وكيف يسبّح.
(مقتطف من مقدمة المترجم جاكسون ماثيوز - لكتاب
"يقظة هيبنوس")
مؤلفات رونيه شار:
- ترسانة (1929)
- أعمال بطيئة (1930.. بالاشتراك مع أندريه بريتون وبول إيلوار)
- أرتين (1930)
- مطرقة بلا سيد (1934)
- وحدهم يبقون (1943)
- القصيدة المتناثرة (1945)
- أوراق هيبنوس (1946)
- غضب وغموض (1948)
- الصباحات (1950)
- إلى سكينة متشنجة (1951)
- بحث عن القاعدة وعن القمة (1955)
- الكلمة بوصفها أرخبيلا (1962)
- في المطر الوفير الصيد (1968)
- العري الضائع (1971)
- طيوب صائدة (1976)
- أغاني بلاندران (1977)
- نوافذ غافية وباب على السطح (1979)
- جيران فان غوخ (1985)
- مديح مريب (1988)
* * *
مغروساً في الفجر الراعش وحزامي مليء بالفصول
(قصائد مختارة)
عن الإنكليزية
ترجمة أمين صالح
النهر
النهر الذي يفترق باكراً،
بحركة واحدة، بلا رفيق،
يهب أطفال بلدي وجه شغفك.
النهر حيث ينتهي
وميض البرق وحيث يبدأ بيتي،
الذي يطوي الطريق كله حتى مواطئ النسيان،
الأساس
الصخري لرشدي.
أيها النهر، فيكَ ترتعد الأرض، وهناك شمس، قلق،
ليت كل رجل فقير في
ليله يصنع خبزه من محصولك.
النهر غالباً ما يتعرّض للعقاب، يسلـَّم إلى مجراه.
نهر قليلي الخبرة في وضع متصلب،
ليس ثمة ريح لا تضعف عند أعالي
أخاديدك.
نهر الروح الجوفاء، الأسمال والريبة
نهر المحنة القديمة التي تحلّ
نفسها، الدردار و الشفقة.
نهر غريبي الأطوار، المحمومين وقاطعي الأحجار،
نهر الشمس التي تطلق
سراح محراثها حتى تغطس إلى أبعد مستوى،
نهر تلك الأشياء الأفضل من ذات المرء، نهر الضباب المتبرعم،
القنديل
الذي يطفئ القلق الحائم حوله،
نهر الأهمية الممنوحة إلى الأحلام، النهر الذي يصْدئ الحديد،
حيث
النجوم هي من ذلك الظل الذي يرمى في البحر،
نهر الطاقات المنقولة والصرخة التي تدخل فم الماء
نهر الإعصار الذي
يعضّ الكرْمة ويعلن حضور النبيذ الجديد،
نهر قلبٍ لا يهلك أبداً في هذا العالم المفتون بالحبس،
نهر يبقينا
عنيفين وودودين تجاه نحل الأفق.
عتبة
عندما تزحزحتْ بعيداً الحواجز الموضوعة أمام الناس، امتصتها هبّة الريح
الجبّارة، هجران المقدّس، الكلمات في البعد، كلمات لم ترد أن تضيع، وحاولت
أن تقاوم الضغط الفادح، عندئذ هم حسموا اختيار السلالة الحاكمة لحواسهم.
عدوت صاعداً إلى حيث ذلك الليل المشعشع ينبثق ويتدفق، مغروساً في الفجر
الراعش، وحزامي مليء بالفصول، إني أنتظركم، أيها الأصدقاء الذين على وشك
الوصول. في وسعي أن أميّزكم في ظلمة الأفق. ما أبتغيه لبيوتكم هو أن لا
تجففها مدفأتي. وعكازي المصنوع من خشب السّرْو يضحك لكم من أعماق قلبه.
شباب
بعيداً من كمائن الأسطح وصدَقات الأضرحة الريفية تأخذين ولادتكِ، رهائن
الطيور، أيتها الينابيع. انحدار الإنسان في غثيان رماده، صراع الإنسان مع
حيطته الصائنة، حتى هذه لا تستطيع أن تحرّرك من الوهم.
الثناء، الثناء،
لقد توصّلنا إلى تفاهم مع أنفسنا.
قالت: "لو كنتُ بكماء كما درجات
السلّم الحجري الموثوق تحت الشمس الغافلة عن جرحها المخْيوط باللبلاب، لو
كنت أشبه بالطفلة البريئة كما الشجرة البيضاء وهي تستقبل رعب النحل، لو أن
التلال عاشت حتى الصيف، لو أن الوميض فتح بواباته لي، لو أن ليلك غفر
لي..."
العيون، بستان النجوم، الوزّال، العزلة كلها ليست جزءاً منك.
الأغنية تهزم النفي. الريح الحبيبة تعيد حياة جديدة.
حبّ سرّي
هي هيأت المائدة وصاغت على نحو تام ما سوف يهمس به قريباً حبيبها الجالس
قبالتها الآن، مركّزاً عليها وحدها. هذه الوجبة تشبه قصبة مزمار.
تحت
الطاولة، كاحلاها تلاطفان دفء حبيبها، بينما الأصوات التي لا تسمعها توجّه
لها الإطراء. ضوء المصباح يوقعها في الشَرَك وينسج المغازلة.
بعيداً، هي
تعرف، ثمة سرير ينتظر، مرتعشاً في اغتراب ملاءاتها العطرة، مثل بحيرة جبل
والتي سوف لن تكون مهجورة أبداً.
في مأوى جبل عار ٍ
إذا كان عليك أن تغادر ثانيةً، فاتكئ على الجدار في المأوى العاري، ملجأ
الراعي، ولا تقلق بشأن تلك الشجرة التي تلوّح لك من هناك. ثمرتها سوف تروي
ظمأها.
مضطرةً لأن تنهض من نومها قبل أن تجعل من نفسها مفهومة، الكلمة
توقظنا. تجود علينا بألق النهار، هذه الكلمة التي لا تحلم.
مدىً بلون
التفاح. الفضاء، طبق من الحلوى البرّاقة.
النهار حيوان برّي. غدا سوف
يثب.
ضع نفسك في مرتبة الآلهة والقي نظرةً على نفسك. هذه المرّة، بعد
التبادل عند الولادة، وبعد أن نجوت بالكاد من الإبعاد، أنت خفيّ أكثر منهم،
وأقلّ تكراراً لنفسك.
للأرض أياد ٍ. ليس للقمر أياد ٍ. الأرض تنهب
القمر.
الحرية، إذاً، هي الفراغ. فراغ ينبغي تقدير مساحته على نحو مفرط.
بعد ذلك، يا عزيزي، الفراغات المسوّرة بالجدران الأكثر علوّاً. ستكون هناك
النكهة القوية للخراب الذي أحدثتموه. لِمَ يشكّل ذلك مفاجأة لك؟
ينبغي
على المرء أن يعشق ذلك العري الظامئ، الحقيقة الصقيلة لقلب جفّفه دمه
المتشنّج.
المستقبل الذي كان قد توارى في ذلك الحين! عالم كئيب.
عندما
يوضع قناع الإنسان على وجه الأرض، هي تطفئ عينيها.
هل نكون بعيدين عن
مفاصلنا إلى الأبد؟ متأثرين بجمال مسكّن؟
كنت سأتخذ من الطبيعة شريكةً
لي في الرقص، لا أرقص إلا معها. لكن الراقصيْن معاً لا يتزوجان في مواسم
حصاد النبيذ.
حبيبتي تفضّل الثمرة على طيف الثمرة. لهذا، منحنياً دون
إذعان، أصالح أحدهما مع الآخر.
ثلاثمائة وخمس وستون ليلة بلا نهارات،
ضخمة، هائلة، هذا ما أتمناه لكارهي الليل.
هم سوف يجعلوننا نتعذّب لكننا
سنجعلهم يدفعون الثمن. ينبغي للمرء أن يقول لحسن طالعه: "خذ بثأرك"..
وللوقت الذي يفرّق بيننا: "هل ينبغي أن أذهب إليها؟ آه، لكن أكثر من مجرّد
نظرةٍ خاطفةٍ، لو سمحت."
المفسدون قد وصلوا، أولئك الحمقى عديمي الجدوى.
أشخاص مستعدون لإرهاب الآخرين.
لا تقلّم الشمعة، لا تقصّر ربيع الجذوة.
تلك الهجرات في الليالي الباردة سوف لن تتوقف عندما تراك.
نحن نختبر
أرق الطوفان، باحثين عن بلاد في حالة اضطراب، أراض ٍ ملائمة لطبيعة ساخطة
من جديد.
من رسم لاسكو، جيوتو، فان آيك، أوشيلو، فوكيت، مانتينا،
كراناش، كارباكشيو، جورجيوني، تنتوريتو، جورج دي لاتور، بوسان، رمبرانت،
هذه هي المنسوجات الصوفية التي تبطّن عشّي الصخري.
عواصفنا أساسية لنا.
في ما يتعلّق بمعاناتنا، المجتمع ليس ملوماً حتماً، على الرغم من كل
أسواره، وتعاقب انهياره وترميمه.
لا نستطيع أن ننظم أنفسنا وفق الصورة
التي يكوّنها الآخر عنا: المقارنة سرعان ما تخسر نفسها.
سوف ننتقل من
موت متخيّل إلى مزامير موت حقيقية. الحياة تمرّ بنا بخفّة، تلهي نفسها بنا
أثناء مرورها.
الموت ليس في هذا الجانب ولا في الجانب الآخر. هي على
مقربة منا، كادحة، متواضعة.
ولدتُ و نشأتُ وسط التناقضات التي كانت
ملموسة في كل لحظة، على الرغم من متطلباتها الهائلة والضربات التي تكيلها
بعضها لبعض.
تسكّعتُ في محطات القطار.
القلب المشعّ، بعد أن أضاء
ليله، ينشّط سنبلة الحنطة الرخوة.
هناك أولئك الذين يتركون وراءهم
سموماً وآخرون يتركون أدوية. ويصعب القول أيهما السمّ وأيهما الدواء. لكي
تعرف، يتعيّن عليك أن
تتذوّق.
الإجابة الفورية بنعم أو لا هي صحيّة
على الرغم من التصحيحات التي سوف تلي.
في الأماكن الأكثر علوا ليس هناك
أي نزيل، أي مشاركة: فقط الجرّة الأوليّة. إلتماعة من الضوء ترسم الحاضر
فيما هو يترك ندوباً في الحديقة، وببراءة يلاحق امتداده الخاص، ولا يكفّ
أبداً عن الظهور والإعلان عن وجوده.
أحباب اللحظة لم يعيشوا كما تجرّأنا
وعشنا، بلا خوف من أن تتعرّض مخيلتنا للضلالة بفعل تعلّقنا بها.
الحياة
وحدها هي التي تقتلنا. الموت ليس إلا مُضيف يحرّر البيت من سياجه ويدفعه
نحو حافة الغابة.
أيتها الشمس الباكرة، أراك، لكن فقط في المكان الذي لا
تعودين موجودة فيه.
كل من يؤمن بإمكانية تجديد اللغز، يصبح هو اللغز.
أن يتسلّق بحرية على ذلك التآكل الفاغر، المضاء والواضح أحياناً، المعتم
والغامض أحياناً، أن يعرف دون أن يشترع سيكون قانونه، القانون الذي سوف
يمتثل له لكن الذي سوف يأخذ أفضل ما فيه؛ هو لن يؤسس بل يساعد في الخلق.
المرء
يعود المرّة تلو الأخرى إلى التآكل. المعاناة كمقابل للانجاز.**
كل ما
سوف ننجزه، من اليوم فصاعداً، سوف ننجزه بسبب الرغبة في شيء أفضل.
ليس
باطمئنان ولا بقنوط. ضياؤنا الوحيد: الثور المسلوخ الجلد لرمبرانت. لكن كيف
يمكننا أن نكيّف أنفسنا وفق رائحة تاريخ عتيق مختوم على المدخل، نحن الذين
في الأزمة نكون متقدي الذهن، بل ومفعمين بالحكمة؟
شيء بسيط جداً يرسم
الخطوط العريضة لنفسه: نار تشبّ، أرض تتفصّد، ثلج يتطاير، شجار يندلع.
الآلهة تقدم لنا شيئا من رفاهيتها؛ في ما بعد سنكون موضع استياء لأننا
قبلنا ذلك. أرى نمراً وعينيه مفتوحتين على سعتهما.
تحيات. من هو ذاك
الذي استطاع أن يولد هناك، وسط الأعشاب، والذي سوف تطالب به كل الأشياء
غدً؟
** في هذا الموضع لا يعود بإمكاننا رؤية المأوى،
وعندما نستدعيه في خيالنا، لا يعود يبعث بالمقابل رسائله المستبصرة.
***
نص 1
عزيزتي، ضعي رأسك على
ركبتي. أنا لست سعيداً، مع ذلك فأنتِ تكفينني. شمعدان أو شهاب، لم يعد هناك
قلب شجاع أو مستقبل على الأرض. مجرى الشفق يفشي حفيفك، سرير من نعناع
وإكليل جبل، أسرار متبادلة بين أقمشة الخريف الخمرية وثوبك الرقيق. أنت روح
الجبل بجوانبه العميقة، بصخوره الصامتة خلف شفاه من صلصال. دعي حواف أنفك
ترتعش. دعي يدك تحجب الدرب وتزيح ستارة الأشجار.
عزيزتي، في حضور
نجمتين، الصقيع و الريح، أضع فيك كل آمالي الصريعة، مقابل شوكة ظافرة واحدة
من العزلة الضارية.
نص 2
أفكر في ذلك الجيش من الجبناء مع ميلهم الفطري إلى الديكتاتورية التي
ربما سوف تستلم السلطة ثانيةً، في هذا البلد الذي ينسى كثيراً. عبر هؤلاء،
زمن علم الجَبْر اللعين سوف يبقى وينمو.
نص 3
كلما جلسنا معاً لتناول الطعام، دعونا الحرية لأن تختار مقعداً بيننا.
إنه الموضع الذي يبقى خالياً ولا يشغله أحد.
نص 4
لا ننتمي إلى شيء إن لم ننتم إلى ذاك الموضع الذهبي الخاص بقنديل مجهول
بالنسبة لنا، يتعذّر علينا بلوغه، والذي يُبقي البسالة والصمت في حالة
يقظة.
***
النافذة المفتوحة في غرفة الغياب الطويل
(قصائد ترجمة أمين صالح)
أسياد موسان
الواحد بعد الآخر، رغبوا
في التنبؤ بمستقبل بهيج لنا،
بخسوف في صورتهم وكل الكرب اللائق بنا!
نحن
ترفـّعنا عن هذه المساواة،
وقلنا لا لكلماتهم المجاملة.
سلكنا
الطريق الصخري الذي استشفـّه لنا القلب
عالياً نحو سهول الأثير والصمت
الفريد.
جعلنا حبنا المتطلـّب ينزف،
وسعادتنا تصارع كل حصاة.
يقولون
في هذه اللحظة أنّ وراء نطاق الرؤيا،
البَرَد يخيفهم أكثر من ثلج
الموتى.
جبين الوردة
برغم النافذة المفتوحة في غرفة الغياب الطويل، فإن رائحة الوردة لا تزال
متصلة بالأنفاس التي كانت هناك. مرة أخرى نحن بلا تجربة سابقة، وافدون جدد
في الحب. الوردة! نطاق اتجاهاتها سوف يبدّد حتى وقاحة الموت. لا حاجز
مشبّك ينتصب في الطريق. الرغبة متقدة، وجع في جباهنا الضبابية.
ذاك الذي يذرع الأرض في أجوائها الماطرة لن يخاف من الشوك في مواضع هي
إما منتهية أو غير ودّية. لكن الويل له إن توقف ليحادث نفسه بصورة حميمة!
مخترَقاً في الصميم، هو فجأة يستحيل إلى رماد، رامي سهام روّضه الجَمال.
إلى...
كنتِ حبي لسنوات عديدة،
طيشي قبل انتظارات كثيرة،
حيث لا شيء يمكن
أن يشيخ أو يفتر؛
حتى ذلك الذي انتظر موتنا،
أو تعلـّم على مهل كيف
يحاربنا،
حتى ذاك الذي هو غريب عنا،
حالات خسوفي وعائداتي معاً.
مطبق مثل مصراع خشب البَـقـْس،
صدْفة متطرفة ومكتنزة،
هو قيدنا،
سلسلة جبالنا،
أبّهتنا المكثفة ووهجنا.
أقول الصدْفة؛
في وسع
أحدنا أن يتلقى
الجزء الغامض من الآخر
دون أن يسفح سرّه؛
والألم
الذي يأتي من مكان آخر
يجد انفصاله أخيراً
في لبّ وحدتنا،
يجد
مداره الشمسي أخيراً
في قلب غيمتنا
التي تنشق وتبدأ مرّة أخرى.
كما أشعره، أقول الصدْفة.
لقد رفعتِ قمة الجبل
التي سوف يتعيّن
على انتظاري أن يجعلها صافية
عندما يزول الغد.
تأملات رينه شار:
- على الشاعر أن يترك وراءه آثار مروره، لا البرهان.
- كل فعل هو بكر، حتى الأفعال المكرّرة.
- المسألة ليست في أن تكون كلماتك أو أفعالك خشنة أو وديعة،
هي
الروح الكائنة خلف أفعالك وكلماتك، تعلن عن حالتك الباطنية.
- وحده الأثر يجعلنا نحلم.
- الكثافة صامتة، صورتها ليست كذلك. أحب كل ما يبهر بصري ثم يؤكد
الظلمة
في داخلي.
- كيف نستطيع العيش دون أن يكون المجهول أمامنا؟
- الممارسة عمياء، وحده الشعر يرى.
***
فرنسا وأوروبا تحتفيان برائد الحداثة الشعرية في الذكرى
المئوية لولادته
(سيرة رينه شار شاعراً وإنساناً كما ترويها زوجته)
هاجيرة ساكر
تحتفل فرنسا بالذكرى
المئوية لميلاد الشاعر رينه شار (1907 - 1988) الذي يمثل ملمحاً مضيئاً في
الشعر الفرنسي في القرن العشرين وأحد أبرز وجوه الحداثة الشعرية في العالم.
تتميز تجربة رينه شار بجمعها بين عمق الالتزام الإنساني وخصوصيتها
الجمالية، وشكلت حالة متفردة في الشعر الحديث، يتزاوج فيها الحلم والحنين
والإبحار الداخلي والغوص في النفس البشرية. كان في مراحله الأولى، قريباً
من الحركة السوريالية، وقد نتج عن صداقاته بأعضائها، ومنهم بول إليوار
وأندريه بروتون، نتاج مشترك، لكنه ما لبث أن ابتعد عن السوريالية وانفتح
على أشكال مختلفة من التعبير تنفتح على التأملات الوجودية والقدرة على
تمجيد قوى وجمال الطبيعة والحياة.
في هذه المناسبة تقام نشاطات ثقافية
وفنية كثيرة، منها المعارض وأهمها معرض «المكتبة الوطنية» في باريس المقرّر
في شهر أيار (مايو) المقبل، إضافة إلى الندوات والعروض المسرحية،
الإصدارات الجديدة، ويأتي في مقدمها كتاب فخم بعنوان «بلاد رينه شار» بقلم
زوجته الثانية ماري كلود شار والصادر عن منشورات «فلاماريون» الباريسية،
وهو من الحجم الكبير ويقع في 260 صفحة. ويعدّ هذا الكتاب بمثابة مرجع أساسي
يغطّي أبرز المحطات في مسيرة الشاعر الإبداعية والنضالية.
يأخذنا هذا
الكتاب الأنيق إلى العوالم الحميمة لرينه شار فيجول بنا بين المراسلات
والصور والرسوم والأشعار وعبر مناظر ووجوه وأسماء أحبها الشاعر ومنها، على
سبيل المثال، جورج براك، بول إليوار، ألبرتو جياكوميتي، خوان ميرو، ألبير
كامو وأنتونين أرتو. من منطقة «البروفانس» و»ليل سور لاسورغ»، منطقة الحنين
إلى الطفولة، مروراً بمنطقة النضال في الألزاس، إلى باريس حيث كانت
إقاماته المتقطعة والأخيرة قبل الرجوع النهائي إلى أرض البدايات، يأخذنا
الكتاب في رحلة تشمل كلّ هذه الأماكن وعلاقة شار بها.
تفتتح ماري كلود
شار الكتاب بالقول: «إنّ العام 1907 هو العام الذي وُلد فيه الشاعر فلماذا
لا نحتفل بتاريخ الميلاد هذا، ولماذا لا نبحث عن مئة عام مضت وما حفره مرور
الزمن، وما تركه عمقه على حياتنا وفي قلوبنا. فليس من الضروري الذهاب
بعيداً والغوص في السنوات العابرة، ذلك أنّ بصمات حضور شار بارزة بيننا.
إذاً كان لا بد من إسماع هذه الصرخة عبر إطلالة على الصور والرسائل
والوجوه، وكذلك عبر المصالحة بين الأمس واليوم من خلال جمع أو ربط كل هذه
القطع المبعثرة من الأوراق والحجارة والخشب والحبر والتي حملت أشعار شار
وكلماته، لجعلها لوحة سوريالية تتجاوز الغياب. كل هذه القطع الحية تطلب أن
ترى النور ليس لأنها منسية بل لأنها تريد الخروج من الظل ولأنها مسكونة
بالشاعر وقادرة على إطلاق الصرخة».
في تأريخها لمسيرة الشاعر، تتوقف
المؤلفة عند مجمل محطات حياته بدءاً من «الهضبة المغلقة» المخصصة للحديث عن
مدينة الشاعر ومسقط رأسه «ليل سور لاسورغ» التي تدعى «بندقية البروفانس»
حيث يقع البيت العائلي الذي تحيط به مسايل المياه المتدفقة ومساحات من زهور
الزنبق والليلك والورد وأشجار الدفلى. إنها جنان والطبيعة فيها سيّدة
المكان، لذا لم يتوقف الشاعر شار عن الاحتفال بها في كتاباته ورسومه، وكذلك
احتفال الشاعر بمن أحبّ من وجوه هذه المدينة، ومنهم لوي كوريال وابنه
فرنسيس كوريال اللذان يطلق عليهما اسم «الشفافين»، ويعتبرهما الشاعر من
أقرب الناس إليه بطيبتهما وإنسانيتهما. ثم يأتي دور عائلته وفي مقدم
الذكريات علاقته بشقيقته «جوليا» التي تكبره ثماني عشرة سنة والتي اعتنت به
وهو صبي صغير. غير أن الأدوار ما فتئت أن انقلبت ليتولى الشاعر بعد سنوات
الاهتمام بالشقيقة وهي على فراش المرض في مستشفى مدينته، وقصيدته «جوع
أحمر» مهداة إليها. ولغرابة الصدف، مات الشاعر يوم 19 شباط (فبراير)، أي في
اليوم نفسه الذي ماتت فيه «جوليا». وهكذا يبدو أنّ الذي نظنه يفرّق، يجمع
بعد طول غياب. وتتتالى مواعيد الرحيل بين الأحبة ويشهد رينه على رحيل والده
بعد مرض عضال فكانت اللحظة رمز إبداع شعري مؤثر يمنح للكلمات حضوراً
مضيئاً.
يطلعنا الكتاب الجديد أيضاً على أهم الكتب التي تعلّق بها
الشاعر، ومن أحبها إلى قلبه كتاب «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست
الذي ترك أثراً عميقاً في نفسه. ويكشف الكتاب عن صداقاته السوريالية ومحطات
من مدن المقاومة الفرنسية، إلى تلك الصداقات المحفورة على الحجر بين
الشاعر ومجموعة من مبدعي القرن الماضي. ونقرأ في فصول لاحقة عن مرحلة
المقاومة في الجنوب والشمال، إضافة إلى مرحلة باريس ما بعد الحرب العالمية
الثانية، والعودة إلى مسقط رأس الشاعر من جديد ومحيطه في «البروفانس».
يركز
الكتاب على مسار الشاعر منذ البدايات، ويروي كيف كان مناضلاً وثائراً
ومقاوماً طوال حياته. ولقد عُرف منذ طفولته بمقاومته لقيود الأسرة وبخاصة
أمه التي مثلت في نظره قيود الدين والمجتمع، فثار في مراهقته وأصبح ثوروياً
في شبابه واختار المقاومة الفرنسية لمحاربة النازية في الحرب العالمية
الثانية. كان قائداً في المنطقة الجنوبية الشرقية برتبة عقيد، وفي سنوات
الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان مدافعاً شرساً عن البيئة. أما
تجربته النضالية الإبداعية فتمثّل مساراً تحررياً فريداً، وإن ظل شار قبل
كل شيء شاعراً منح حياته للكلمة والشعر وهو القائل إنّ من غير الممكن أن
تكون «للشاعر زوجة أو أطفال، وذلك حبّاً بآلهة الشعر وحدها». لكن فلسفته
هذه لم تمنعه من الزواج مرتين، مرة أولى من جورجيت غولتشتاين، وقد دام
زواجه منها من العام 1932 الى العام 1949، والزوجة الثانية هي ماري كلود
بليه التي كانت صديقته منذ العام 1977وقد تزوّجا قبل عام من وفاة الشاعر،
أي سنة 1987. ولم يكن باليسير الوقت الذي خصصه الشاعر لحب النساء فاحتلت
أسماء أخرى مكانة لا بأس بها في قلب شار ومنهن السويدية غريتا كنوتسون،
مارت الخيام، الأميرة الإيطالية مارغريت كاتاني وايفون زرفوس...
يحتوي
الكتاب على نصوص كثيرة منها مسوّدات ومخطوطات لأشعار ونصوص قصيرة وكتابات
على الحجر بالحبر و الألوان. نجد أوراقاً أخرى منها الممزّق والمنسي. ولولا
حرص ماري كلود شار لما رأت هذه الأوراق النور. هذا علاوة على مجموعة الصور
والرسوم الشاهدة على ثراء حياة هذا الشاعر وتنوعها، وهذا ما يمنح الكتاب
البُعد التوثيقي الأكيد، ذلك أنه يختصر تجربة شار الشعرية والفنية
والإنسانية بأكملها. واللافت حضور صور أصدقائه من الفنانين والكتّاب الذين
رافقوه في رحلته الطويلة ومنهم من أنجز معهم كتباً خاصّة جمعت بين نتاجه
الأدبي ورسومهم ومن هؤلاء بعض مبدعي القرن الماضي من الفنانين والشعراء
نذكر منهم جورج براك، فيكتور برونار، ألبرتو جياكوميتي، بول إليوار، خوان
ميرو وفييرا دا سيلفا...
الحياة - 25/03/07
***
ما يتركه الشاعر في أمكنته بعد رحيله
رينه شار في
كتاب"في محترف الشاعر"
صباح خرّاط زوين
(لبنان)
كم مرة قرأنا رينه شار،
وكم قصيدة حاولنا أن نفك ألغازها. كم بيتاً توقفنا عنده، وكم كلمة
اعتقدناها في متناولنا. كم ديواناً يئسنا من استيعابه، وصورة أثّرت فينا من
دون أن نفقهها. كم مقطعاً اعتبرناه غامضاً، ومشهداً خلناه كما لم يكن
أصلاً في مخيّلة الشاعر. كم حاجزاً حاولنا اجتيازه نحو شبه الوضوح وكم
باباً أغلق أمامنا. كم محطّة صعبة واجهناها، وأخرى خيبتنا. ثم كم النور
كثير في قصيدة رينه شار، والإقتضاب رائع في كلامه، وأسلوبه مشذّب، وبليغ في
شبه كتمانه. كم هو متمكّن، وأنيق. ورمزي، وغامض. هكذا قرأنا رينه شار منذ
أن قرأناه وما زلنا حتى اليوم. قصيدته صعبة، جميلة بل برّاقة، متوهجة.
قصيدته كأشعّة الشمس الحارقة. قصيدته لا تدفئ، بل تحرق. قصيدته خطيرة. بل
ليست كالأشعة، إنها الشمس بذاتها، من يتناولها لا يستطيع أن يقرأها - يراها
تماماً. فإما أن تحرقه وإما أن يصير القارئ في قلبها، أو جزءاً منها، إذا
استطاع. هكذا كلما قرأناه ونقرأه اليوم مجدداً في كتاب قيّم لماري - كلود
شار "في محترف الشاعر". وكان لبول فين أن يلج هذه القصيدة، في كتابه الرائع
"رينه شار في قصائده" (1990) وكان له أن يراقب الشاعر عن كثب، أن "يعيشه"
في دقائقه وتفاصيله، في بيته وفي مكتبه، كان له أن يفك الرموز ويدخل بصيصاً
من الضوء إلى الشمس المشتعلة، هكذا أرى قصائد شار.
ها نحن مع شار في كتاب ضخم "في محترف الشاعر". أي مجدداً في مكتبه -
محترفه، لكن هذه المرة مع ماري - كلود شار التي تضع تحت تصرف "دار غاليمار"
كل صور الشاعر منذ طفولته الأولى وصولاً الى آخر أيامه، إضافة إلى رسائل
وشهادات أصدقاء شعراء وغير شعراء، كذلك شهاداتها هي في سرد سيرة الشاعر منذ
أن كان طفلاً برفقة والديه وأخيه في قريته. وفي الأساس، في صميم الموضوع
والكتاب، نقرأ في الحيّز الأكبر للصفحة، قصائد شار كلّها في طبعتها الأولى،
في حالتها الأولى كما صدرت في البدايات. هذا هو "محترف" رينه شار، أو
بالأحرى سيرته، حياته الحميمة أثناء عمله، أثناء إبداعه، كما أثناء غضبه.
ومن يدري كيف كان يكتب وفي أيّ حال كان لمّا كانت تخرج منه القصيدة وتولد
على الصفحة؟ هل كان حالماً أمام ورقته، أم قلقاً، أم حزيناً؟ بول فين عاينه
في جلساتهما الطويلة: كان دائماً حالماً. أما في كلامه فكان مقتضباً وشبه
غامض. لم يكن إنساناً سهلاً. كان العنفوان يعبق في شخصه. ولمّا "لم يكن
يرغب في الردّ على الأسئلة يستعين بما وراء القصيدة، فيعود اليه ليخبر
النكتة التي أتت منها القصيدة".
قصيدة رينه شار دقيقة، محددة، تعرف ما تقصده في الكلمة اللازمة،
الضرورية، وليس أكثر من هذه الكلمة. "فالمفردة عنده تعطي الوزن الحقيقي
للأشياء" كما يقول بول فين. واذا كانت الكتابة الشعرية لديه نافذه إلى
الخيال الرحب، فعليها في الوقت ذاته أن تكون "دقيقة" كما يعبّر الشاعر. إنه
لا يحبّ الخروج إلى الرحابة المجنونة التي ذهب إليها السورياليون. لذا
تركهم بعد أن كان لفترة قصيرة معهم. إنه لا يحبّ فوضاهم كما إنه لم يحب في
المقابل الشعراء الكاثوليكيين، فكان يتهجّم بعنف على بول كلوديل مثلاً. كان
يقول "كنت أجد السورياليين صبيانيين بعض الشيء، كنت أشعر أني أنضج منهم
بسبب الظلم". ويعلّق بول فين قائلاً إن هذا الكلام صحيح، فتشاؤم شار لم يكن
ملائماً لتقدمية السورياليين الإنسانية... وفي هذا الكتاب الجديد، "في
محترف الشاعر" يقول شار في إحدى شهاداته عن أيام الطفولة "كانت طفولتي
تعيسة، والشعور بالظلم لم يفارقني ابداً... كان غضبي غضب المراهق المطارد".
وتخبرنا ماري - كلود شار، في هامش الصفحة، إن الشاعر كان يبحث باستمرار عن
أناس بسطاء في قريته، على غرار الحدّاد مثلاً الذي كان يحبّ رفقته. كان في
العاشرة من عمره حين كان والده يحتضر، فشهد تلك الميتة، ثم كان عليه أن
يعاني ظلم شقيقه له لاحقاً.
نتابع قراءة كتاب شار "في محترف الشاعر"، فنقع على سرد السيرة في هامش
الصفحة، وفي وسطها، وفي حيزها الأكبر بطريقة جديدة وحيّة. نعثر على صورة
قديمة له او للأقرباء، للأصحاب او للمربين، كما نقرأ، في أغلب الأحيان، وهو
هدف الكتاب، في عرض الصفحة، قصائده في إخراجها الأول. هو كتاب ضخم أكثر من
سيرة وأكثر من توثيق. إنه حياة شار بكل حميميتها وتفاصيلها وأصالتها، ولا
يبقى للقارئ سوى الحنين إلى وقت انتسب إليه الشاعر العظيم، حنيناً وحزناً،
إلى كل صورة بالأبيض والأسود، إلى خط الشاعر، إلى مسوداته، إلى تاريخه
وتاريخ فكره. اللافت في هذا الكتاب استشهاده بكثرة بكتاب بول فين السالف
ذكره. يبقى أن نقول إن شار الشاسع، شار السري والحقيقي، شار اللانهائي في
قصائده اللانهائية، لن يمكننا الإنتهاء من اكتشافه في كتاب وكتابين. إنه
أوسع من ذلك بكثير مهما ضخمت الكتب التي تتناوله. يقول رينه شار "... كل ما
كتبته كان مهيأ عمداً وفي انتباه". ونتساءل كيف استطاع الشاعر انطلاقاً من
الكلمة الدقيقة، أن يكون إلى هذا الحدّ رمزياً، معقّداً، صعباً، وغامضاً.
* "شار، في محترف الشاعر"، "دار غاليمار"، الحجم
الكبير، 1996.
النهار
31
السبت يوليو 31, 2010 7:07 am من طرف نابغة