غلاف الكتاب
- اقتباس :
“اهتمام غريب ،يعتمد فيما أظن، على جين غريب الذي لحسن حظ نوعنا ليس موزعاً بشكل واسع على عدد السكان“
روجر براون : اللغة الأولى
يوجد نقاش ساخن في الدراسات اللغوية عن حقيقة وجود “جين” للغة؟ أي شخص لديه اهتمام سطحي بالموضوع سيعلم أن هذا السؤال مبسط جداً. من غير الممكن تصور وجود جين واحد للغة، فالملكة اللغوية أكثر تعقيداّ من أن تكون محددة بالكلية بالتركيبة الجينية ناهيك عن جين واحد فقط. على أية حال قلما يوجد جين واحد لأي شيء- لأي نمط ظاهري : الجينات تعبر عن وظيفتها من خلال البروتينات وهذه البروتينات ممكن أن تحمل ترتيب مذهل من التأثيرات المعقدة من مختلف الأنواع . مثال ذلك ، لنأخذ الحالة المرضية المعروفة ” متلازمة “اكس” الهش” وهو أكثر الأسباب المعروفة للتخلف العقلي الموروث. بالرغم من عدم قدرتهم العقلية ، يوسم المرضى المصابين بهذه المتلازمة بأن لديهم آذانا كبيرة بارزة وكذلك خصيتين كبيرتين. هذه الثلاثية في الأعراض غير واضحة في الحالة الطبيعية ، وهذا ما يلخص استحالة وجود علاقة واحد إلى واحد بين النمط الظاهري والخلل الجيني. لذلك البحث عن جين (واحد) للغة أشبه ما يكون بالبحث عن سبب واحد لحادث سيارة ، الفشل في الضغط على المكابح و حالة الطريق الزلقة و تعب السائق و الإزعاج المشتت للانتباه من الركاب و الأضواء المحيطة كلها ممكن أن تكون أسباب مسببة للحادث. من الممكن أن تطول هذه القائمة وهذا يشير إلى أنه ليس من العدالة البحث عن سبب محدد لما يحدث في العالم الحقيقي.
التعقيد الحاصل في علاقة اللغة بعلم الجينات يبرز بدراسة تطور الجين “2FOXP” وكذلك عائلة “KE” المفصّلة بشكل أوضح في دراسة ماركوس و فيشر سنة 2003 . خلال فترة تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود ، عانت هذه العائلة من اضطراب حاد في اللغة والكلام (للاستزادة انظر سميث 2004 صفحة 131-3). كان من الواضح لسنوات عدة أن الدليل الوبائي يشير إلى نتيجة حتمية وهي أن المشكلة جينية بالأصل ، لكن لم يتم حل -ولو جزئيا- طبيعة هذا الخلل الجيني إلا في عام 2001. بسبب هذا الاكتشاف عمت فرحة عارمة بالمجال البحثي لأنه الآن يمكن أن تعزى المشاكل اللغوية لدى عائلة “KE” كما يبدو إلى طفرة جينية في جين واحد يسمى ب “FOXP2” .كان يعرف هذا الجين سابقا باسم “SPCH1”، لكن تم إعادة تسميته بعد اكتشاف وجود “Forkhead bOX” في الشفرة الوراثية داخل الجين (P2 تشير إلى أن الجين هو رقم اثنين الذي تم التعرف عليه في النوع “P” من عائلة جينات “forkhead” الكاملة. تم اكتشاف هذه الجينات “Forkhead” بالبداية في ذبابة الفاكهة وأتى الاسم من التركيب الغريب الموجود في أجنة الذبابة بسبب طفرة جينية في هذا الجين الأول.
بالرغم من أن الاهتمام تركز على تأثير هذه الطفرة الجينية على التطور اللغوي وبصورة أخص على دورها الوهمي في الاضطرابات اللغوية الخاصة ، إلا أنه يبقى عمل الجين “FOXP2” ليس بهذه السهولة .يعمل هذا الجين كعامل نسخ بحيث يقوم بتنظيم الكمية اللازم إنتاجها لبروتين معين الذي بدوره يسبب تأثيرا متتاليا على كمية البروتينات الأخرى داخل الخلية. لكن بالمقارنة مع عوامل النسخ الأخرى المعروفة ،يبدو أن الجين “FOXP2”من الممكن أن يؤثر على حركة المئات بل ربما الآلاف من الجينات الأخرى في هذا الاتجاه، كما يمكنه أيضا أن يكون له تأثير على الرئتين والقلب والأمعاء وكذلك على الجهاز العصبي المركزي. في هذه الظروف ، من الغريب جداً أن المشكلة الحادثة بسبب هذه الطفرة الجينية للجين “FOXP2” يجب أن تكون على ما يبدو مقصورة بشكل كبير على نطاق اللغة والكلام ، وهذا بالفعل ما يجادل به نيوبري وموناكو في دراستهم سنة 2002 (صفحة من 699-7000) “أنه من غير المحتمل أن يكون الجين “FOXP2” يمثل الموضع الجيني الأساسي في ظهور اضطرابات اللغة، لذلك من الممكن أن يشترك جين آخر داخل مسار الجين “FOXP2” في الشكل الظاهري للاضطرابات اللغوية الخاصة”.
تزداد المشكلة ضبابية إذا نظرنا إلى المخلوقات الأخرى . بشكل عام ،الجينات من النوع “Fox” لا توجد إلا في الحيوانات والفطريات ، لذا من غير من المحتمل أننا سوف نتحدث إلى النباتات في المستقبل القريب، بالرغم من أن تواصلنا مع الفطر ممكن أن يتحسن (انظر سميث 2001). واقعياً، لن نتحدث إلى الحيوانات الأخرى التي تشترك معنا بنفس الجين. تمتلك الفئران نسخة من الجين “FOXP2” (انظر اينارد واخررون 2002)، مع أن دوره في أقربائنا القوارض من المحتمل ألّا يكون لغوياً. من المثير أيضاً ، اتضح أن القردة أكثر قرباً للفئران منها إلى الإنسان فيما يتعلق بملكة الجين “FOXP2”، لكن التأثير الظاهري متعدد ، لذا فأن التنوع الواسع للآثار المحتملة لأي جين يجعل الأمر غير مثير للدهشة بأن نشترك في بعض الخصائص مع القردة بينما نشترك في خصائص أخرى مع الفئران والفطر.
لذلك فأن فكرة وجود جين واحد للغة تبدو يائسة ، لكن بكل تأكيد يوجد فهم بأنه أي اضطراب أو خسارة لجين واحد من الممكن أن تحمل تأثيرات تظهر بشكل طاغٍ على نطاق واحد ، و مثلما قال تشومسكي سنة 2002 (صفحة 230) فيما يتعلق بعدم قدرته على فهم اللهجات “ربما أفتقد إلى جين أو شيء ما” . ربما يفتقد إلى “جين اللهجة” ، لكنه أيضا يمتلك الكثير من الجينات الأخرى ، خاصة الجين الخاص بعلم اللغة. من المعروف أن والد تشومسكي “ويليام” كان لغويا مرموقاً كذلك ، فهو مؤلف كتاب “اليهودية : اللغة الأبدية” والكثير من الأعمال الأخرى في فقه اللغات السامية، وهذا على ما يبدو إشارة إلى وجود ميل جيني إلى علم اللغة. تشومسكي ليس مثالأ وحيداً على ذلك ، بل إن أعضاء المجتمع اللغوي على معرفة بالعمل الرائد لبول كبارسكي ، لكن ربما لا يعون أنه ابن للغوي مرموق أيضا-فالنتن كبارسكي- الكاتب لعديد من الأعمال من ضمنها كتاب القواعد للروسية القديمة (1979) ومقالة عن تأثيل أصل كلمة “حصان البحر” سنة (1952).تمتلك عائلة كبارسكي أيضا الجين اللغوي ، وهذا ليس كل الحكاية ، شتين فيكنر- العالم المشهور وكاتب كتاب “اللغة الجرمانية” سنة 1995 وكذلك غزارة في أعمال أخرى – هو أيضا ابن للغوي حاسوبي وروماني مرموق اسمه كارل فيكنر. وبالفعل نشر الاثنان بالتعاون مع بعضهما سنة 1997، علامة أكيدة على جينات فاعلة . على أية حال ، يجب أن أشير إلى أنه أنا وابني الأكبر نشرنا بالتعاون إيضا سنة 1988 ، لذلك عائلة فكينر ليست بتلك الفذة ، بما أن عائلة سميث أيضا من المحتمل أن تمتلك هذا الجين. في حال أعطيت الانطباع بأن هذا الجين “ذكوري” ، يجب أن أشدد على أنه ليس مقصوراً على الرجال ، فالأم والبنت –انيتا كارميلوف سميث و كيرا كارميلوف ، تعاونتا في إنتاج الكتاب الرائع ” مقدمة في علم اللغة النفسي”. كذلك هذا الجين ليس مقصوراً على الحضارة الغربية أو علاقة الجنس الواحد : فهذا تينق شي تانق و تشي شين جين تانق ، معروفان أيضا بأعمالهم على النحو في الصينية: هو سنة 1992 وهي سنة 2001 ، ليتوسع نطاق هذا الجين إلى الشرق الآسيوي وكذلك إلى علاقة رجل-امرأة (في هذه الحالة أب-وابنته).
بالطبع، إذا كانت الملكة اللغوية محددة جينياً ، فليس من المستغرب –كما هو مفروض بدون تفنيد بدراسة سابقة لسميث 1999 – أن كل اللغويين يمتلكون صفات أخرى متشابهة بينهم : على وجه التحديد تبدأ أسماؤهم مثلاً بصوت حلقي. وبالمثل أيضا، نتوقع أن امتلاك هذا الجين يعني أن لدينا عجزاً يقابله في مكان ما. فعلى سبيل المثال، مشكلة تشومسكي مع اللهجات ربما لا تكون فردية ، ربما لايوجد لغوي يفهم اللهجة ، وهذا أيضا يتوافق مع أن بعض الناس العاديين يفشلون بأن يكونوا لغويين والسبب هو افتقارهم إلى الجين ذي العلاقة. هؤلاء الناس يجب ألّا يوسموا بعجزهم كما يجب ألّا يوسم من يمتلكون ميولا جنسية سوية : الأمر ببساطة خارج عن إرادتهم . كما في الميول الجنسية، أي شخص يمكن له أن يحارب ضد الملكة الجينة في المجال اللغوي، فالبعض يحاول أن يكون لغوياً بالرغم من عدم ملاءمته الجينية . أترك الموضوع هنا وأدعه للقارئ ليضع قائمة لهؤلاء اللغويين المجهولين الذين لا تبدأ أسماؤهم بصوت حلقي .