سيريل سميث
تعريب:الاخضر القرمطي
نص المداخلة التي القاها الفيلسوف سيريل سميث في المنتدى الاشتراكي الدولي عام 1999
ما يظهر امامنا ما هو الا فصل من مشروع طويل الامد: اعادة فحص ما قام به ماركس، قدر المستطاع بدون أحكام الـ"ماركسية اللينينية" المسبقة. وبسبب سوء الفهم والعرض الهائلين لأفكار ماركس، تبدو لنا هذه مقدمة ضرورية للذهاب بعيدًا عن ذلك.
وهنا اريد ان القي النظر حول بعض الكتابات المبكرة لماركس، من اجل توضيح مقاصد عمله في الفلسفة، وعلاقة ذلك حول فكرته عن الشيوعية.سأحاول تفادي لغة التقليد الماركسي، الذي يستعين بمصطلحات فلسفية ليفترض ان ماركس كان مسؤولاً عن نوع من الفلسفة. بهذا الشكل، جرى تشويه كامل مشروعه.
بدأ عمل ماركس المبكر في المدرسة الهيغيلية، كما كل مفكّر آخر في المانيا في ذلك العصر.ولكن في بداية 1840، اصبح من الواضح ان هذه المدرسة اصبحت في طريقها الى التشظي.ولذلك كانت رسالة ماركس للدكتوراه حول تاريخ الفلسفة اليونانية، تتمحور حول اختلافه مع هيغل "مفكرنا العظيم"، كما اسماه ماركس.بتعظيمه فلسفة ابيكور،تلك التي قلل هيغل من شأنها، أقام ماركس مقارنة بين تاريخ كل من الفلسفتين اليونانية والالمانية، حيث أخذ ارسطو مكان هيغل، وربما ابيكور، الرواقيون و الريبيون محل "الهيغيليين الشباب".
علينا ان نبدأ بهيغل، ذلك انه بالحقيقة لم يسبق أعماله تاريخ حقيقي للفلسفة.وعمل هيغل نفسه يجب ان يؤخذ بكليته:"الحقيقة هي الكلي".ان تجريد قسم من النسق-المنطق مثلاً-يشوّه كلا من الكل والجزء.وفي كل أعماله ، يشير هيغل الى علاقتهامع تاريخ الفلسفة.في النسق (الهيغيلي) تبدو كل مراحل هذا التاريخ كلحظات، ترتبط كلٍ منها مع مرحلة خاصة من تاريخ المجتمع.ان كل عمل لفيلسوف ما هو الا "تعبير عن عصره في الفكر"، ممثلا في الآن عينه مرحلة من التطور الاجتماعي ومن وعي المجتمع لذاته.لذا، فتاريخ الفلسفة لا ينفصل عن فلسفة التاريخ، التي ترسم مسيرة الروح، اي المسار الكلي للحياة.بالنسبة لهيغل، كل "عصر" يمكن ان "يعبّر عن نفسه في الفكر"،ذلك ان الفكر، الروح،كان العامل الرئيس المحدد في الحركة التاريخية.
بالطبع،لكل عملٍ فلسفي بنيته المنطقية، ولكنه في الآن عينه مظهرٌ من المسيرة العضوية للفكرة عبر الزمن.وبالمناسبة، لم يلحظ هيغل سوى نمو الروح:" ان الطبيعة "بذاتها" لا تعرف النمو، بل فقط الحركة الدائرية.الطبيعة هي ما يكون،ولذلك فان تبدلاتها ليست سوى تكرار، حركتها فقط تكون دائرية.ولكن فعل الروح هو المعرفة بالذات"
(Hegel, Introduction to the Lectures on the History of Philosophy, p.24).
ان الحركة المتقدمة للروح، في التاريخ كما في الوعي البشري للتاريخ،هو ما دعاه هيغل الديالكتيك.
"ما يتشكّل هو شيء محدود.يجب ان يحمل صفة؛ان التحديد ضروري لوجوده وظهوره.ولكن، ان كان كذلك، فهو شيء متناهي، والمتناهي ليس الحقيقة؛ ليس ما يستحق ان يكون الحقيقة.فيكون مناقضًا لمضمونه،اي للفكرة، ويلزم ان يندثر......ان على الفكرة...ان تحطم هذا الشكل، ان تدمّر هذا الوجود الاحادي الجانب من اجل ان تمنحه الشكل المطلق المتماثل مع المحتوى"
.(Hegel, Introduction to the Lectures on the History of Philosophy, p.94)
لا يستمد منطق هيغل بعض مقولاته الحقيقية من مقولات اخرى حقيقية،بحيث ان افتراضات البنية كلها تستمد من الخارج.يعتقد هيغل ،انه برؤية الانكشاف التاريخي للحقيقة، يمكن له ان يجعل نسقه مطلقًا،غير مبني على افتراضات مسبقة.هذه الحركة المتشابكة للتاريخ وللوعي بالذات هي صيرورة الحرية.هذا هو المعنى الخاص الذي يضفيه هيغل على كلمة حرية:انها ليس "الحرية السلبية" لقرن التنوير الثامن عشر، والتي عنت فقط انه يمكن السماح للاشخاص ان يفعلوا ما يحلو لهم.تتوسط الحرية عند هيغل البناء الذاتي للروح.يصالح الفكر ذاته مع العالم، عبر تعرفه عليه على أنه نتيجة نشاطه الخاص.اذاً،وفقًا لهيغل، على العلم الفلسفي ان يفكر هذا التاريخ وفهمه الخاص لذاته.
ان التفكّر في الشيء، "الفكر التأملي"، له منحيان:اولاً،الموضوع المفكّر به يجب ان يقف معارضًا للذات المفكرة، وثانيًا هذا الموضوع هو امر يجب ان يكون قد حصل مسبقًا.يعارض هيغل تمامًا اي فكرة تعتبر ان الفلسفة قادرة على ان "تقدم تعليمات حول ما يجب ان يكونه العالم"، وفي هذه النقطة يتوافق ماركس دائمًا معه.ولكن مع هيغل،ينطوي ذلك على تشاؤم جوهري اعقب الثورة الفرنسية. ان الاشخاص يعتقدون انهم قادرون على التحكم بحياتهم الخاصة، ولكنهم لا يمكنهم تحقيق ذلك.ان للتاريخ،حركة الروح،اجندته الخاصة.انه يجعل من استعمال الاشخاص،مدفعون برغباتهم الذاتية،مع ما ينتج عن ذلك من عدم تحررهم.وافق ماركس على هذا باعتباره وصفًا لاشكال الحياة الاجتماعية التي تهيمن على من يعيش في كنفها. بالنسبة لماركس تشكل الشيوعية "الحركة النوعية" التي ستقطع مع هذه الاشكال.
يعني نقد ماركس لتاريخ الفلسفة عند هيغل في الآن عينه نقد أ-عمل هيغل بأكمله،ب-كذلك الفلسفة ،ج-كل العصور التي عبّرت عنها؛بالاخص د-المجتمع البرجوازي.ماذا يعني ماركس بـ"النقد"؟ لا يعني الرفض،اظهار ان وجهة نظر ما خاطئة،واحلال وجهة نظر مكان أخرى،"صحيحة". يعني النقد الذي قاده ماركس البحث عمّا اثمر وجهة نظر،طريقة عامة في التفكير، وبالتالي الطريقة العامة في كيفية العيش.اذًا،فنقد الفلسفة ليس سوى تحضير لتثوير طريقة العيش هذه، [وتحويلها] الى "حياة نوعية"،حياة انسانية حقة.حياة كهذه لن تحتاج للفلسفة لتصالح الفكر مع نقيضه.ان عالمًا انسانيًا لن يحتاج "تفسيرًا" لذاته بذاته.
يساعدنا نقد ماركس للدين،الذي بدأه اولاً،بجلاء كيفية عمل الدين.لا يدافع ماركس عن رفض بسيط للدين.بالنسبة له،الايمان الديني يحيل الى البؤس الحقيقي الذي يشكل منبعه.إنه"روحٌ لواقعٍ بلا روح." يتشابه نقده هذا مع نقده للدولة عبر فلسفة الدولة عند هيغل. يصوّر هيغل الدولة باعتبارها الرد على تجزّؤ الحياة الاقتصادية الحديثة.يقود النقد الماركسي الى ضرورة تخطي الدولة مع تخطي ذلك الشكل اللانساني للحياة. على خلاف فيورباخ،لا يرفض ماركس مثالية هيغل من اجل العودة الى مادية القرن الثامن عشر،او الى اي نظرة فلسفية بديلة. بالمقابل،يتحول ماركس الى نقد الاقتصاد السياسي،وعبره الى صيرورة الاشتراكية الحركة العملية للطبقة العاملة.
ان فكرة التوازي بين الله والمال،والتي انوجدت في عمل ماركس، تبدو على قدر من الاهمية في هذا المجال. يخلق البشر الله ومن ثم يتقلبون سلطته عليهم. في المجتمع البرجوازي، كما شرح بالتفصيل في "رأس المال"، نحن محكومون لما تنتجه ايادينا، كما اننا في الدين نبدو محكومين لما انتجته ادمغتنا.
لماذا بدأ ماركس عمله مع الفلسفة اليونانية؟ ان كل المفكرين الالمان الكبار،في نهاية القرن الثامن عشر وبادية القرن التاسع عشر،عادوا الى "اليونان" بنوع من الحنين،لأنهم اعتقدوا انه هنا كان هناك اناس لم يتجزأوا بعلاقات العالم البرجوازي الذي شاهدوا نموه في بريطانيا وفرنسا. ايضًا،نظر هيغل الى الاغريق، ولكنه عرف انه لا يمكن العودة.على العكس من ذلك،كافح هيغل من اجل مصالحة العالم الفرداني الجديد مع البنية الموحدة للدولة.
في العام 1843،وبتأثير من نقد فيورباخ لهيغل، درس ماركس "فلسفة الحق" عند هيغل.بعد سنين،في مقدمة 1859 لكتاب "نقد الاقتصاد السياسي"،عاد ماركس الى هذا العمل غير المنشور ليشرح كيفية وصوله الى دراسة الاقتصاد السياسي.في الواقع،يحتوي كتاب هيغل الاخير تاريخ شامل للفلسفة السياسية منذ افلاطون.ولذا،لم يقل ماركس الكثير مثلاً عن اعمال كانط او روسو،لأن ما يجب قوله كان موجودًا في عمل هيغل،وان نقد ماركس لهيغل يكفي في هذا المجال.
تتكامل مخطوطات باريس للعام 1844 مع "نقد جدل وفلسفة هيغل ككل".يمكن لماركس هنا ان يفهم ان تاريخ الفلسفة كما هي يعكس الانسلاب،الاستغلال،الانحلال والقمع.ولكن بدلاً من البحث عن حل لهذه الشرور، تحاول الفلسفة ان تظهر ضرورتها.
ان الفيلسوف-الذي هو بذاته شكل مجرد للانسان المغترب-يعامل ذاته على انه معيار للعالم المغترب.
يملك هيغل تبصرًا عميقًا فيما يخص الاستلاب.ولكن،باعطائه الاولوية للفكر،اقفل على فهمه في سجنٍ فلسفي.بالنسبة لهيغل،يشرح ماركس،لا تكمن حقيقة الامر في ان الانسان يموضع ذاته لاانسانيًا،بالضد من ذاته،بل في انه يموضع ذاته بالتمييز عن وبالتناقض مع الفكر المجرد،والذي يشكل الجوهر المفترض لاغتراب الشيء الذي يتم تخطيه.
تكمن عظمة هيغل في انه يلاحظ على سبيل المثال،ان الوعي الحسي ليس وعيًا حسيًا مجردًا،ولكن وعي حسي انساني؛بأن الدين،الثروة..الخ تشكل العالم المغترب للتموضع الانساني،لقوة الانسان الجوهرية الموضوعة في العمل،وانها مع ذلك الطريق الى عالم انساني حقيقي.
ولكن هيغل لا يرى كل هذا الا من ناحية فلسفية.بالنسبة له،فان الدين،سلطة الدولة،هي كيانات روحية؛والعقل هو الجوهر الحقيقي للانسان،والشكل الحق للعقل هو العقل المفكر،المنطقي،العقل التأملي.الخاصية الانسانية للطبيعة التي خلقها التاريخ-الانتاج البشري- تبدو في شكل كأنها نتاج العقل المجرد،وعلى هذا النحو مراحل للعقل-للكيانات الفكرية.
لا تستطيع الفلسفة الهروب من الصفة اللانسانية للعلاقات الاجتماعية الموجودة:انها بذاتها ارقى تعبير عن هذه العلاقات.قبل كل شيء،ان تفسير هيغل لتاريخ الفلسفة يجعل من الفكر مفتاح التاريخ الانساني.لذلك،تجسد الفلسفة الانقسام ما بين الطبقة الحاكمة،التي تقوم بفعل التفكير،والجماهير،التي تقوم بالعمل الملموس.يعرف هيغل هذا الامر،ولكن الفلسفة لا تستطيع الا ان تصفه كلزوم موضوعي.
قد نقول ان للفلسفة فعلين فقط.يمكنها امّا ان "تبشّر بتعاليم" من اجل تغيير العالم نحو ما يجب ان يكون؛او انها يمكن ان تشرح لماذا بالضرورة تكون الاشياء على ما هي عليه.بهذا المعنى،تكون الفلسفة دومًا عدوة للديمقراطية."نحن" الفلاسفة بمفردنا نعرف الاجوبة،بينما "هم" الناس العاديون لا يستطيعوا ذلك.كما تمت الاشارة غالبًا،يكون اليوتوبيون دومًا بيروقراطيون ومستبدون-مع كل النوايا الطيبة،بالطبع.في مسار عملها،يمكن للفلسفة ان تبيّن المشاكل الرئيسية،ولكن فقط في الفكر.هذه المشاكل،لا تحل، مع ذلك،الا في الكفاح من اجل تغيير طريقة عيشنا.
لاحقًا في العام 1844،نشر ماركس وانغلز "العائلة المقدسة"، كتهجمٍ(كثيرًا ما يبدو مملاً) ساخر ضد الهيغيليين الشباب.يحيلنا ذلك الى تبصرات ماركس حول طبيعة الفلسفة وتاريخها.
بالاساس،وعند هيغل،يجد الروح المطلق للتاريخ مادته في الجماهير وتعبيره المناسب فقط في الفلسفة.ان الفيسلوف،بشكل ما،هو الاداة العضوية التي يصل عبرها صانع التاريخ،الروح المطلق،الى الوعي بالذات استرجاعيًا،بعد ان تنتهي الحركة.
تتبيّن اضاءة قوية على نسق هيغل."عند هيغل نجد ثلاث مكونات،جوهر سبينوزا،الوعي الذاتي عند فيخته،والوحدة الضرورية التناقضية للإثنين(سبينوزا وفيخته) عند هيغل."على هذا الشكل،تستعمل الميتفيزيقا لاخفاء "الطبيعة المنفصلة عن البشر....الروح المنفصلة عن الطبيعة". ما يتخفى داخل وحدتها الميتافيزقية هو"الانسان الحقيقي،والنوع البشري الحقيقي".
في العام 1845،استعانت "اطروحات حول فيورباخ" بمثالية هيغل ضد "كل المادية السابقة-بما فيها مادية فيورباخ"،وفي الوقت عنيه،هاجمت المثالية من "وجهة نظر مادية جديدة". جعلت الاطروحة الاولى هيغل في وجه فيورباخ،مثمّنة المثالية باعلاء شأن الممارسة،ولكنها تظهر ايضًا حدود المثالية.يهاجم ماركس "الرؤية النظرية"،ويدين فيورباخ لأنه لم يعط شأنًا للنشاط الممارساتي النقدي والثوري. تشير الاطروحة الثالثة الى الصلة بين المادية واليوتوبيا،وتحل مشكلة طرحها اليوتوبيون في "الممارسة الثورية"،حيث يتبيّن كيف ان "تغيير الشروط والنشاط الانساني" يمكن لهما ان يتلازما.في الاطروحات 9 و 10،يجري التمييز بين "المادية القديمة" وتلك الجديدة، التي تعلي من شأن "المجتمع الانساني والانسانية الموحدة".في النهاية،تحوي الاطروحة 11 نقد الفلسفة التي لا تقوم،بأعلى حالاتها، الا "بتأمل العالم".
نجح هيغل في اظهاره ان التاريخ وفهمه كسيرورة موضوعية، تخلق البشرية ذاتها عبره،تحت اسم الروح، كذات تمتلك وعيًا ذاتيًا.في العام 1843،عندما انتقل ماركس الى دراسة الاقتصاد السياسي،رأى "ان رؤية هيغل هي رؤية الاقتصاد السياسي الحديث".كان هيغل قد قدّم صورة دقيقة حول الخلق الذاتي للانسانية عبر العمل الاجتماعي،ولكن ذلك لم يستطع ان يكون الا صورة بالمقلوب،ذلك انه في المجتمع البرجوازي،كانت الانسانية تعيش رأسًا على عقب.
من هنا كان باستطاعة نقد ماركس للاقتصاد السياسي ان يبدأ.حيثما جعلتنا فلسفة التاريخ عند هيغل،وتاريخه للفلسفة اسرى الروح،بيّن لنا نقد ماركس لهيغل كيف نفّر من السجن.في المجتمع المدني،"كأرض معركة للمصلحة الخاصة"،نحن محكومون "بالتجريدات".ان كفاح البروليتاريا ضد حياتها تحت سلطة الرأسمال،فتح الطريق امام الانسانية كلها لتتحرر.في المجتمع الانساني،سيتحكم البشر بانفسهم.وبدل "الشراكة الوهمية" المدعوة دولة ستحل "الشراكة الحقة" من اشخاص متحدين،حيث "التطور الحر لكل واحد" سيصبح الشرط، و حيث"التطور الحر للكل" سيكون النتيجة.ولكن ماركس لم يستطع الوصول الى هذه الافكار مباشرةً. كان عليه ان يقارب الشيوعية عبر المشاكل التي انتجتها الفلسفة وتاريخها الطويل. وقد فتح نقد الخلاصة الكلية لتاريخ الفلسفة عند هيغل الباب امام اظهار الميزة الخاصة للعالم المخلوع.