[size=10]88[/size]
ما بعد الإسلاموية كمشروع: الماهية والحدود([1])
على الرغم من جدة طرح مفهوم ما بعد الإسلاموية، إلا أنه اكتسب زخمًا كبيرًا في الدوائر الثقافية والبحثية العربية والغربية على السواء، أثناء وبعد الموجة الأولى من الانتفاضات الشعبية، التي أطلق عليها الربيع العربي، هذا الحراك وما أفرز من تغيرات سياسية هائلة أزالت نظمًا وأحلت أخرى، وأطاحت بطبقات ومشروعات سياسية في فترة وجيزة، بشرت من ضمن ما بشرت به من آمال سياسية عريضة، أن يتحول الإسلام السياسي كليًّا عن أسسه الإسلاموية التي تم إرساؤها عبر قرن من الصراع بينه وبين الدولة العربية القومية، ليدخل في مرحلة جديدة تستوعب حتميات الديمقراطية والانفتاح على الدولة والمجتمع، حيث رأى البعض في الثورات العربية بشكل عام ثورات ما بعد إسلاموية[2]حركتها بالأساس "لا حركات" اجتماعية إلى جانب حركات اجتماعية وسياسية ؛ تلك التي حاولت العمل من أجل الإصلاح السياسي للنظم فاقدة الشرعية طوال عقود، كان صاحب هذا الاجتهاد بالأساس آصف بيات عالم اجتماع الشرق الأوسط، وصاحب الإسهام الأكبر في تطوير المفهوم فضلاً عن صكه. - اقتباس :
إذا كانت ما بعد الإسلاموية تمثل قطيعة مع إرث الإسلاموية، فإنها، في أحد جوانبها، تمثل محاولة لإحياء إرث الإصلاح الديني.
وكغيره من المفاهيم الشارحة والمفسرة، تعددت تعريفات وتأويلات ما بعد الإسلاموية[3]، وزاد من سيولة التعريف أن للمفهوم أصداء ما بعد حداثية، فإذا كانت الإسلاموية أو حالة الإسلام السياسي، إنما تعبر عن تحديث للدين، باعتباره أيديولوجيا هدفها إعادة تأسيس دولة الحداثة على أسس إسلامية، وهي في الوقت نفسه علمنة تزمينية له، وما يتضمنه هذا من تكوين سلطة مركزية حاكمة تفرض أنماطًا هوياتية وأخلاقية معينة على المجتمع الذي تستهدف لجعله "مسلمًا" مرة أخرى، فإن ما بعد الإسلاموية كغيرها من الما بعديات المزدهرة في فلسفة ما بعد الحداثة تشير إلى معانٍ عديدة تشير إحداها إلى تآكل هذا النموذج دون تأسيس نموذج بديل، أو انتهاء مرحلته التاريخية أو فشل أدواته العنفية الفوقية، أو بزوغ أنماط جديدة من التدين الفرداني بدلاً من التدين الجماعي الذي تفرضه الدولة أو يسعى إليه المجتمع، على نحو ما سنقوم بتفصيله. وإن كنا سنركز في هذه المقالة على ما بعد الإسلاموية، باعتبارها مشروعًا، محاولين الاقتراب منه نقديًّا بتبيان إمكانات تحققه على خلفية الواقع الاجتماعي والسياسي الذي خلفته الثورات واضطراباتها، وبالتالي يصبح السؤال الرئيس في هذه القراءة هو، هل ما بعد الإسلاموية ممكن؟ وهل حملت الثورات في طياتها إمكانات ما بعد إسلاموية؟ وما احتمالات تحقق هذا المشروع مستقبلاً؟ تعريف ما بعد الإسلاموية كمشروع
على العكس من إخفاق الإسلام السياسي عبر العالمين العربي والإسلامي، عبرت الحالة الإسلاموية في إيران عن اكتمال مشروع بناء "الدولة الإسلامية" على أسس لاهوتية صرفة؛ فعلى الرغم من خلو إيران في سنوات ما قبل ثورة 1978- 1979 من حركات إسلامية قوية، استطاعت طبقة الملالي من توظيف حراك الثورة لتقيم جمهورية إسلامية بناء على نظرية لاهوتية سياسية قروسطية؛ وهي ولاية الفقيه، وفرضت هذه الدولة الجديدة عملية أسلمة شاملة وواسعة النطاق على المجتمع الذي خرج لتوه من عقود من التحديث العلماني الذي قام به نظام الشاه، على أن النظام الثوري شهد عقب وفاة الخميني تحولات عميقة على مستوى بنيته السياسية وقواعده الاجتماعية، أطلق عليها آصف بيات، بالتوازي مع أطروحة روا، ما بعد إسلاموية؛ وهي تحولات ارتبطت بتراجع الحالة الثورية التي كان عليها النظام إبان عقده الأول، وصعود تيارات فكرية وثقافية تحاول تصحيح الخط السلطوي للثورة ورفع يده الثقيلة عن المجتمع.
وعلى الرغم من ارتباط المفهوم الذي صاغه بيات بالحالة الإيرانية، فقد مثلت ما بعد الإسلاموية "حالة" و"مشروعًا"[4]. في المثال الأول، أشارت ما بعد الإسلاموية إلى الحالة السياسية والاجتماعية التي أعقبت مرحلة التجريب، واستنزفت فيها جاذبية وطاقة ومصادر شرعية الإسلاموية، حتى بين من كانوا مؤيديها المتحمسين. وأصبح الإسلاميون واعين بتماثلات واختلافات خطابهم في الوقت الذي يحاولون فيه أن يؤسسوا أو أن يتخيلوا حكمهم. وأصبح إطارهم السياسي، بفعل التجربة والخطأ المستمرين بالإضافة إلى العوامل الدولية والواقع المحلي، عرضة للتساؤلات والانتقادات. وستنتهي المحاولات البراجماتية لإدامة النظام في النهاية إلى تأكيد التخلي عن بعض المبادئ المؤسسة للإسلاموية. وأضحت الإسلاموية، نتيجة لظروفها الداخلية والضغوطات المجتمعية، مضطرة إلى إعادة اختراع نفسها، لكنها تقوم بهذا على حساب تحولها الكيفي. ويقدم التحول الهائل في الخطاب الديني والسياسي في إيران خلال التسعينيات نموذجًا على هذا الاتجاه. أما المشروع الذي تحمله ما بعد الإسلاموية؛ أي كمحاولة واعية لتأطير مفاهيم ووضع استراتيجية لبناء منطق ونماذج متجاوزة للإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية. مع ذلك، وبهذا المعنى، فهي ليست علمانية أو معادية للإسلام أو غير إسلامية؛ فهي بالأحرى تمثل سعيا نحو دمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر. إنها محاولة لقلب المبادئ المؤسسة للإسلاموية رأسًا على عقب من خلال التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، ووضع التعددية محل سلطوية الصوت الواحد، والتاريخية بدلاً من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلاً من التاريخ. إنها تريد أن تزاوج الإسلام والاختيار الفردي والحرية، على اختلاف درجاتها، من ناحية، والديمقراطية والحداثة من ناحية أخرى، لتحقيق ما أطلق عليه البعض "حداثة بديلة". لقد تم التعبير عن بعد الإسلاموية في الاعتراف ببعض أسس العلمانية مثل التحرر من التزمت، والقطيعة مع احتكار الحقيقة الدينية. وفي الوقت الذي تتحدد فيه الإسلاموية بربط الدين بالمسؤولية، فإن ما بعد الإسلاموية تؤكد على التدين والحقوق. مع ذلك، فبينما تفضل الدولة المدنية غير الدينية، فإنها تتوافق على دور للدين في المجال العام.
- اقتباس :
تفتقد ما بعد الإسلاموية القاعدة الاجتماعية التي تستطيع التعامل معها كمشروع اجتماعي شامل، وهو أمر يحتاج إلى تنظيم النضال الاجتماعي، وتوسيع قواعده، وتجديد آلياته
وفي آخر أعماله التي يعيد فيها الاقتراب من المفهوم بعد دراسة تطوره في العديد من بلدان العالم الإسلامي، يقول بيات: "إن ما بعد الإسلاموية "قطعية" خطابية / أو ذرائعية عن النموذج الإسلاموي. غير أن الاتجاه ليس ما بعد إسلاميًّا Post-Islamic كما يدعوه البعض مخطئين، ولكنه ما بعد إسلامويًاPost-Islamist. بعبارة أخرى، لا أتحدث عن الانقطاع عن الإيمان الديني نحو العلمانية- على الرغم من أن "ما بعد الإسلاموية" تشير إلى عملية العلمنة بمعنى تأييدها لفصل الأمور الدينية عن شؤون الدولة- ولكني بالأحرى أتحدث عما بعد الأسلمة كعملية مركبة للانقطاع عن الحزمة الأيديولوجية الإسلاموية من خلال الالتزام بمشروع ديني مغاير وأكثر استيعابًا يستمر فيه الإسلام كدين وكمكون للمجال العام". وفي موضع آخر، يقول "تدلل "ما بعد الإسلاموية" في كل تجربة على الانتقال أو الخروج النقدي والخطابي- بدرجات مختلفة- من حزمة أيديولوجية إسلاموية قوامها احتكار الحقيقة الدينية والاقصائية والتأكيد على الالتزامات، نحو الإقرار بغموض النصوص والتعددية والاستيعاب والمرونة في المبادئ والممارسات".
وعليه يمكن القول إن المشروع ما بعد الإسلاموي، إنما تتمثل مكوناته الفكرية من:
- الاعتراف بالدولة الحداثية والعمل من خلالها، وتبني مؤسساتها مع الإيمان بالديمقراطية والتعددية السياسية، والانفتاح الحركي والبرامجي على المجتمع وقواه السياسية.
- إعادة تعريف العلمانية، باعتباره مبدأ لإرساء التوازن بين الدولة والدين، حيث لا تكون الدولة مهيمنة على الدين أو مندمجة فيه. في الوقت الذي يبقى فيه الدين فاعلاً في المجال العام، باعتباره مكونًا رئيسًا من مكونات الاجتماع.
- التوكيد على القراءة الحداثية للدين على نحو يعيد ميراث الإصلاح الديني والقراءة التعددية للنصوص وإعادة تأويلها على نحو يعيد حيويتها في فهم الواقع الاجتماعي والتاريخي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وبالتالي، يحمل هذا المشروع في طياته مكونات إصلاحية سياسية ودينية بالغة الأثر. وإذا كانت الإسلاموية في نشأتها وتطويرها انحرافًا على إرث الإصلاح الديني في منتصف ونهاية القرن التاسع عشر، والذي سعى إلى إعادة قراءة الأصول الإسلامية التي رأى فيها رواد الإصلاح صحيح "الإسلام"، وحاولوا تنقيتها من الشوائب الاجتماعية المتراكمة عليها عبر عقود، عندما نقل الإصلاح من دائرة الفكر والفرد؛ فالمجتمع إلى دائرة السياسة والحكم والأسلمة بقوة الدولة، فإن لما بعد الإسلاموية جذوراَ تعود إلى ما قبلها، وهو المعنى الذي أكد عليه بيات في إشارته للقراءات التقدمية للدين، والتي ظهرت في بلدان إسلامية عديدة شهدت تحولات عميقة للحركة الإسلامية قبل عصر الصحوة الذي دشن عصر الأصولية الإسلامية في نمطيها المحلي والعالمي، وبالتالي، فإذا كانت ما بعد الإسلاموية تمثل قطيعة مع إرث الإسلاموية، فإنها، في أحد جوانبها، تمثل محاولة لإحياء إرث الإصلاح الديني.
تقترب ما بعد الإسلاموية بهذه الدلالة من الإسلام الليبرالي، المعبر عن دمج قيم الإسلام في منظومة القيم الليبرالية المعولمة، وهو معنى يقترب إلى حد التطابق مع مفهوم روا، وعلى رأسها الخصخصة والفردانية وقيم السوق، بيد أن بيات، وهو يقر بأن هناك مساحة مشتركة بين الطرحين، يؤكد أن ما بعد الإسلاموية مشروع نقدي بالأساس، كما أنها لا تسعى إلى خصخصة الدين، بل إلى إيجاد مساحة فعالة له في المجال العام. ومع ذلك تبقى خطوط نظرية الحقوق والحريات في مشروع ما بعد الإسلاموية غائمة، وهذا الغموض منبعه الغموض الذي يكتنف وضعية الدين في المجال العام، إذ إن السؤال سيبقى؛ من يقوم بتأويل الدين وطرحه في المجال العام، وهل له سلطة القبول والرفض للسلوك والقيم، أم أنه مشارك كغيره من فواعل المجتمع؟
على الرغم من أن بيات يؤكد أن مفهوم "ما بعد الإسلاموية" مفهوم تحليلي يحاول فهم تحولات نشاطية الحركة الإسلامية، وكذلك أنماط تغير الحالة الدينية في المجتمعات الإسلاموية، إلا أن توكيد "مشروعية" ما بعد الإسلاموية، يعني تجاوز التحليل إلى طرح منظور جديد لتأطير العلاقة بين الدولة والاجتماع والدين، والإسلام والحداثة وعولمة القيم الليبرالية، هو ما أدى إلى اتهامه بالمعيارية، أو الأيديولوجية، لا ينفي بيات هذه التهم، فيقر أن المفهوم بحاجة إلى تطوير وتأصيل بناء على الدراسة الواقعية للمجتمعات الإسلامية، وعلى نطاق أوسع من النماذج التي صاغ هو نظريته أو مشروعه بناءً عليها.
حدود ما بعد الإسلاموية كمشروع
يتضح من العرض النظري السابق للمفهوم، أنه بصدد التكون والتشكيل، وهي عميلة رهينة بالواقع السياسي والثقافي لمجتمعات العالم الإسلامي بالأساس والتفاعل بين الإسلام والدولة والحركات الإسلامية بداخلها. وقد قام بيات وعدد من الباحثين بعمل تطبيقات لما بعد الإسلاموية كحالة وكمشروع لإعادة النظر في تاريخ الحركات الإسلاموية في 10 بلدان ذات غالبية إسلامية، هي إيران وتركيا والمغرب وإندونيسيا ومصر ولبنان وباكستان والسعودية والسودان وسوريا، وقد صدرت هذه الأبحاث مؤخرًا في كتاب تحت عنوان "ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي". وتتناول هذه الأبحاث المعتمدة على تأطير بيات للمفهوم حالات ما بعد إسلاموية، تتعدد أسباب نشوئها وإخفاقها أو تعثرها لأسباب متنوعة ومختلفة، وقد أدت سيولة المفهوم وارتباكها في بعض الأحيان إلى خلط الباحثين ما بين مفاهيم ما بعد الإسلاموية والإسلام الليبرالي والبراغماتية السياسية. وكانت ما بعد الإسلامويات التي رصدها الكتاب ناقصة ومبتسرة إلى الغاية، ففيما عدا الحالة الإيرانية التي تناولها بيات، وأسفر تيار فكري حيوي وسياسي قوي بنى له قواعده الاجتماعية، لم تكن هناك مشروعات ما بعد إسلاموية في بقية الحالات، بقدر ما كانت هناك حالات تحول خطابية وسلوكية محدودة تقترب من تعريفات أخرى من ما بعد الإسلاموية غير التعريف النقدي الذي قدمه بيات.
أسفرت التحولات العميقة التي أحدثتها الثورات إلى عودة المفهوم إلى الواجهة، باعتباره مشروعًا بديلاً يمكن أن تتبناه الحركات الإسلامية في العالم العربي، وأن تحل من خلاله إشكالية علاقتها المهيمنة مع الدين والمجتمع. بيد أنه في ظل حالة الانتكاسة التي تعرضت لها الثورات في نطاقها الأشمل، والذي لا يعني بالضرورة إخفاق حركة التغيير نهائيًّا، يمكن أن نطرح أسئلة حول حدود ما بعد الإسلاموية وإمكانات تحققها كمشروع بديل يعيد تأطير العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع، وذلك من خلال طرح عدد من المعضلات.
- معضلة الحركات الاجتماعية
على العكس من الإسلاموية، والتي حملتها حركات اجتماعية وسياسية قامت بتظيم نفسها على النمط المركزي اللينيني والحزبي الطليعي بأشكال سرية ومعلنة شرعية وغير شرعية، تراهن ما بعد الإسلاموية على نمط الفاعلية الاجتماعية التي يطلق عليها بيات "اللا حركات الاجتماعية"، وهو نمط مغاير للحركات المنظمة، ويعتمد على تراكمية التغيير التحتي الذي تقوم به الجموع من البسطاء، أو فئات الشباب والنساء والمثقفين دون أن تنتظم هذه الجهود في شكل محدد. وصف بيات الثورات العربية في بدايتها بأنها لا حركات اجتماعية تجمع ما بين فكرتي "الثورة والإصلاح Refol-ution"[5] من حيث تجسيدها لتراكمات جهود العديد من الفئات الاجتماعية التي أشعلت احتجاجات مستمرة ضد نظم الحكم في عقود ما قبل الثورات. لقد أثبتت اللاحركية الاجتماعية أنها قادرة على خلق حالة التغيير دون القدرة على فرضه، وهو ما أدى في حالات كثيرة إلى نكوص النهضة الما بعد إسلاموية. على النحو الذي آل إليه الحراك الاجتماعي في إيران ما بعد الخميني، حيث أدت لا مركزية الحركة وتفتتها وتضاربها الفكري إلى عودة هيمنة المحافظين على الدولة والمجتمع، في الوقت الذي ربحت فيه ما بعد الإسلاموية أرضيات محدودة. وفي الوقت الذي تهيمن فيها الإسلاموية كمشروع وكحالة فكرية وثقافية ممتدة، إذ إنها تعبر عن حركات اجتماعية واسعة النطاق ولها حواضن وحوامل كثيرة، حيث لم تقف عند حدود الطبقة الوسطى التي أنشأتها، تفتقد ما بعد الإسلاموية القاعدة الاجتماعية التي تستطيع التعامل معها كمشروع اجتماعي شامل، وهو أمر يحتاج إلى تنظيم النضال الاجتماعي، وتوسيع قواعده، وتجديد آلياته بعيدًا عن القوى الاجتماعية القديمة التي تعوق سبل التغير.
- اقتباس :
تعبر الإسلاموية عن جمود في الفكر الديني وهيمنة للرؤى الدينية التقليدية على المجتمع أما ما بعد الإسلاموية، فتعبر عن الحاجة إلى إصلاح ديني عميق
- معضلة الإصلاح الديني
تعبر الإسلاموية في أحد جوانبها عن جمود في الفكر الديني وهيمنة للرؤى الدينية التقليدية على المجتمع. أما ما بعد الإسلاموية، فتعبر في أحد جوانب مشروعها عن الحاجة إلى إصلاح ديني عميق يعيد قراءة الإسلام على نحو تعددي ومستقبلي ومنفتح على الواقع المتغير. غير أن واقع الفكر الديني في أغلب المجتمعات الإسلامية لا زال في صالح الرؤى الإسلاموية التي عملت عبر عقود على أسلمته على حساب الرؤي التقدمية أو الإحيائية، بل وأصبحت مؤسسات الدولة في كثير من الحالات جزءًا من حالة الأسلمة؛ حيث سارعت إلى أسلمة خطابها وتوكيدها على القيام بوظائف دينية، لسحب البساط من تحت أقدام الحركات الإسلامية والطعن في شرعية سعيها إلى فرض الدين على المجتمع، وهو ما راكم إرث الجمود الديني الذي زادت وطأته بقوة الدولة، ولعل حالة الارتباط العضوي بين الأزهر والدولة في مصر خير مثال على هذا.
من ناحية أخرى، لا زالت الاجتهادات الفكرية التي تنادي بالإصلاح تعاني من التهميش، بل ومن الاضطهاد بسبب ما سبق من هيمنة التقليدية الدينية على الدولة والمجتمع، وهو ما حصرها في دوائر نخبوية ضيقة النطاق ومحدود التأثير، وربما كانت حالة المفكرين الدينيين في إيران أكثر نجاحًا من غيرها في العالم الإسلامي، إذ استطاعت -عبر العمل الفكري المنظم تقديم خطاب فكري إسلامي جديد ينتصر لفكرة الحقوق والعقل النقدي في قراءة النصوص المقدسة - استطاعت أن تلتحم بالحراك الاجتماعي الحادث في إيران في عقد التسعينيات، بيد أن هذه الحركة الفكرية سرعان ما عانت من الانقسام، وظل تأثيرها محدودًا في مواجهة هيمنة الملالي على أجهزة التعليم والثقافة في الدولة.
يرجع بيات حالة الجمود التي عانى منها التفكير الديني والفقهي في مصر في العقود الماضية إلى غياب الحركات الاجتماعية القادرة على ممارسة ضغط كبير على المؤسسات الدينية، حيث تقوم بتجديد فعلي يتوافق مع احتياجات المجتمع وأجياله الجديدة، وهو ما يعني أن معضلة الإصلاح الديني ترتبط على نحو عميق بمعضلة غياب الحركة الاجتماعية القادرة على حمل المشروع ما بعد الإسلاموي.
- معضلة سياسة ما بعد الثورات
أثبتت الصراعات السياسية في مرحلة ما بعد الثورة أنها بمثابة ثقب أسود قادرعلى تفتيت محاولات التجديد والتغيير، وذلك بسبب سيادة حالات الاستقطاب الأيديولوجية والسياسية، فبرهن الإسلاميون على عدم قدرتهم على تطوير خطاب فعال يخرجهم من التركيز على الهيمنة على الدولة والأسلمة، ففي الحالة المصرية مثلا نجد "اندفاع الإخوان نحو احتكار السلطة وإصرارهم على الالتزام التنظيمي والسرية واستخدامهم لغة الشريعة، واستغلال الدين في خدمة السياسة "كما دفع الاستقطاب الحركات ذات التوجهات التي وصفت باكرًا بأنها ما بعد إسلاموية إلى الانحياز إلى جذورها الإسلاموية، لعل حالة حزب الوسط في مصر هي أقرب الأمثلة على هذا. وفي الوقت الذي استحالت فيه الثورات في المشرق العربي إلى حروب أهلية مفتوحة، تخلت جميع الأطراف عن خطاباتها الانفتاحية وانخرطت في حرب طائفية ضروس (حالة حزب الله). وذهبت اجتهادات كثيرة إلى اعتبار أن حزب العدالة والتنمية التركي، إنما يعكس نزعة ما بعد إسلاموية مغايرة لتقاليد الإسلام السياسي التركي وتدمج بين الإسلام والديمقراطية والسوق الحرة، إلا أن المحافظية السلطوية في تركيا أثبتت قدرتها على الالتفاف على أي تغيير في البناء السلطوي للدولة، بل أفادت منه ووظفته في الوقت الذي تقوم فيه بمحاولة الهيمنة على المجتمع باستخدام خطاب ديني فج. ولعل الحالة التونسية كانت الأقرب في التوصل إلى حالة ما بعد إسلاموية؛ بتجنب القوى الإسلامية التقليدية الوقوع في فخ محاولة الهيمنة على السلطة وتوصلها إلى حالة إجماع سياسي مع بقية القوى العلمانية والحداثية، غير أن هذا لا يعني التوجه نحو تطوير مشروع ما بعد إسلاموي خاصة مع استمرار الاستقطاب الأيديولوجي بين الإسلاموية وتيارات الحداثة العلمانية، وكذلك تأثر قطاعات في المجتمع التونسي بالتيارات السلفية والأصولية الجهادية على نحو لا يبقيها بعيدًا عما آلت إليه المنطقة.
لا تعني هذه المعضلات نفي مشروع ما بعد الإسلاموية، بقدر ما تضع مع غيرها من المعضلات، تحديات أمام تحقيقه، كما أنها تعبر عن أزمات بنيوية في تكوين الاجتماع والدولة، ولا ترتبط بنكوص الحالة الثورية أو الحركات الساعية إلى تغيير اجتماعي عميق. ويبقى أن ما بعد الإسلاموية لا زالت مشروعًا في طور التطوير النظري، ويقتضي تطويره النظر في الحالات الواقعية للتغيير في العالم على نحو أوسع، إذ إن الواقع هو أكبر مقوم للنظرية. وربما يجيب هذا المشروع على كثير من الأزمات المعضلة في واقع العديد من بلدان الشرق الأوسط، غير أنه لا يتضمن إجابة على الأزمة الاجتماعية؛ فالمفهوم، وإن تضمن أفكارًا للتعامل مع أفكار الحرية والديمقراطية والدين والعلمانية، إلا أنه أغفل فكرة العدالة الاجتماعية، والتي وإن خبت في ظل الصراعات السياسية والطائفية والتنافس على الهيمنة، إلا أنها تبقى مصدر قلق كبير. لقد حاولت الإسلاموية طيلة عقود من تطورها التبشير بخلاص أخروي كحل مؤجل لأزمات الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي، ثم انتقلت لتلتحم بالمنظومة الليبرالية المعولمة، لا زال الأمر سيقتضى من ما بعد الإسلاموية الإمعان في النظر في هذه المسألة وتضمينها في إطارها النظري، إذ إنها شديدة الصلة بالتحرر السياسي والتنوير الديني.