اِندسّ إلى المقهى يقطع السّرد الهذِر على حديث باطنيّ شجِن، ويحتمي من نوْء هطيل وبرد صِرٍّ أدركاه قبل شارع وبضع ساعات من الشّرود.
قارٌّ، والقلب رَاعِش كورقة ابتهج عليها الخريف، تغازلها الرّيح فتنزع من ذبول، وتستمسك بغصنها شديدا ألاّ تتطاير. وحيّز أضلعه، ندم خبيث يتناسل كخوفه من سِرّ يُحْكم إخفاءه أن يتفشّى في غفلة منه فيُهلكه.
كان يعود العاصمة لأيّام عددا، ونساءٍ مُتعا، وعطل فكريّ عميم. يشرف على العمر من حُضض الزّمن، وأسافل الأمكنة. تسلمه الحانة إلى المجون فالنّحيب السّافر حتى ينام خارج الإدراك، فإذا صحا أسند قامة مخلخلة إلى حائط الوعي الصّدِع مسودّ الوجه، مفرغ النّفس. يغمّس السّجائر في مرارة القهوة، ويمضغ عوالق اللّيل المُزّ. يبلغ النّهار أشُدَّه فيقتطع لقدميه تذكرة للتسكّع ويجوب، على خطّ التّكرار المتآكل، قلب المدينة الكشيف ومخابئها الظّلِمة بحثا عن صديقه، عن بعض نفَسه في لُهاث الحافلات، عن رأسِه المحشوّ جوف الزِّحام العرِق، عن ظلِّه الأعجف مسنودا إلى حيطانها الزّاهية، ورجعِ نشاز لصوته العابث في أغانيها السّعيدة.. أو لعلّه يعثر عليه قاب صدفة هائما على شاطئ لذكرى مشتركة بينهما، أو طريح ليلة غانية دعتهما إليها دون قصد مُضمر..
لكنّك صببتَ عليه الحقد صبّا، يا عاطف.. أتنسى..!؟
كلاّ. “إيّا” لمّا قتل الرّبّ “آبسو”[1] كان يدرك جليّا كإله حكيم عارف بكلّ شيء أنّ حكم العالم يستوجب تصفية المنافس النِّد، وقلبها كان مملكة لا تحتمل ربّين.. أنور لا يعلم أنّك تحبّها.
كان عليه أن يعلم. تجاوزنا حقّ الخطإ عن جهل، والغفلةِ عن سهوٍ. كبرنا. صرنا عاقلين بما يؤهّلنا لنمتلك حريّة أن نختار بكلّ إرادتنا طريقة ما للتّأقلم مع الخيار الوحيد المتاح لنا.. ألمْ ير أنّي استقمت وانسجمت مع تضاريس الأرض التي سقطت إليها..؟ سكنت أناي الشّريدة إلى اسمي المصرّح به في وثائق الهويّة الرّسميّة، ودخلتُ في شكلي المرئيّ دون فائض فكريّ يمزّق النّسيج اللّحميّ، أو ضمور عاطفيّ يسرّب الهواء بين الذّات وقميصها الخارجيّ. اِعتدلت. نسيت هراء الحديث عن زعزعة البُنى التّحتيّة والفوقيّة، وإعادة البناء والتّأسيس والحقّ واللاّحقّ.. آمنتُ أسبّح غداة أصيلا بآلاء الصّبر وحمد اللاّمبالاة. أنكرت كلّ ما خرج عن صالحي الشّخصيّ. ما الجدوى..؟ ليس في الحقوق التي يستبيحها الحبر على ظهر الورق أكثر قابليّة للتّحقّق الفعليّ من أن تكون وصوليّا طموحا وانتهازيّا ناجحا. قاعدة المجتمع لن يصيبها ضرر لو تخلّيت عنها أنا المسمّى عاطف الغريبي، لكنّ سقفه الحاكم يصبح أكثر أمنا مع كلّ اسم يتقهقر عن لغوه الفكريّ، ووعي ينكر على نفسه صحوة الوعي..
قد ضربتَه تبريحا..
كان عليه أن يضربني فيها لأنتصر عليه أو ينتصر عليّ. هذا مجال التنافس الحرّ النّزيه الباقي لنا: أعتدي عنفا عليه، يعتدي عنفا عليّ، والخاسر يزفّ صاحبه للفرح على نفقته الفقيرة..
لكنّه لم يكن يحبّها ليبسط لأجلها يده بسوء إليك، ولم يردّ عليك نفسك بضربة نافعة. اِستسلم عن نيّة غامضة لغيظك، وانتشى بالفرجة عليك يرى يدَكَ تجلدك، وظفرَك يجرحك، وحذاءَك يركلك، وقلبَك يقع عمدا بين قدميك فيُعْثِرُك، فتسقط منكوبا ثمّ تمشي بنفسك في ذمّك فصيحا مع الذّامّين..
اللّغط داخل المقهى خلطُ حناجر تُدوِّر نواعير الألسن فتتمازج تيّارات الهواء المتناقضة. وتسري رياح التّبغ في خلايا الفضاء المقرور تدفئه، وتستفزّ الشّعور المحايدة. أخرج عاطف من جيب داخليّ سيجارة تعهّدها الحذر بين أُنمُلَيْ السّبّابة والإبهام المبلّلين. اِلتمس نارا فوجد علبة الثّقاب منتفجة ماء. ناوله أحدهم عقِبا مشتعلا. شهق منه قبسا وأعاده إلى مطفأة صاحبه دون أن يبادل أحدهما الآخر كلمة. نهل عاطف نفسا مطيطا أغار حنكيْه وأغمض لفينةٍ لُذٍّ عينيه، ولمّا كان يزفر فضلة رئتيه رفع رأسه فوقعت عيناه على فتاة تجلس منفردة. سُرّ. حطّت عن ظهر الضّمير جثّة صاحبه. وتهوّأت غرفه الدّاخليّة من عطن الذّنب المجتاف في تربة الصّمت.
المقاعد غاصّة إلاّ طاولة شغلت هي أحد مقعديها. شعرها المهتاج إلى السّفل من كتفيها يحجب عنه شطر وجهها الموالي للمدخل. فنجان قهوة يشرب شفتيها رشفة هنيئة فرشفة ، وآخر مُهمل إلى المقعد الخالي يتلوّى بخارُه في رثاء حاضرٍ غاب، أو لعلّه في انتظار غائب حتى يحضر.
تهيّب أن يجالس غريبة لا يحيط ظنّا بردّة فعلها. وطلب قهوته على هيئة الوقوف مرتكزا على جذعه الرّبع الممتلئ، مستقبلا قفا الشّعر المتهيّج.
أشْعَلتِ السّيجارةُ المنتهيةُ المواليةَ تُجلي فكرة خليعة أسفرت على ساحل النّظر، وترسل على جناح الدّخان الأبيض زفرات مكتومة لشهوات نطّت جمعاء من مخابئها يزاحم بعضٌ بعضها على رأس لائحة الضّرورة. بيد أنّ مخاوفه اللّعينة لوّحت إليه من فراغ المقعد الذي يجالسها فتولّى التّردّدُ دفّة الأحاسيس بقبضة الوجع الحديد..
كم قضى على اختفائه حتى هذا اليوم الشّريد يا عاطف..؟ سنة ربّما.. ضعف.. أكثر بكثير.. أدنى.. لست أدري. فحدّ العدّ ما كفاني من اليأس لأتأقلم مع “أنا” الــ “ضدّي” في فراغ “الارتياح”، لتبيضّ مفارق القلب والرّأس بعدُ سواد كظيم..
أهملتُه يومئذ على جذر ناتئ من شجرة المحطّة يتحسّس بين الوخزة والوخزة دمَه المتيبّس على جانبيْ شفتيه الورِمتين. وجهه مبقّع بكدمات مزرقّة وبنفسجيّة. ظهره محنيّ معقوف الكتفين كأنّما عليه من الدّنيا أحمال ثقال. ركبتاه خاشعتان إلى الأعلى تتدلّى عليهما يداه رخوتان بلا حوْل العَضَل، وإلى قاع الفراغ الرّصاصيّ تنهار عيناه.
اِستباح النّدم قطعة قلبي المحصّنة بالحقد وأهرق دمَها المحتقن. وجوانحي التي أخذت تستذكر طيبتها الأولى جنحت بي للنّحيب بين يديه لولا أنّي استدركت رباطة غضبي. نال جزاء غدره بي. لا ملجأ له سوى ظلّ “الارتياح”. سيعود. سيدميه يباس مقعده من الانتظار، ويلفظه الصّبر فيعود. يعتزل السّفر “الارتياح” يوم الأحد. ولن يجد وسيلة نقل تقلّه إلى غايته. إذا أذّن الوحش على أضْرُب الظّلام رجع إلى حيث كان فزِعا كدأبه كلّما حزم أمتعة الفرار من شقوة هذا المكان. وعندها قد أسويّ الأمر وقد لا..
لمّا أسفر الصّبح الموالي كان الغموض يرث مكانه من الانتظار. لم يبق منه قميص بدم صدق أو كذب، والذّؤبان ما كانت لتلتهمه حتى عظمه فلا تدع منه قلامة ظفر أو مثقال شعرة. ليس إلاّ فردتا حذائه مُتْكَأتين إلى الجذع كأنّما وُعدتا من قدميه بالرّجوع. إلى اليوم لم يمسسهما أحد سوى القِدَم يفتّت جلدهما على مهل الزّمن الضّجر. إلى اليوم أبحث عنه.
هرمت شجرة المحطّة من بعده فجأة. تراخت أفنانها الجِعاد إلى الأرض تلحس حصباءها، وترهّل جذعها العريض.
هرمتُ أيضا. خلاف نفْسي صرت، عدوّها غالب الأوقات. اِتّسع عليّ قميص الهويّة الشّخصيّة فلا ريفيّ أنا، ولا حَضَريّ. لا ثائر، ولا قنوع. متزوّج عن حبّ وغير مكتف. مستقرّ الوضع وغير آمن. ميسور الجيب وفي عوَز عاطفيّ مستمرّ. مغترب عنّي وفيّ وبما أحمل وأذر. تَضْيَقّ عليّ القفار الشّواسِع، وترْحُب بي المدن المكتظّة، ولا مكان يحتويني..
تبّت يدي امتدّت إليه بعنف ظلما، تبّ الحبّ. لم أصطنع لنفسي صديقا غيره، لم أسقط إلى حضن كحضنها يشتمل على أجزائي اللُّدّ فيؤلّف بينها، ولا جاد الزّمان عليّ بيد تعرف كيف تخيط مزق أناي إلى بعضها البعض فأعرفني وأعرفها.
اِستبدلني الواقع بنسخة زائفة عنّي، واستبدل الانتظار ظلّ الشّجرة الوريف بمحطّة عصريّة تناكفها: صفٍّ من كراس حمراء متلاصقة تسقفها طبقة من الزّنك المطليّ بالأبيض تحْمَى بالصّيف وتتصقّع بالشّتاء. “الارتياح” أيضا شملها التّغيير. صارت طرفا في التبادل التجاريّ: تصدّر الأجراء البسطاء، وعمّال الحظائر، والخادمات، وقسطا غير قليل من المهمّشين. وبالأعياد تستعيد فلذاتها وقد تمدّنت وغدت طاقات بشريّة استهلاكيّة منبتّة، لا تنتمي إلى هنا ولا إلى هناك. وحدها الشجرة ظلّت مغروسة قلب ذاكرة الجدب النّسّاء كعجوز بائسة، تجلس على نواصي السُّبل، وتسترسل بتلقائيّة ساذجة في سرد الذي كان..
خلعتُه، يومها، عن جلوسه المطمئنّ أعالجه بلكمة رجّت قامته المتينة. أوْلمت لدمي المقشعرّ على جلدي سيجارة تحتفي بجرأة اللّكمة الأولى، وقدرتها الفائقة على الحسم الفوري للمعركة. أغدقت عليه فيض ابتسامة شامتة تضيء وجهي الأدكن من غيظ ووجهَه المسفوع من فجعة. يا كم وددت لو كانت هدى هنا تشهد وقوفي وانخذاله..! سيقوم عن مهانته ليخيب على مرأى منها. صلابته هشّة واعتداده بنفسه دعيّ.
نهض فتقبّضت أصابعي وتأهّبت للعراك المشتهى.. ويل له الذي سرق الحبيبةَ منّي.. سأنال من هذا الغريم الصّديق.. سـ..
أُبْهِتُّ. راغ بعضي إلى بعضي يعقد قمّة داخليّة على وجه الخيبة الطّارئة يتطارحون انكسار التّوقّع..
ردّ فعله كان حِلْما قاصما تماما كغائلة لطيفة جاءت على غِرّة تطرق باب المساء الرّتيب فاندكّ لها العقل الرّزين.. ابتسامةً شفوقا حنت على ثورتي تعلّلها بالتّهدئة فضادّت اللّكمةَ في الاتّجاه وعادلتها في الحدّة، فاقتها في الأذى، واختصرت عليه المسافة إلى غايته ولم يحِرْ خطوة لاهثة..
أهملني إلى مكاني من الحقد وزمني المحتقن، راح يحشر أدباشه في غير ترتيب إلى حقيبته. سحبته إليّ بعنف أشدّ فانسحب بيسر. أسدل ذراعيه. سقطت حقيبته. اِنكشف بطنها. نبشت عيناي في الأسرار المهرّبة بين متاعه الشّخصيّ.. هل رأيت فعلا قطعة من ملابسها بين أدباشه..؟ أكانتا حقّا شفتاها تيْنك اللّتين انطبعتا على ظهر بطاقة بريديّة..؟
وجهه قبيل وجهي يكاد يلصق أنفه الأفطس بأنفي الطّويل، فيشهق أحدهما ما زفره الآخر، ويربو اللّوْث في أعطافنا.. ضاقت المسافة بين وجهينا واتّسع فراغ حاضر يبتزّ يومي الواقف صاغرا على باب الإحسان يشحذ أملا باليُسر، فيما الذّكريات تجترّني حتى تَفل الذّاكرة الرّاكد غوْري فتوشك تقتلني اليومَ أحداث نجوت منها بالأمس.. وجهها يطلّ صبوحا من شرفة عينيه السّكراوين، من ضحكه الأخرق، من دمه النّزيف يبرق بحمرة شفتيها، من جنون النّشوة ترخي مفاصله.. أشفارها الزُّرق نعسى. يد ترتّب شعرها المنفوش، ويد تزَرّر إلى صدرها أعلى القميص.. هيفاء الحفا تختال على صدره المعشب، والعُري ثوب شفيف ينحسر عنها إلى ما فوق الرّكبتين بكثير.. ويل له منّي.. أنفي يرفّ بعطرها المنقّع في عرقه، وقلبي يجهش كيتيم لفقدها.. تعسا له.. الحبّ إذا استحال قضيّة متنازَعا عليها استوى فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون. تضع القلوب عروشها على الدّماء فتخوضها السّواعد والرّكب.. سأقضي عليه.. لكن أقالت تحبّني..؟
كانت بديلا ترِفا عن أرض ترِبة رتْق أُهملت إلى محضنة النّسيان على طرف الخريطة الغربيّ، فهي كلقيط تعرفه الأمّ في سرّها المعتم، وتجهله حين الجهر والمباهاة بالبنين والبنات..
كانت ثروة عاطفيّة غير مستهلكة تكفلني، وتؤمّن الرّزق العاطفيّ لغدي المنحدر من صلب فقر قديم يعمّر هنا كشيخ ورِع، سهل، بسيط، قريب من الدّاعي قبل الدّعاء، يتوزّع عدلا بين النّاس لكلٍّ حاجته منه جزيلا بلا نقصان، ولا أذى الغُبن.. فقر عميق كإمام تقيّ تزهّد في نِعم الدّنيا، ونحن مِنْ حوله ورِعون، نكتفي من الله بطَلّ يُعْشب شحّ الجوادب، ومن البلاد باسْم يثير ضحك المعنى..
“قرية الارتياح”
كلاّ.. لم تقل شيئا، لم تقل.. لكنّ جراد الغيرة اجتاحني، وخلّفني حقلا جُرزا فأردفت اللّكمة الأولى بأخت أدهى كدَمَتْ خدّا صعّره لي عنيدا ليبتزّ انفعالي، فإذا لطمته أدار لي الخدّ الآخر ضاحك السّنّ النّازفة.. عنُفْت في لكمه. ترنّح طرِبا كليما فتلقّف هُوِيَّه جذع المحطّة. شرب لعابه الضّريج، ومسح شفته المدماة بباطن كفّه، ثمّ تحامل على ضعفه وقام يناددني الوقوف من جديد..
تشظّى العالم فيّ، تناثر حولي عظاما شواظا، وكُببا حُمْرا من جماجم تتطاير.. تفرّق كياني الواحد طرائق شتتا: بعض عليّ، بعض عليه، بعض محايد بارد لا يعبأ لي أو له، وقلبي يحثّ حضورها الوهميّ أن تعدّل وزنها العاطفي بما يجعلها تميل دونه إليّ.. أحقّا تفضّله عليّ..؟ اِنقضضت عليه.. رجَجْته فتخلخل، وارتجّت فيّ الأواصر إشفاقا يؤلّبني ضدّي.. تأوّهت عظامي عن عظامه، ناء جسمي تحت وجعه المنقلب عليّ، واهتاجت فيّ رضوض قديمة بألم حقيقيّ فمسّني من الغيظ جنّ عتيّ تخبّطني فانهلت عليه ضربا دون حسبان، حتّى..
كلاّ.. لم أقتله.. كلاّ..
اِندفق صوته في غضبة رقطاء فحّت بسرّه الدّفين فخضّه فجع انفضاح أمره.. جاس زوايا المقهى يتحسّس أثر اعتراف صرّح به ولم تنِزّ من المحقّق حبّة عرق واحدة، ولا رفّت لكفّه صفعة..
آذان صاغِرة تلقط ثرثرة الأفواه وهمهمة الأنفاس. شفاه تقارب شفاها يكاد بعضها ينطبق على بعض فلا يجد الكلام مسارب جانبيّة للذّيوع. كُفّ تصفع الطّاولات احتجاجا على حيْف لاعب ومكر آخر. أوراق تصطفق. مكعّبات تشقشق، هميس يحفحف بين وجهين ولِهيْن شبه متلاصقين. سباب كتيم يتأهّب لينفجر. أكواب مترعة تضوع بنكهة النّشوة..
شحُب عاطف يحمد السّلامة المبهمة. تراجع حضوره إلى ما دون حجمه يتوارى في معطفه، ويغمس رأسه أسفل قليلا إلى كتفيه. خرج يرتمي من جديد تحت سماء خفّ ودْقُها، وصار رذاذا خفيفا. حين سكنت رعشة الفجع في بدنه، استدرك خطوه حتى رواق المقهى يدخّن في صمت قتِر..
أتعلم..؟
ليس أظلم لك من صديق يبرّح بنفسه ضربا بيديك ثمّ يسقيك راح النّدم مترعا من راحتيه. تُهْلكه عنفا فيُعرض عن حقّه في القصاص الأذى بالأذى. ولمّا يخذلك الغضب، ينازلك في عقر وهنك ليهزمك في خبر دهيّ يرمي به في سمعك لِبْدا كطينة معروكة تسدّ مجرى مياهك، أو قضمة خبز جافّ ازدردها جائع فوقعت في حلقه فأودت به في شهوة شبع لن يكون..
عند ما انهرتُ تحت سياط الغضب، جرّ أنور جسمه إلى جذع المحطّة، وترك ثقله يتساقط إلى نتء بجذره. شخر يسحب إلى جوفه بعض نزْفِه فتلمّظتُ دمه المُزّ أعلى حلقي وهاجت نفسي يخايلها الغَثى. صدف عنّي بوجهه الرّثيث يعُدّ أخيلة الدّرب التّرابيّة الكابية. جفنه ينتفخ. البقع على وجهه تتورّم، تزرقّ، تسودّ. شفته ترجف مقتا حبيسا رجفةً تُرعش سيجارة تمزّها بغير شهيّة، والرسالة التي ألقى بها إليّ راقصتها الرّيح قبل أن ألتقطها..
– ماذا..!؟ ستتزوّج..؟
– ..
– كيف؟
– كما تعرف.
– ممّن؟
– صديق قديم لك، يوشك أن يغنى من تجارة التّهريب على الحدود الغربيّة للبلاد.
-أيّهم..؟
صفع هدير طائش سهومه فانتفض ينتبه لسيّارة ترتكن حذاء المقهى. مسح ماء تقاطر على وجهه من شعره فهوت هدى مع القطْر، وصعد جثمان أنور إلى عاتق الضّمير من جديد. خفخف عاطف يدرج على التّردّد إلى حيث كان. ما يزال المقعد نفسه خاليا والقهوة على هيأة الانتظار نفسها. تقدّم مسرعا نحوها كأنّما يسابق إليها الذي يتأنّق جسده الممتلئ في سواد المعطف، ويردّد صوتُه النّشاز أغنية سعيدة..
-ليس من عادة القهوة أن تسبق شاربها..
وهمّ يجلس إليها على ضحك ربِك وجفن خفيض.
-ولا يثبت المقعد الشّاغر تحت من لا يتقن خُبث الجلوس..
وانتفضت تقوم عنه.
كلماتها تناثرت عليه جمرات لواذع أصبْنه فنشّ جلده حرجا، ولهب دمه المهين. لم تُعره نظرة تنتبه لأُلفة النُّقط أطراف الجملة المتلعثمة. لم تتريّث لتعرفه. أعرضت عنه منفعلة وتركته ذهِلا، متأرجحا بين قعود مطمئنّ وسواءٍ مضطرب والجلوسُ يتداولون مشهده الهزيل بهزء قاذع..
لا شيء يفنى. تمضي الحقائق ولا تقضى وإن نهبها العُثُّ. كالموائيد هي، وثائق كمائن تحت ألواح الصّمت المُسلّح متى تُبعث تُسْأل.. ومتى أرنفت عقرب الزّمن على أنف الحقيقة، عثرت هدى بعد خطوة واحدة في صوت عاطف فالتوى من ذاكرتها الكاحل، وكادت تقع على وجهها مغشيّة لولا خفّ أنور الذي دخل لتوّه المقهى على مرح عابث، يسندها..
[1] – ” آبسو ” في أسطورة الخلق البابليّة هو إله المياه العذبة . و” إيّا ” إله الحكمة والفطنة الذي قتل” آبسو” واحتلّ مكانه في حكم العالم .
الأربعاء سبتمبر 26, 2018 10:20 am من طرف عزيزة