رفعت ستارة هودجها تطَّلِعُ إلى مسافة الفرح المدهش تمدّ أعطافها بين مملكة الأحلام القاصية وجزر الهند والصّين الدّانية. تفحّصت الرّمل المتخاذل تحت حوافر النّوق. لم تعد الصّحراء أرضا بلا خطايا يترحّل فيها الطّهر من كثيب إلى كثيب. رميم عظام النّساء والرّجال قتلى الملوك يمِض هنا وهناك فيخالط الحبّات الملتهبة ويمتاز عنها رغم أنف الدّواوير العاصفة، وظِلّ الملكة الأرْمل يتأرجح بين بهجة العودة إلى أهلها سالمة آمنة، ووخز الألم يخذل امرأة تتقهقر إلى أسافل الوحدة بعد ثلاث سنوات من الزّواج.
حضرت سيرةُ زوجها القتيل شائهة تجمع في مشهد واحد شتيت صور مضطربة: ملك يتخبّط في آلامه.. خدم بُلْهٌ.. مقارع تصلصل على رقاب الرّجال المنحشرين في قبو ظلِم.. نساء يسفكن أرحامهنّ.. رؤوس نزحت عن رقابها إلى أطباق الذّهب والفضّة ليُحتفى بها في مآدب ملكيّة باذخة تستمرئ الدّم المُهْراق..
عافت الذّكرى فاربدّ وجهها، ودهمها الدّوار متماثلة للقيء..
نادت:
“يا حادي ناقتي، أوْقف السّير فإنّي أدلق جوفي..”
بعد القيء، تراجعت الملكة من شفة الإغماء إلى ما خلف ستارة الهودج المطمئنّ بإرهاق تصْرف فؤادها تِلْقاء بشائر البلد الحميم، وتحاذر الغوص من جديد في تجاويف الأحداث السّالفة، كما يحاذر الوعي الطّريح الجنوح لغواية الصّحو متسلّيا بحكايا الخيال الحالمة تضمّد الأحاسيس الواقعيّة النّازفة بلطف النّسيان، وتناولها قطرات الصّبر المرّة بحكمة السّماء تحيي اليائس المنقضي بمطر خفيف كالرّحمة، وتَعِظ الحيّ المتكبّر بعاصفة كالصّفعة المجدية..
كانت مملكة حُوبَ درّة الممالك. سماء تحْبل بالمزن وتهطل بالغدق، وأرض ترجح بالخير وتخصب بالرّزق. يختلج الماء عطْفها بحرا يسير بالمراكب حملُها الخير النّماء، ويتفجّر من قلبها نهرا تفيض بالخِصب الرّخاء. وكانت بلادا ذات عماد وحجر رصيص وأوتاد. تتطاول بنيانها فتُغاظ الأمصار، وتتفاخر قصورها فتغار الأقطار، وتتسامق أبراجها فتزاحم في صفاء السّماء قوافل السّحب الثّقال. وكان على رأسها حاكم يسمّى الضّاحك العاشر حكم المملكة، ككلّ ملك عظيم سلفه، بعدل عسّاف. فسطا، وملك، وعتا، وقدر، وأفنى من خصومه في الحكم العديد وأسر من أسر.. ولم ينقطع يوما عن مداواة الشّوارع من أوبئة الضّغائن، ورجال المكائد والمفاسد، ومُرّاق الرّعيّة، سوء الأراذل.. ولم يقرّ له حال ولا سكن بال إلى أن كفى مملكته شرّ القلاقل وشفى قلقه الوراثيّ وشفاها.
دانت له الأرض قاطبة فقلّت فيها المظالم، وفرغت مجالس قضاتها من المتقاضين والشّاكين والمتنازعين، وتعالت الأصوات من كلّ المنابر وعلى كلّ لسان ودين شاكرة للملك سلطانَه، داعية له بدوام عرشه وزوال مناوئيه.
تزوّج الملك حرائر غيدا كثيرات لغرض إنجاب وريث لعرش العائلة. لكنّ المولود الذّكر لا يولد حتى يشيع خبر وفاته، وأحيانا غالبة لا تكاد المرأة تحمل حتى تُسقط أو تعقم فجأة. فأصاب الملك الحزن والغمّ واختلف حاله يعتزل المجالس، ويعزف عن الجواري والملذّات، وتنقطع يداه عن الأُعْطيات.. وصار يبيت على فرَق ويصبح على طرَق. يُمضي اللّيل يتقلّب في مضجعه كمثل وعْل على الجمر، ويشرب من الحرمان على مَهْلٍ بمثل الماء المُهْل.
برمت حاشيته من شروده وكساد يديْه، فأرسلوا الرّسل إلى المدائن البعيدة والأمصار النّائية يبحثون في كلّ سلالة في النّساء عَرَقَتْ في إنجاب الذّكران عن امرأة جميلة ولود خالية من الأمراض والعيوب تصلح زوجة للملك، إلى أن وقفوا على خبر واحدة ذاع أنّها ذات دلّ وعافية ووَلاَءٍ، أنجبت لزوجها الملك في سنين ثلاث ذكورا ثلاثة أصحّاء. فوَفدوا إلى أطراف الأرض الدّانية مسرعين يطلبون نسيبة شهريار الصّغرى زوجة للضّاحك العظيم.
عندما بلغتْ قافلة العروس البلاد، كان الضّاحك العاشر بجسمه الضّخم وشحمه الوافر يقف على بوّابة القصر في استقبالها مسرورا يتطاير منه بِشْر يُنْعم على الرّعيّة أمنا وهدايا، وجانبيْه اصطفّ أفراد حاشيته منكّسي رؤوسهم، خافضي أبصارهم لا يجرؤ أحدهم أن ينظر في وجه الملكة.
أفراد الرّعيّة كذلك خرجوا من المنازل البعيدة والقريبة احتفاء بالملكة الجديدة. فجُعِلوا صفوفا منتظمة هاتفة أو منشدة، وحُمّلوا الرّايات المزركشة وأعلام المملكة المرفرفة. وكانوا كلّما فتر غناؤهم أو تراخى حماسهم حثّهم الجنود على المديح والغناء بعبسات الوجوه المنذرة وشدّة الأسواط المُلْهبة، فينفجرون مفجوعين بالهتاف والصّراخ مرحّبين مهلّلين..
بعد مراسم استقبال حَفَلَتْ وازدهتْ بما يليق بملكة تحمل أكبر آمال المملكة وأجمل أحلامها القادمة، ألْبس الملك الملكة تاج المُلك المرصّع بالزّبرجد والياقوت على مرأى الرّعيّة المبتهجة، ثمّ أمر أن تُصْحب في جولة فخمة مدجّجة الحراسة لتجوب أطراف المملكة وتتعرّف على وطنها الجديد..
أمضت الملكة السّنة الأولى طيّبة قريرة في جناح خاصّ منزو من القصر تنعم بحياة الملوك التي ارْتَجَت، وتغزِل في نفسها وتعيد أولى الحكاية المدهشة عن مملكة الأحلام السّعيدة، وتحفظها في ركن من ذاكرة شغوف ريثما تزور أهلها فتروي لهم أعجب ممّا روت شهرزاد..
“.. هذه المملكة هي واقع الجمال الخرافيّ والأخلاق الفريدة يا أختاه. واقع حقّ لا خيال مرتجى. وجهها يفتن ويبهر، وهندستها رونق وأناقة. حدائق معلّقة وأخرى مدلاة وغيرهنّ مبثوثات على حواشي الطّرقات والقصور والبناءات كقطع الجنّات المتجاورات.. أهلها أسخياء مؤدّبون. قد لا تصدّقين.. إنّهم يُخرجون نساءهم وعبيدهم وغلمانهم في استقبال زوجة الملك، ويحجبون عن رؤيتها الرّجال الأحرار والعقلاء غضّا لأبصارهم وإجلالا لملكتهم..”
فيما ترتّب فصول الحكاية الأولى، لم يخطر لها أن الجمال الواقعيّ مهما خرق المألوف لا يعدو أن يكون لوحة مرسومة بيد طينيّة المنشإ، متقلّبة الأحوال كما الجسد الأرضيّ تؤثّر فيه الفصول والمواسم والحاجات الخاصّة والأهواء.. فالفكرة الأرضيّة لا تعيش إلاّ مشيا على الأقدام مع الاختبار المستمرّ لمواقع الخطوات القادمة، وكثيرا ما تؤدّي رغبة البقاء إلى الهبوط نحو المستوى الأدنى من سُنّة البقاء، بينما لا تينع الفكرة الخياليّة إلاّ بالطّلوع إلى سَمْتِ السّماوات ونَضْوِ آخر حبّة تراب تعلق بثوبها.. ولا كان خطر لها وهي القادمة من دفّة الأساطير والخرافات، أنّ الملك ووزيرَه الحارث كانا أكثر قدرة من تلك الحكايات على قلب موازين الحياة..
ما شهِدت كان فعلا واقعا خرافيّ الجمال لا تعتريه شائبة، لكنّه كان قائما على خلفيّة الواقع اليوميّ المغمور تحت دهان الجدران وبراقع الوجوه وزينة الشّوارع.. فقبل وصول موكب العروس بأسابيع قلائل، أصدر الملك، عملا بمشورة وزيره المقرّب، أمرا مختوما محتوما لرجال الدّولة من الوزراء والعمّال والأمراء في الأصقاع جميعها والأنحاء بأن يشيعوا البهجة والرّخاء في المدن والقرى والأزقّة والحارات وتحت الخِرب وبين المزابل وفي كلّ رجا ظليل من الأرجاء. وأن يشرعوا حالا في تزيين الشّوارع وتلميع الواجهات وطلي الأبواب والدّكاكين، وتنقية المملكة من كلّ ضَيْر وسوء وشين، وأن يكفلوا أيتامها وأراملها وعجائزها، ويطعموا جياعها ومُدقعيها، ويصرفوا متسوّليها بالعطايا والصّدقات الكافية، ويمنعوهم من الظّهور في الشّوارع الكبرى حتى تنتهي جولة الملكة زوجة الضّاحك الجبّار.
كانت الملكة إذن تنعم في مملكة حوب بعيش أرغد من الخيال، بيد أنّ الضّجر سيكون هو أوّل الأسئلة التي تدبّ نخرا في قوائم المجد الذي حقّقت. ففي فراغ الوقت وخلوّ الحركة من الأحداث المستفزّة، والأجوبةِ من الإقناع، تصبح الشّكوك هي الحركة الأكثر حيويّة لتقي النّفسَ الكساد والذّهنَ التبلّد. وعلى قدر الفطنة يكون نفع الشّكوك وضررها..
هي لم تكن تقاسم زوجها حياة الحكم وبهجة القصر كما يجدر بملكة. وجدت نفسها على غير ما انتظرت، ملكة بلا مجد. تقيم في جناح مُترف معزول، لا تدخل عليها جارية إلاّ كانت خرساء تومئ ولا تنطق، ولا ترى خادما إلا عبدا أخرق أو غلاما أحمق، ولا تلقى الملك إلاّ ليالي معدودات ليلحّ عليها بإنجاب ولد ذكر دون أن تفطن إلى أنّ عقاقير الإنجاب التي كانت تُسْقاها من قبل عرّافة القصر العجوز هي نفسها التي تقتل الأجنّة في بطنها، أو تنتبهَ إلى أنّ زوجها لم يخلع عباءته أبدا أمامها، وأنّه كان يحبّذ الظّلام في حجرتها..
أينع بين أحنائها الأسى والخيبة. نوبة أخرى يُقتطع منها جزء ضئيل ليؤثّث متعة الفرجة ويُترك الباقي منها برمّتة على عتبة المشهد. في قصر شهريار، كان حضورها الضّروريّ مختزلا بصوتها الرّئيف يفتتح الحكاية من كلّ غسق بجملة قصيرة “أختاه أكملي لنا الحكاية” لتركن بعدها مباشرة للإهمال حتى اللّيلة القادمة. وفي قصر الضّاحك لا يُحتفى منها بغير الرّحم يحثّه مالكه كلّ داجنة على إنجاب ولد ذكر يرث حكمه..
*******
ألقوا به في القاع حتى نقيس رأسه ونختبر ذكاءه ومن ثمّة ننظر في أمره.. اِحذر يا غبيّ لا ترْمه كخرقة، قد يصاب رأسه بأذى أو جرح فيزجّ بنا الملك مكانه. يحبّ مولاي مساجينه صحاح الجماجم ملاحا..
أحمد الله أنّي غبيّ ونسْلي أغبياء. ننعم بالحياة ونحظى بعمل يجعلنا ننال من كلّ ذي عقل يهزأ بنا.
لا تكفّ عن سَقيي كلّ ليلة وإلاّ وشيْت بك لدى الملك وقلت إنّك تتغابى..
سأشي بك أيضا يا أحمق.. ألم تحْشُ قريبا لك مع كتبه في أحد الوُجُر كجرذ خوف أن يعثر عليه جنود الملك؟
قُدَّ لسانك يا غبيّ، المساجين يسمعوننا.. قَدْ يُجنّ أحدهم في أيّة لحظة فيفقد رأسُه جدواه ويصبح من حاشية الملك فنلقى الخسف على يده وشرّ الهوان.. اِنتبه لما تقول.
في غيابات المجهول تدحرجتْ. اِرتطم رأسها بالجدار نكاية بوصيّة السّجّان للسجّان وسالت منه دماء خفيفة. كانت تتشبّث شديدا بالعمامة على رأسها وتحرص ألاّ ينفلت عقال الضفائر السّوداء فينكشف أمرها لهؤلاء الرّجال القساة. لم تر بعد أحدا منهم مكاشفة ولكنّ غطيطهم يحشرج في الظلام فظّا غليظ الأنفاس. لا يمكن أن يكون بينهم من يعرفها، فرجال المملكة لم يخرجوا في استقبال الملكة الجديدة يوم حلّت بينهم عروسا كاشفة وجهها تحيّي من احتشد لاستقبالها..
ضؤل حجمها المنطوي على حجمه والتصقت بالرّكن تصطكّ دماؤها، وتتضرّم هواجسها من خطر يحدق بها من كلّ حَدَب. لا منجى من البراثن تتسلّل إليها من تحت السّكون، ولا عذرَ تقدّمه لملك لم يستبق سيفَه عذل ولا استأخر عنه قضاء.
تماثلت غيابة المجهول تتمطّى وتوسّع جنباتها لدفقات الضّوء المنسابة عبر كوّة تخترق السّقف الحجريّ. قدّرت أنّ المكان سجن قياسا لصلصلة الحديد في الخطى القاسية وانضباط الصّدإ في المراتيج.
لكن.. لمَ السّجن؟ أيُحبس في بلاد الضّاحك امرؤٌ ولم يزِر؟
كانت اِرتدت زيّ رجل ممّا يلبس أهل البلاد، وغادرت القصر متخفّية عن صفتها المؤنّثة. خرجت تسير في الأسواق. تزاحم عامّة النّاس فتفحص البضائع، وتناقش الأثمان بسرور لم تعشه قبلا.. أخيرا.. هي ذي تغدو رجلا لا يعنيه قسم ملك مَخون بقتل في كلّ صباح، ولا وَلَع آخر بإنجاب الذّكور الأنقياء.
اِنتبهت ذات جلبة وعدد من حرس القصر يطوّقونها لتنقل في جنح الغموض إلى هنا، ولم تجْنحْ فتُقاضى، لم تُتَّهم فتردّ عن نفسها التّهمة، لم تهرب فتطارد..
“ما هو بسجن.. إنْ أنا إلاّ سبيّة غرباء، أو أسيرة رعاع وقطّاع طرق.. مرحى للهول.. لن يُخلى سراحي حتى يتخموا أموالا، ولن أسلم من غضب الجبّار إذا علم..”
لملمت إليها أطراف الجلالة المنهوشة، وتغاضت عن كبرياء الملوك غير المجدي في وكر اللّصوص، وتكوّرت أكثر فبدت بين الأجسام الضّخام والعيون النّهمة لقمة يسيرة تُزْدَرَدُ بلعقة واحدة.
مولاتي، ما حملك على هذا الحشر المزْري؟ من الخطإ الجسيم أن تتنكّري رجلا في بلاد الأحلام. كيف وقعتِ في هذا الشّرك؟ ألَمْ يخبرك أحد؟ هؤلاء السّجّانون بُلَهَاء قد لا يفطنون إلى أنّك امرأة لا يأبه الملك لرأسها، أو أنّك زوجته الموكلة بإنجاب وليّ العهد للعرش فيقدّمون رأسك لجلالته على مأدبة الغداء.. أنصح جلالتك ألاّ تلجئي للبكاء كعادة النّساء للخلاص من هذا المأزق المغلق. أبْدعي مكرا أدهى تثبتين به هويّتك الأنثى. كلّنا يُعْوِل في هذه البلاد. حتى شعورنا تُرِكَت للطُّّولِ لتزيد من ثقل الرّؤوس في الميزان.. يحبّ مولاي الرّؤوس الثّقيلة.
أشرقت الملكة بكلمة “مولاتي”، واسترجعت شعور العظمة وهيئة التعالي تنظر إلى محدّثها باستعلاء وتخاطبه من وراء كِبْر. كان أحدهم زحف حتى مقعدها المنزوي في ركن من مساحة عوجاء الأضلُع مريعة الأحناء، تتكشّف أكداسَ أجسام ضخام منهكة، وعيونا خائرة مقفرة، ووجوها مذلولة..
سألت الزّاحف إليها ذاوي البدن، مبرّز العظم:
من أنت؟ ومن هؤلاء؟
رأس. وهؤلاء رؤوس. نحن نتكدّس هنا على شرف الأمن الملكيّ في انتظار القطع المقدّس. جوع الملك الجليل لا يغنى ولا يصطبر على تأخير.
ذلّت ملامح وجهه وحافر النّقطة يضرب آخر الجملة فيثير الوجعَ نقْعا. وتلظّى غضب الملكة إذ استعادت في ذُلّ الرّعيّة تمام ألق السّطوة وطمأنينة العرش من مجلسها خارج السّجن. قالت وصوتها يتجرّد من غمد اللّطف مسنون الحروف:
أتعسك الله والحاكم بأمره. إن أنت إلاّ حُسافة السّقْط، فأنّى لك تذكر الملك بغير تمجيد في حضرة الملكة فلا تقطع سنُّك لسانك؟
يا مولاتي، لا يعجِلنّك الغضب أن تحملي على ميّت مُرجأ فتسبقي أجلَه إليه، وتثيري عليك حفيظة ملك لا عزيز عنده قبل بطنه. ملك البلاد تمجّدت حَيّتاه، يحبّ حبّا رؤوس رعيّته. يأكل من صفوتها النّقيّة في كلّ يوم رأسين اثنيْن ولا يزيد. دام بقاء الآكل وعزّت به المآكيل. تملّي سيّدتي ضيوف الجبّار المختارين.. رؤوس كبيرة شرُفوا برضاه المتجبّر في انتظار السّواطير الحواسم ذهبيّة المقابض، مشرقة المباسم. لا تغُرَّنّ مولاتي صورهم المعتمة ووجوههم المسودّة، إنّما ينظر جلالة الملك لرؤوسنا دون صورنا، وما كان ليعبأ بنا لولا فضل أدمغتنا في النّاس. نحن المرضيّ عنّا، المميّزون.. أما كنت جلالتك تعلمين..؟
أوْلى لك أفاّق أثيم. ستكون مقطّعا من خلاف، منشورا على حبل الغيبة فتله لسانُك الجحود.. إن هي إلاّ صيحة واحدة أرسلها فيهبّ إليّ الحرس مستغفرين يسومونك نكالا أشدّ من القتل. اُغرب عن حضرتي اللّحظةَ فلست أذل نفسي بالصّراخ، وإنّي على صبر حتى يُفتح باب السّجن فأجعل الطّير تأكل من رأسك.
اِنقضّ الرّجل الكسيح على لهجتها المتكبّرة بضحكة هزوا أرجفت سكينة الخَسْف. وإذ تمزّقت، بقيت لها أصداء تطنّ مرعبة كأنّها الخفافيش العطاش تتنشّب بالسّقف القريب. قال يلفظ فمُه كلمات عطنات الرّيح كريهات الهدوء:
لا غوْث ينجد مولاتي ولم يناهز النّهار قلبَه، ولا حول لك إلاّ بالصّبر المتين. نحن في السّفل السّافل من بلد الأحلام، سقَر من تحتنا، صمم من فوقنا، وعلى جنوبنا يضرب النّسيان. لا تصرخي، سقف الظّلام لا يُسمع الأغْفالَ النّداء. لا تهّددي فلا يروّع الزّاهدَ الفناء. فمَثل وزن السّاطور الذّهبيّ على عظم الرّقبة اليائسة كمثل وزن البعوضة على قرن ثور يجترّ الشّبع. غير أنّي أشفق منه شفقة على ملك البلاد. سيطول عذابه بعد فوات رأسي وأنا العاقل الأخير من رعيّته..
إنّي امرؤ جوعان من قبل أن يخفق بي صُلب أو يهِن رحم. أهيم في الدّنيا كسيحا معدما ولا أشتهي غير شبع وإن مرّة بعد غِبّ. وقد اتّضح أخيرا أنّ لي دماغا ذكيّا يُخرج أفكارا بارعة وأنّه، أعني هذا الدّماغ الذي لم يكفني شرّ الجوع يوما، جدير بإشباع الملك وتخفيف آلامه. قلت لا بأس بالموت يا عُبيْد ينسينا السّغب إلى حين، ويرفعنا إلى موائد الملوك، ويعير اسمنا المهمل شأنا بعد القضاء.. قدمتُ إلى مخزن الرّؤوس بطوعي. هنا، أنام في مكان ذي سقف يرْتجه باب. آكل فأتْخم، وأشرب فأسكر، وآمن فأنام وكلٌّ ذائق الموت.. لعلّ سيّدتي لا تعرف أنّ الملك يُكْرِم المصطفين من شعبه في حبسهم بخير رغيد، وطعام هضيم، وشراب معين، ودواء إذا اشتكى الجسم، ومكارم أخرى لا تُحصى لتسلم أدمغتهم ولا تتلف..
كم عاقلا ينعم بأمن العيش خارج سجن كهذا؟
تجمّعت خفافيش الضّحكة السّاخطة العالقة بالسّقف القريب تدوّي من جديد في أذن الملكة المذعورة تحسب أنّها وقعت في مجمع للمجانين.. لكنّها ما تزال الملكة وسطوتها تربك العاقل وتُعقِّل المخبول. اِستجمعت سلطانها المهزول، وطوّقت رقبتها بكبرياء الملوك تخاطبه بجفاء مهول:
اِِسمع يا هذا..
خادمك عُبيْد يا مولاتي..
لا ينطلي عليّ المكر في مكرك المدّعي جنونا. أنت تهزأ بالموت هُزء قانط كان أُغرم بالحياة فلمّا جفته اعترض طريقها مقتولا. الحياة كما خبرتَ غانية يغرّها تهافت العاشق عليها. ترى إذا دان بها وحسنت ديانته صارت تراوده على حتفه عشقا، حتى إذا اشتدّ فقره إليها أفقرته منها، وأعرضت عنه تاركة له اليأس الجميل بُراقا إلى فنائه.. لكنّني الملكة وإن أخطأني المكان، أملك أن أعتقك من يأسك هذا وأهديك الحياة جارية أشهى. لم أفهم حرفا ممّا روَيْتَ، وما زلت في مرية من أمر الملك الضّاحك مذ صرت له زوجة، فإن تُفْصِحْ وتُوضِحْ أصفح وأمنح. أخبرني كيف يأكل ملك البلاد أدمغة الرّجال من رعيّته؟ ثمّ ما شأن النّساء البُكْم والرّجال البُلْه وشعب الحُمْق في كلّ مكان؟
يا مولاتي، إذا جاع زوجك الملك واشتدّت عليه حاجة الطّعام اشتداد العلّة العُضال بصاحبها، ضربت عليه بالألم الزّؤام سِِلعتاه القبيحتان، وهما لحمتان بشعتان كبيرتان نبتتا في منكبيه منذ بضع سنين، وما عدمتا تعظمان حتى كانتا تتدلّيان منهما، وتتحرّكان كما سائر أعضاء الجسم كأنّهما حيّتان سوداوان. وكان يخفيهما تحت كُمّيْ ثوبه الفضفاض، ولا يكشفهما إلاّ أرهب النّاس، وحملهم قسرا على طاعته لعلمهم بنفاذ سحره وشرّ مكره. وقد جلبت عليه سلعتاه القبيحتان بداء الجوع الفتّاك، حالة من السّغب المقيت تدهمه كبدَ النّهار من كلّ يوم فتأخذان بالضّغط على جنبيه وغَطِّهِما بقوّة هائلة حتى ينطرح أرضا مكبّا ويأخذ بالصّراخ الإدّ فيطلب الفرج في دماغين من رعيّته..
ألم يجد في الأرض طبيبا يداويه، أو ساحرا يرقيه وهو العظيم المتجبّر من حوب حتى جزائر الهند والصّين؟
هذه علّة وراثيّة تحملها دماء الأجيال من عائلته. سلفه في الإصابة بها والبطش فيها تسعٌة هو عاشرهم.
منذ قرون أكل عليها الظّلم وشرب، حكم بلاد “حُوبَ” ملك يدعى الأزْدَهاَق . سار في قومه بالجور والعسف وبسط أياديه واسعة بالقتل والصّلب وغلب على قومه بالسّحر والمكر. وكان أوّل من أصيب بهذا الدّاء واتّخذ مثل هذا الدّواء من أدمغة البشر. قُتل الأزدهاق شرّ قتلة، ويقال إنّ روحه تلبس جُسمانها في عيد المهرجان من كلّ سنة، فيبدو للنّاس موثّقا في سلاسل المهانة والخسف إلى جبل دُنْباوَنْدْ ، يُعَذّب ويتعالى صراخه الأليم على مشهد من حُوبَ المسرورة..
أكمل لي الحكاية يا عُبيْد. يوشك النّهار ينتصف والجنود يقدمون.
قدم المملكة طبيب غريب يدعى الحارث تلبية لنداء المرض، فعدّل وصفة العلاج المألوفة، وألزم الملكَ حتما بأن لا يتخيّر من رعيّته سوى دماغين ذكيّين لرجلين عاقلين من صفوة العقلاء، فيطلي بدماغيْهما لحمتيه الكريهتين في ساعة محددّة من وقت الغداء من كلّ يوم، وأن يستمرّ في دلكهما بهذا المَرْهَم دهرا من الزّمن كان قدّره بسحره وعلمه تقديرا حتى تذوبا من جسمه تماما. وقال إنّ العلّة لا تثبت على حال، فكما يغيّر الإنسان أساليبه في الحياة تغيّر هي طُرقها في الفتك، والعقل يبني الحضارات ويهدم العلاّت.
هلّل الملك للدّواء تهليلا واتّخذ الحارث وزيرا..
صار دأب الضّاحك العاشر والحارث السّاحر اقتناص الرّجال من دون البهاليل والخُبْل والمعاليل، وقطع كلّ رأس ذكر بالغ عاقل رشيد ليُصْنَع من دماغه مَرْهَم يداوي الملك الذي لم يستثن من العقلاء فردا سويّا من العامّة، والخاصّة، والأراذل، والأشراف، وحاشية العرش، وأسرى الحروب وخدم القصر، وعبيده..
وكان الحارث ينتزع المولود الذّكر من أمّه فيعهد به إلى جواري القصر يرضعنه ويعتنين به حتى يَصْلُبَ رأسه ويشتدّ دماغه فيَقطع عنقه..
شقّ ذلك على النّساء والداتٍ، وأمّهاتٍ، ومرضعاتٍ، وقوابل، ومقبلاتٍ على الزّواج، وصبايا حالماتٍ، وعوانس يائسات، وعجائز وحيدات. وتمكّن منهنّ الحزن فختمن على شفاههنّ بالصّمت المقيم واليأس المكين، وصرن كما شهدتِ لا ينبسن بكلمة ولا يأتين لغة إلاّ ومْأ مُبْهَمًا..
أكمل. وماذا بعد ذلك؟
السّنةُ هي الأجدب في السّنين، الأعجف بينهنّ. خوَت البيوت على عمَدها، وأُقْفِرت الحقول من خدمها، وأُفقرت المزارع من ثمرها فقلّ الرّزق، وشحّ الأمن، وأُهملت الأعمال، وشاع النّواح. فإذا ما أليل الغلس ونام العسس، فزع أنفار من الرّجال فارّين برؤوسهم، والإناثِ هاربات بالذّكران من صغارهنّ، فيتسلّلون من مفالج الحدود وفجوات الصّرامة في عيون الحرس والجنود إلى خارج المملكة فبعضهم يُبقرون، وبعضهم يُمثّل بهم، وقليل منهم ينجون. ولم يقرّ بالمملكة غير المثقلين من الرّعيّة، والمنهوكين، والعاجزين، والبُلْه المخابيل يخلخل الخوف عزائمهم. ويمور مجمعهم كالمراجل الفقيرة تطقطق في قعورها أقطُع الأمل الكذوب، وتزبد على وجوهها أمنيات الصّغار الجياع كرَغْوَة الطّمي الكثيف..
أكمل يا عُبيْد.. أكمل..
مولاتي هذا الضّحى ينزع عن اللّيل لباسَه فيُريه سوءاته، وهذا صليل أقدام الجنود الحمقى يقتحم الحكاية بذهب السّواطير وقعقعة الأطباق الفضيّة. ما هي إلاّ هنيهة حياة أخرى ويُنادى على الرّأسين الأوّلين في القائمة المختارة. فاعذري لساني المعقول بالفزع المباغت رغم ادّعاء الجلد قبل حين، ولتحرص مولاتي على أن تغادر هذا المكان قبل الفراغ من الرّؤوس المذكّرة.
عُبيْد ماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد ذلك؟ لا تنكتم قبل انتهاء الحكاية..
بموتي، تنتهي الحكاية على هذه الهاوية يا مولاتي.. جِدِّي راويا عاقلا آخر يصف لك ما تبقّى من مملكة حوب العظيمة.. اِبحثي عنه في المغاور والوُجر والجحور المظلمة والأقبية المنسيّة.. لا تثقي كثيرا بسارد تربّى خارج الكارثة محصّنا بالفرار.. إنّه، على غرار أبطال قصص الخيال، غالبا ما ينظر إلى الأحداث الواقعيّة من زاوية الأحلام المتعالية والأفكار المعلّبة..
*******
واقع الحيْف إذا تنشّبت جذوره في تربة البلاد لا تغيّر مجراه آلاف الحكايات المثيرة وألواحِ العبر. والملِك المأخوذ بعلل السّابقين وسيرتهم في طلب الشّفاء، لا يمكن أن يُؤْخذ من سَمعه إلى حتفه.. بيْد أنّ الخوف من الموت حمل شهرزاد على مشقّة الرّواية زمنا طويلا، ليجبر أختها اليوم أن تبدع لعبة مختلفة أشدّ صرامة تؤجّل زمن القضاء قليلا آخر، وأن تسرّع إيقاعها فوق المستطاع عسى تسْطُر لنفسِها وللمملكةِ الخلاص..
تفرّست حولها. هي رجل ما دامت في هذا القبو، ورقم يُتلى في قائمة الرّقاب المنتخبَة. الغايات الملحّة تستدعي كلّ وسائلها إذا نزل البلاء. علّة المَلِك لا تزن الأدمغة بميزان المُلك، ولحمة ضارية آكلة للبشر لا تأبه أن تُدهن بدماغ رجل أو امرأة، ذكيّ أو غبيّ، وحدها قوائم العرش تأبه لذلك.
قدّت ملابسها من قُبُل. نفشت شعرها تلقيه خصلات مِزقا. خمشت أظفارُها وجهَها. لطمت يداها صدرَها. فتّقت السكون الخانع تصيح وتندب وتُعوِل كما لا يمكن لرجل أن يفعل في مملكة خرقاء تأكل أبناءها المتعلّقين بأثدائها كقطّة خائفة، ثمّ تجلس على أشلائهم تتلمظ آمنة راضية.. قال عُبيْد إنّ رجال “حوب” انخرطوا في العويل والنّواح ولطم الخدود وضرب الرّؤوس والصّدور على نحو أشدّ قسوة وأكثر إتقانا، إلاّ أنّ زوجة الملك أبدعت كما لا يقدرون..
أهطع الرّجال الوُهُن لمشهد الفتنة الملكيّة تُسفر وتبين عن جنّاتها كما أشجارٍ عجاف خشعن مؤمنات لجرّافة الأجل تهدر صوْبهم على أطراف الغابة. رفعوا رؤوسهم ببطء ينصتون لهزيم الأقدام الحديديّة تقترب. كانوا على أهبة العدم ينسحبون من أنفسهم بصبر متقن، وشعور الزّاهد فرغ من ملذّات الدّنيا وترحّلت عنه الأرض.. لم يبق إلاّ بضع بريق عنيد في عيون بلاقع تحنّ إلى اشتعالات الأغبياء في ربوع المملكة حنين الرّوح إلى عطر التّراب العالق بأهداب الجسد المتطهّر.. هم اللّحظة يتنازعون عليها في ضراوة مستكينة.. كلٌّ إلاّ يحلمُ أن ينقضّ عليها فيفتكّ أنوثتها ويُلبسَها رجولتَه لِتُقْتل بدلا عنه.. كلٌّ إلاّ يودّ الآن أن يغدوَ امرأة.. تعرف مرارة ما يُحسّون.. ذات يوم تمنّت في حضرة الملك شهريار أن تكون عبدا أسود يزاحم الملوك في حريمهم ويستفزّ طغيانهم بدمه الأسود المُغوي على أن تكون غيداء في قصر يفني النّساء لأنّهنّ نساء.. ولمّا تشبّهت برجل فزعت إلى صفة المرأة تقيها العسْف..
أيّ لعنتيْن هما الحُسْن والعقل؟
فطن الجند لصوت امرأة يهتك عرض اللّيل السّاجي مطمئنّا على صدر الملك، فاندفعوا سِراعا يفتحون الحبس على الزلّة الفاجعة.. زبانية شِداد غلاظ كقطع الجلاميد إذا تلملمت زلزلتْ يمرّغون الجُبن الغبيّة على الفُتوق المتهدّلة من ثوب صاحبة الجلالة الرّجاليّ.. اِستغفروها جزيلا يستجدون رحمتها. فلم تومئ حتى انقضّوا على الكسيح أقرب المُحتفَظ برؤوسهم إليها يزحّفونه ضربا بالأرجل والمطارق إلى مقطع نفسه..
كان عُبيْد الذي أثّث سجن الملكة بالطُّرَف الحزينة. لم تأت الملكة نأمة مضادّة ترفع التّهمة عن راوٍ أبهج ذُلّها في ذلّه، ورفع عنها غشاوة الجهل بما يتضرّم خارج زبرجد القصر. قالت تعذر لنفسها صمتها الظّلوم إنّ أحدا من الجند ما كان ليعقل الفرق بين كسيح وسويّ، فكلٌّ هنا إلى حتف وإن تعدّدت الأسباب واختلفت المواقيت. واتّهام أحدهم في أحدهم لا يغيّر من النّتيجة ولا يثقل على المُعدَم بشيء ما لم يمسّ دماغَه المقدّس بسوء.. لا مَنْجى من القتل إلاّ بالقتل. حادثات التّاريخ العِظام كالمعابد الطّاغية لا ترضى إلاّ بذِبْح سمين. قبل سنين، ولمّا تسرّب الأمن إلى خيال شهرزاد، وأخذت الحكايا تفتر بين شفتيها، عمدت في جُنح السّرد إلى قتل فاطمة زوجة الملك معروف لتوقف جريان الدّم المؤنّث في جزر الهند والصّين ، واليوم تعجّل أختها بسفك عُبيْدٍ آخر المختارين لتوقف سُنّة قتل المذكّر في بلاد الأحلام..
غادرت الملكة السّجن إلى وجهة مضادّة للقصر. نزعت ثوب الرجال فاتني السّواطير الملكيّة، وارتدت زيّ الحزينات..
قالت:
اِحْبسْن يا نساء أرحامكنّ وأوقفن بقضاء الثورة المدمّاة نسل البلاد.. سيأتي يوم القطع على رؤوسكنّ بعد أن تفنى الرّؤوس المذكّرة. علّة الضّاحك لن تشفى، ووزيره الحارث لن يعفّ حتى تجفّ ضروع الأرض عن درّ الدّم. لا تتركن لهم شعبا يحكمون، ولا تنجبْن لهم ثمارا ذكيّة يقطفون.. لهم العقم فلينفخوا فيه ما شاؤوا من المجد، ولْيرفعوا سلطانهم على ظهور الدّماء..
تريّثي يا مولاتي واحتالي على الثّورة ببعض الشّفقة.. أنّى تقبل النّساء طواعية قتل أطفالهنّ فتعقم المخصبات بطونهنّ، وتُجهض الحوامل أنفسهنّ، وتقتل الأمّهات مواليدهنّ من أجل مستقبل آمن ومملكة مطمئنّة قد يقومان بعد فنائهنّ بأهْوال طويلة؟
ممتلئات هنّ بالحياة رغم الثّكل والترمّل والوحدة. يصررن على الإنجاب، ويجتهدن فيه حتى نهاية أعمارهنّ وتهدّم أجسادهنّ..
مصطبرات هنّ على ملك يستحييهنّ ويُقتِّل رجالهنّ تصديقا لوعد سبق من وزيره الطبيب بشفائه وقضاء البليّة..
قطْعُ رؤوسهنّ أهون عليهنّ من تقطيع أرحامهنّ بأيديهنّ..
لكنّ النّساء استجبن يوما للنّداء..
اِمتنعت الولودات عن الإنجاب محتملات في ذلك الأذى حتى الفناء، وصبرت المرضعات على نصال الألم تنشب إبرها في أثدائهنّ المتورّمة حليبا مفارقات مواليدهنّ الرّضّع يُنتزعون من صدورهنّ ويُهجّرون خارج الحدود. وأمّا الحوامل منهنّ فهجرن بيوتهنّ، وانقطعن عن الظّهور بين النّاس مُنْجَحِرات في المغارات الباردة ومفالج الجبال الغائرة حتى يأمنّ على سلامة مواليدهنّ..
لم تشبع سِلعتا الضّاحك من أدمغة البشر غثِّها وسمينِها. كانتا تشرهان كبرا، وتربوان قبحا، وتمتلآن شرّا.. تدلّتا إلى البلاط تثقلاه عن الحركة، وترهقاه بوجع يلازمه بلا انقطاع. فطن الملك إلى مكيدة النّساء وأدرك أنّ البلاد أخذت كمراتع العدم تقفر، بينما فرك الوزير كفّ النّصر بكفّ الفتح منتهيا من مراسم الجلوس على العرش دون نفْس تراق، أو جيش يُساق..
تحت وطء الألم، أمر الملك المريض خفية عن طبيبه بقطع رؤوس العجائز من غير المخبولات والخَرِفات والحمقاوات أوّلا واتّخاذ مَرْهَم من عقولهنّ الجافّة.. زعق في الخدم المرتعبين: “نحن ملوك الدّنيا المالكون لما فيها.. أنا الأبقى ولا أحد سواي.. اِقطعوا كلّ رأس تتعثّرون فيها ولو كانت لجذمة إنسان..”
لكنّ ثورة النّساء المتأنّية ظلّت تقرض في هدوء معذّب أعمدة العرش، وتأكل العديد من النّساء اللاّتي كُنّ يقضِين بطرق أشدّ قساوة من البتر الحاسم لرأس..
صارت “حوب” مملكة أشباح تعمرها العجائز المتهدّمات الحاقدات، والنّساء الذّاويات، والعقيمات، والوجوه البلهاء.. خلت الدّور تماما والقصور والخرائب والزرائب. هزل كلّ الزّرع والضّرع. ذوت الأشجار تميل بأعشاش العصافير وأجنّتها إلى مداس الأقدام الكئيبة.. وتتزاحم الطّامعون على أعطافها وجوانبها يتحيّنون الفرصة الأقلّ ضراوة لاحتلالها..
لمّا وَهَل الضّاحك، واشتدّ به الوجع، تحوّل عنه الخدم والجنود إلى طاعة الحارث، وأفْردوه في الجناح المنزوي حيث سكنت دنيازاد بعد زواجها، فظفرت به عرّافة القصر العجوز فقتلته ثمّ خرجت إلى فضلة الرّعيّة الهائجة تنعى الملك، وتفتح البوّابات، فهجمت جحافل النّساء النّاقمات على أجنحة القصر يخرّبنها، ويسفحن بقيّة دمائها، ويطهّرن بالعقم أرض الجباه السُّمر والجنان الخضر والجبال الشُّمِّ من القتل والقاتلين..
*******
اِنتهى السّفر إلى أوّله على رَجَز الشّوق محمّلا بلذّة الأرواح الذّاوية من تمر هضيم، وكرم نمير، وفاتنات الممالك الشّامخة. وتنشّقت الأرملة أبخرة البلاد بدمع همول.
لم يعد ضياع المجد يوجعها. العظمة خدعة لا تُحفَن إلاّ انفلتت، مقعد متعال يتسنّمه الأحياء صعودا على مراقٍ من عظام الأموات، شرف يخافه مالِكُه وفاقده على السّواء..
عادت الغريبة إلى وطنها، وتركت البلاد لأهلها المغتربين يعودون إليها سراعا بعد انقضاء الكارثة..
كيف أمكن للمملكة المقفرة أن تصبح فجأة عامرة بالرّجال والنّساء والأطفال؟
كان العائدون إليها عددا غمرا، شعبا غزيرا تناسل في الممالك المجاورة ورجع آمالا تتلاطم وأحلاما تزخر.. وجوها مورّدة، أبدانا ممتلئة، عطرين مستبشرين، بيض الأيادي والعقول، يبايعون ملكا طرأ على الأحداث من خارج المأساة، ويهتفون لنصر لم يصنعوه.. كانوا زِحاما جنبا لجنب الجياع والعراة والمعذّبين والخارجين من تحت الأقبية والمغاور والحفر، والمنفيّين عن عيون الضّاحك ووزيره الحارث، والنّساء المهدّمات اللاّتي حبسن أرحامهنّ وهجرن رُضّعهنّ وأجهضن أنفسهنّ، والعجائز اللاّئي لم يكففن حتى ذلك الحين عن بكاء أبنائهنّ ورثاء أزواجهنّ وإخوانهنّ قتلى الملك ووزيره السّابقيْن حتى كأنّ نصر المملكة لا يعنيهنّ بعزاء ولا ينسيهنّ من فقدن، وعرّافة القصر؟
لم يحفل أحد بعرّافة القصر. لم يذكر أحد أنّها كانت تصنع العقاقير السّامّة لتقتل الأجنّة في بطون زوجات الضّاحك فلا تنجب إحداهنّ وريثا له في العرش والعلّة..
كانت بطلة النّصر المستخفية، تطرّز مستقبله على ارتعاشة الضّوء في السُّرج، ورجفة الأصابع الهزيلة ولا تستجدي من منتصر شُكورا.. ذلك أنّ لكلّ حكاية عظيمة وجها مغمورا تحت خشبات العرض البكماء، يطلّ من ثقب الحكمة على البطل العاثر الظّاهر للعيان، فيسند حركاته المرتبكة، ويتلقّف نسيانه بالتّذكار، ويمسك بخيط السّرد إلى سؤال الحدث المقبل.