حوار عن (السيرة والشعر )
مع المستعربة الاسبانية روسا-ايسابيل مارتينث ليّو
ضمن مشروعها لمحاورة الاستعراب الإسباني، والذي نشرت الكلمة حلقات منه، تسعى محررة (الكلمة) في هذا القسم الأول من الحوار الضافي مع المستعربة الإسبانية Rosa-Isabel Martínez Lillo إلى التعرف على سيرتها كإنسانة شاقتها الثقافة العربية، وتخصصت في آدابها الحديثة وشعرها. وسنواصل في العدد القادم رحلتها مع ثقافتنا.
حوار وترجمة:أثير محمد علي
* كيف تشابكت الثقافة العربية في تفاصيل حياة “امرأة تعلن الاستعراب، تنتج الأفكار وهي تعمر الحب على الطريق”؟
** أبصرت عيناي النور في “أم الدنيا”.
ولدت في القاهرة يوم 19 ديسمبر 1961. وبعد أشهر عدة من ذلك اليوم رجعت أسرتي إلى اسبانيا، بحكم انتهاء مدة عمل والدي المستعرب بدرو مارتينث مونتابث في مصر كمدير للمركز الثقافي الاسباني في القاهرة وأستاذ في مدرسة الألسن.
حصلت ولادتي الجسدية في مصر، إلا أن ولادتي كذات فاعلة وحقيقة شعورية حدثت لاحقاً؛ وكان ذلك آن عودتي لزيارة مسقط رأسي وأنا بعمر تسعة عشر عاماً. وقتها كنت طالبة في السنة الثانية من دراستي في القسم الخاص بالأدب العربي في جامعة آوتونوما في مدريد. فتاة شابة تسافر مع ثلة من زملاء الجامعة في دورة صيفية للغة العربية في القاهرة، وربما لتتعرف على المدينة التي ولدت فيها وكانت مجهولة بالنسبة لها حتى ذلك العمر … حسناً، حينها ولدتُ فعلياً على مستوى الإدراك المعرفي والشخصي.
في تلك العودة المصرية الأولى، كان أمامي خيارين: إما أن أبقى في غرفتي في البنسيون أكرس وقتي بالكامل لمراجعة دروس اللغة العربية في الدورة الصيفية، كما فعل البعض من رفاقي، أو أترك نفسي لدرس الشارع والناس في واقع الحال المصري، رغم قلة تجربتي ومهابتي من عدم معرفتي بالمكان وأهله، هذا إن لم أتطرق لجهلي التام بالدراجة المصرية. أذكر أنني تركت نفسي للمغامرة ولقدر ما سيأتي به المسير. أمشي وأمشي، أقطع الدروب، أعرج على الحارات وأتنقل بين المقاهي والأزقة المدققة، أسافر بين العيون السائرة إلى مصيرها اليومي، أجوب فضاء المدينة لوحدي أحاول الحكي مع الناس، مع سخاء المصريين ودفء حضورهم وطقوس طيبتهم وحلاوتهم الخاصة. وبدأت بتعلم الدارجة المصرية بغية التواصل العملي وتبادل الأفكار والمسرة على الطريق، ذاك أن التفاعل مع الشارع المصري والبشر ومعيشهم كان خياري الذي مارسته بتفاؤل وبهجة وإخلاص. وفيما لو حتّم علي البوح عن تلك المشاعر التي عرفتني عليها القاهرة في تلك العمر المبكرة، فإني أقول: إن القاهرة فتنتني وسحرتني حتى لامست شغاف قلبي، فوقعت في حبها وحب الناس الذين يعمرونها. ولتوضيح السبب، أقول أنني لا أدري فيما لو كان الأمر يعود لما احتفظت به من ذاكرة الهواء الأول الذي تنفسته في هذه الدنيا، أم أن الأمر يعود للقاهرة نفسها بغض النظر عن سيرتي مولدي. حقاً، من يومها والمدينة القاهرة تساكنني بحقيقتها وحبها الذي تعمق مع الأيام وتجذّر.
عدت إلى القاهرة في الصيف التالي، ثم بعد انتهاء دراستي الجامعية وسكنت فيها لمدة تقارب السنتين، بغية كتابة أطروحة الدكتوراه التي كنت أحضر لها حول تجربة الشاعر صلاح عبد الصبور. ولم أقطع علاقتي مع واقع المدينة اليومي في أي يوم من الأيام خلال زياراتي المتتابعة لها، رغم أنني في السفرات الأولى داومت على الدروس التعليمية في جامعة القاهرة كمستمعة. ومن تلك الدروس أذكر أساتذة تركوا طيب الأثر في تكويني المعرفي كما الإنساني. ويحضرني اسم سهير القلماوي وعبد المحسن طه بدر من بين آخرين. ومن شدة كرم حضور أستاتذتي المصريين والبصمة الإيجابية التي تركوها على حياتي، أهديتهم كتابي الأول الذي أنجزته بعد التخرج، وهو “جبران خليل جبران، وكتّاب العصبة الأندلسية”: “إلى أساتذتي في جامعة القاهرة، لأنهم لم يعلموني الـ (ماذا) فقط، بل الـ (كيف) كذلك”. للقاهرة ولمصر أدين بالكثير الكثير من روحي كمستعربة وكإنسانة.
بالتأكيد تعرفت على مدن عربية عدة عايشت فيها تجارب مفردة، من بينها تبرز مدينة عربية أخرى تركت فيّ أثراً جميلاً وحباً عميقاً، وإن لم يكن لدرجة عشقي القاهرة، إلا أنها مدينة أعلنت عن قوة نفسها بصراحة جمّة، ألا وهي بيروت. ولا أنسى مدن اليمن إلا أنها مارست جاذبها ومناجاتها بطريقة مختلفة.
* * * *
* كما لو أن علاقتك مع فضاء اللغة العربية تعشق بالبشر إضافة لما حملته الكتب، أليس كذلك؟ ولعل لهواية الرقص التي تسكنك علاقة بشعرية الكلمة وميولك نحو ترجمة الشعر العربي؟!!
** علاقتي مع فضاء اللغة العربية يعود لزمن مبكر، فقد وعيت الدنيا في مدريد في دارتنا الواقعة في Barrio de Las Letras (حي الآداب) وهو أحد الأحياء العريقة التي تعود للقرن الثامن عشر، وفيه مكتبة عربية ضخمة تخص والدي المستعرب. وحينما كنت صغيرة علمني والدي بضعة كلمات عربية وجمل قصيرة، رغم أنه لم يكلمني بالعربية مطلقاً. إلا أن عالم اللغة العربية لم يثر في نفسي حب الاستطلاع إلا مع معرفتي للمكون البشري لهذه اللغة، وأقصد هنا الصلة مع الأصدقاء العرب الذين كانوا يأتون لزيارة والدي في دارتنا لتناول الطعام أو لتبادل الحديث أو لتدخين الأرجيلة.. كنت تلك الطفلة التي كانت تراقب مايدور حولها، ما زلت أذكر الابتسامة الطيبة المرتسمة على محيا هؤلاء الزوار العرب، شدتني أريحيتهم وتحررهم من الكلفة، وعفويتهم المنفكة عن الاتيكيت والآداب الاجتماعية المكرسة في اسبانيا. ومع يفاعتي، بدأت أقرأ ما هو متوفر من الكتب الاسبانية والمترجمة في مكتبة والدي، لم يكن لدي تفضيل واضح، بل كنت أقرأ ما تيسر وكيفما اتفق، يدفعني الفضول لتوسيع دائرة المعرفة وتخومها. وفي يوم من الأيام وقعت بين يدي روايات مترجمة للاسبانية لنجيب محفوظ. حسناً، إن لقائي الأول مع ثقافة هذا العالم جاءت محملة على جناح الأدب. ذهلت بعالم نجيب محفوظ الزاخر بدوافع نفسية واجتماعية عميقة، وأهواء أحاسيس على وشك الانعتاق، وعلاقات إنسانية على حافة الانفجار دون أن تعلن عن نفسها بوضوح، وتبقى هناك في تلك الظلال الخفية. بدت لي شخصيات نجيب محفوظ السردية بكثافة إنسانية واقعية قدرت على ممارسة تأثيرها علي فيما يخص اقترابي من العالم العربي وانجذابي نحوه.
لاحقاً سجلت في جامعة أوتونوما في قسم الدراسات العربية والإسلامية في كلية الفلسفة والآداب، متجاوزة رغبة قديمة لدراسة الأدب الاسباني لميولي نحو الشعر الاسباني. في السنة الأولى في دراستي حالفني الحظ، مع بداية مرحلة التحول الديموقراطي في ثمانينيات اسبانيا، بتلقي الدروس على يد المستعرب الكبير بدرو مارتينث مونتابث. صدقاً، وبغض النظر عن أنه والدي، هو أفضل أستاذ عرفته خلال سنوات دراستي كافة، وكان السبب في أن أتابع المسير في الاستعراب كما كثير من زملائي المستعربين. بالطبع هذا لا يعني أنني لا أغفل عن غيره من الأساتذة البارزين والرائعين في القسم ممن تلقيت على يدهم المعرفة، وتعلمت منهم الكثير، حتى أن دورهم التوجيهي ترك بصمته علي لتأثري بالطريقة التي قاربوا بها مواضيعهم، ولما وهبوني من مفاتيح البحث، وللكيفية التي فتحوا بها الطريق أمامي للسير وبناء التجربة الخاصة… إضافة لذلك كانت سنوات الدراسة الجامعية حينها سنوات غليان وتفاؤل وحراك طلابي جامعي هام في تاريخ اسبانيا، خاصة في كلية الفلسفة والآداب في جامعة آوتونوما بمدريد، كما كانت سنوات التزام مع المجتمع، والتأمل الجدلي في معنى الحاجة والضرورة. إلى جانب كل ذلك ثوّر الأستاذ مونتابث سيرة الاستعراب بتأسيسه للدرسات التي تتناول الأدب العربي الحديث والمجتمع العربي الحي والمعاصر، محرراً بذلك الاستعراب من وجهة النظر التقليدية المنغقلة على محض الدراسات الناريخية الأندلسية.
من كل ما سبق، يجب أن أقول أنني لم أكن نموذج الطالبة التي تغلق باب غرفتها على نفسها مع الكتب والدفاتر الجامعية والاستيهام المتخيل حول تلك البقاع الثقافية، رغم أن انتباهي كان يصل إلى حده الاقصى في الدرس. إلى جانب ذلك، لا أغفل هنا عن ذكر الأثر المعرفي للدوارت والنشاطات الثقافية المتنوعة والمحاضرات في الفلسفة والتاريخ وعلم النفس التي ردفت دراستي الجامعية، ووسعت مداركي وعمقت منهجية بحثي، كما أنني ثابرت على حضور كافة اللقاءات التي كانت تنظم في الجامعة مع شخصيات عربية مثل الشعراء محمود درويش وسميح القاسم، أو مفكرين ومترجمين عرب من بلدان عربية مختلفة.
كنت أقرأ في مجالات شتى، كما الآن، إلا أن الشعر كان له الحيز التفضيلي في نفسي وقتئد، ومن ثم بدأت أحاول الولوج لحيثيات دنيا الترجمة الشعرية. في معرض الحديث هنا، أشير إلى أنني كنت ومازلت أصغي للموسيقى العربية أحاول تميز تنويعاتها، وأود القول أنني منذ عمر الثلاث سنوات امتلكت علاقة مفردة مع الموسيقى والحوار معها ولعل لذلك أثره في ميولي الشعرية، حتى أنني أحس بوضوح أن في داخلي روح راقصة، راقصة كلاسكية، لنقل راقصة بالية. إلا أن الحظ لم يحالفني لتطوير مداركي في التعبير الجسدي والرقص كمحترفة، بسبب ما تعرضت له بعمر 18 سنة من إصابة في أربطة الركبة، مما حتم علي الابتعاد عن أهواء الرقص، ومتابعة الدراسة في الجامعة.
أحيانا يعود المرء لتذكر تلك الأماني البعيدة، كما لو أنه يفكر في قدره، في سيرورة الزمن وميلان الوقت لصالح دروب أخرى.. ولكني أبداً لا أغض النظر عن روح الراقصة الكلاسيكية في داخلي، أشعر بها وأتركها تتعايش معي وتعبر عن نفسها بأساليبها الخاصة عبر اهتمامي بالشعر؛ بكل الأحوال لم أهجر رقص الصالون ولا رقص الكاريبي ولا رقصة الاشبيلية من الفلامنكو. إلى جانب الموسيقى والرقص، سجلت في مركز اللغات في جامعة أوتوموما، وبدأت دراسة لغات عدة، فتابعت دراسة الانكليزية التي كنت تلقيتها في المدرسة، والفرنسية، والبرتغالية، والألمانية، والايطالية. وبعد حضوري لدروسي في كورسات اللغات المختلفة، كنت أذهب إلى المكتبة الخاصة بقسم الأدب العربي، وأطالع دواوين الشعر والدراسات النقدية عنه، وأقضي الوقت فيها حتى يفرغ والدي متأخراً عادة من شغله لأنه كان رئيس جامعة أوتونوما حينها. أذكر أنني أمام تلك أرفف المخصصة للشعر كنت أتتاول كل يوم كتاباً أو ديوانا، خاصة تلك الدواوين المترجمة بطبعات ثنائية اللغة (عربية/ اسبانية، برتغالية، ايطالية…)، وأغلق حواسي عن العالم المحيط وأترك نفسي للشعر. ورغم أن معرفتي للغات التي ذكرتها كانت متواضعة إلا أن دراستي لها نمت عن طريق الشعر، فاللغة الشعرية كانت عتبة ولوجي إلى عالم اللغة، حتى أنني تعلمت اللغة الكتالانية بفضل الشعر، فالشعر كان وسيلة من وسائلي للدراسة وعدة من مشاعر أُخر… وإلى الآن فإن أول شيء أحرص على اقتنائه في رحلاتني وأسفاري هو دواوين الشعر. بكل الأحوال، اللغات التي أتقتها هي العربية والايطالية، واستخدم الانكليزية والفرنسية والبرتغالية بجهد فيما لو احتجت، أما الالمانية فبصعوبة، ولدي معرفة محدودة باللغات اليونانية والتركية، كما أنني درست شيء من السنسكريتية الهندية كي أفهم صلوات وأدعية اليوغا التي أمارسها منذ أكثر من 20 سنة. الآن أحاول أن أتعلم شيئا من اللغة التشيكية، لأني في هذا الصيف سأزور الجمهورية التشيكية للتدريس العربية في إحدى المدارس الصيفية.
* * * *
* لابد أنك وجدت نفسك أمام مروحة ثقافية وشعرية عربية رحبة. ما الذي جذبك فيها أكثر، وأضحى جزءا منك وأسلوب حياة لك؟
** هاجسي الأساسي هو المثاقفة والتواصل الندي، بغية بناء جسور وعلاقات إنسانية ثقافية تتأسس على احترام فعل البشر في التاريخ. وكما أشرت سابقا تأثرت بأساتذة مهدوا لي طريق التواصل مع الشعر عموما والعربي على وجه الخصوص. أذكر أننا درسنا الأدب والشعر العربي الحديث في السنة الرابعة، أما في السنة الثالثة فكانت لدينا مادة الشعر الكلاسيكي. كل من المادتين جذبتني بشكل كبير. أذكر أن الشاعر الذي دهشت في حضرة شعره كان أبو نواس. وعليه فإن أول إعجاب بالشعر العربي كان لصالح الشعر الكلاسيكي من العصور العربية الاسلامية المختلفة.
بكل الأحوال، ولدوافع تتعلق بحبي للثقافة العربية، والثقافة بالنسبة لي هي الناس والمجتمع، بدأت بعد تخرجي بالاهتمام بالدراسات السوسيولوجية، وفي هذا المجال تلقيت عونا من قبل الأساتذة بدرو مارتينث مونتابث وكارمن رويث برابو، فقد بينوا لي أن أفضل طريقة لمعرفة مجتمع ما هو معرفة ثقافته، إضافة للمعرفة الحية المباشرة، وكانا السبب في إدراكي أن تخصصي بالشعر العربي هو وسيلة للوصول المعرفي إلى المجتمع العربي. وعليه أنجزت رسالة التخرج الجامعية حول تجربة الشاعر أمل دنقل، بعدها سافرت لمصر لأحضر للدكتوراه حول صلاح عبد الصبور كما ذكرت سابقا، وهناك تعرفت على شخصيات تركت أجمل الأثر في نفسي كعبد الرحمن الابنودي وجمال الغيطاني الذي كان كأب بالنسبة لي لمحبته وحنانه وعنايته بي.
مجمل القول أنني أخذت أميل للتخصص في الأدب عموماً وللشعر على نحو الخصوص كأسلوب حياة ومثاقفة.
أحيانا أسأل نفسي عن جاذب الشعر في روحي ووجودي، وأقول لعله بسب الايقاع الموسيقي الذي يكوّن الشعر، أو كتعويض عن تلك الموهبة في الرقص والموسيقى التي تساكنني… هكذا بدأت دواوين الشعر تشكل تجربتي المعرفية وأسلوب حياة يومي وقراءة مستمرة، وسلوك مرهف تجاه الآخر ومجمل الكون. وشرعت أخوض تجربة الترجمة لشعراء عرب إلى الاسبانية، وتقديم دراسات نقدية مقارنة بين تجارب شعرية عربية واسبانية أو إيطالية.. وأذكر في هذا المجال كتابي النقدي “حول شعر المتوسط”، ذلك أنني أعتقد بوجود قواسم مشتركة في ثقافة حوض المتوسط، رغماً عن واقع التعدد والتنوع التاريخي والاجتماعي-الثقافي لبلدان المتوسط.
* * * *
* لنركز على الشعراء العرب الذين ترجمت لهم إلى الاسبانية. كيف تتمثلين صلتك بالنص والشاعر والشخص؟
** أدين بما أملك من كرم وأبعاد تفاؤلية وإيجابية وإبداعية وإنسانية للثقافة العربية وشخصياتها. حسناً، علاقتي مع الشعر مديدة، وأعترف أن هناك فارق بين قراءة شعر الشاعر وبين التعامل مع الشاعر نفسه. هو الفارق بين النص والشخص، أو بين الشعر والشاعر. ولمرات عدة قلت أنه من الأفضل التعرف على الشعر أكثر من الشعراء. ومن المناسب خوض تجربة ترجمة الشعر وترك شخص الشاعر في حيز أبعد. طبعاً الشعراء هم ذوات تتميز بحساسية وخصوصية مفردة، وفي بعض الأحيان قد تكون خصوصية لا تطاق.
رغما عما أقوله، علاقتي دائماً كانت موفقة وإيجابية مع الشعراء العرب. أذكر أنني تعرفت على العديد منهم في الملتقيات والمهرجانات المختلفة كالمربد والقاهرة من بين مدن أخرى، ويحضرني هنا نزار قباني بكل شخصه الجميل وحضوره العميق في سيرورة الشعر العربي، وعبد الرحمن الأبنودي بشخصه الرائع وصداقتي الوطيدة معه رغم أن شعر العامية المصرية الذي يكتبه لم يستطع أن يصلني بقوة. وفي سورية تعرفت إلى الشاعر شوقي بغدادي بشخصه المرموق وإنسانيه الرائعة، ربما لم أنجذب نحو شعره كما شعر آخرين، إلا أنني تعلمت منه الكثير فيما يتعلق بالإحساس والفهم والتأمل في الشعر العربي عموماً، وشعرية المهجر خصوصاً، وتلقيت على يده معرفة أستحضرتها مع الوقت في إنتاجي النقدي وفي اهتمامي الراهن بما أطلق عليه “شعر مابعد المهجر”. ولا يمكن أن أغفل عن شاعر سوري آخر أثر بي كثيراً وساعدني معرفيا لأقصى الحدود، ألا وهو نزيه أبو عفش، وأستطيع القول أنه على المستوى الشخصي تعامل معي بشكل راق وقريب جداً من النفس.
في مهرجان المربد تعرفت على شعراء ونقاد وبحاثة وكتاب قصة مثل القصصي الرائع السوري زكريا تامر، الذي ترك إنطباعا رائعا في داخلي بسخريته الرفيعة الإنسانية. كما تواصلت مع جبرا ابراهيم جبرا الذي منحني الكثير من الأسس لمواجهة وممارسة النقد العربي. كذلك التقيت الشاعرة والناقدة المرموقة الكويتية سعاد الصباح التي أكن لدوررها الثقافي تقديراً جمّاً. أما عبد الوهاب البياتي فعرفته أثتاء إقامته في مدريد، وقد حصلت بيننا أشياء مثيرة حينما كنت ألتقيه في مقهى ما، برفقة الكاتب والمترجم طلعت شاهين أو اشخاص آخرين، ومرة ذهبنا مع مجموعة أصدقاء إلى صالة الديسكو. عموماً البياتي كان شخصاً يلتزم الصمت، بالكاد كان يتفوه بكلمة، والتفاهم معه كان بوسائل السكون اللفظي، لم نكن نتكلم فعلياً بل نحكي الكلمات بالصمت وسلاسة السكينة .. ولا أدري كيف كان يتحقق التفاهم بيننا حول المعنى!!
بالوصول للحديث عن محمود درويش، لابد أن أقول أنه الشاعر الذي لمس داخلي الشعري أكثر من غيره منذ البداية ودون مناورات. وقد تكررت معي تجارب مؤسفة في سياق ترجمتي لنصوص شعرية له. مفاده أنني ولمرات عدة حينما كنت في المراحل الأخيرة من مراجعة ترجمة لديوان له، أفاجأ بمن سبقني وأصدر ترجمة أخرى للاسبانية لنفس الديوان. وكم أثار تكرار هذا الأمر في نفسي الضحك المرّ. والسبب بالطبع أنني لم أكن أتواصل مع درويش حين شروعي بالترجمة والتي كنت أقوم بها يغية الاستمتاع ومعايشة الشعر في يومياتي قبل أي شيء آخر. إلى أن أخذت بمعاشرة الـ”الجدارية”، حينها تواصلت معه وحصلت على حقوق الترجمة منه لصالح دار نشر اسبانية تعنى بالمنتج الأدبي لـ “الشرق وحوض المتوسط”. وبقيت علاقتي معه علاقة مهنية عن بعد، إلى أن جاء يوم رن فيه جرس هاتفي، هنا في هذا الركن من بيتي المدريدي. وصلني من الطرف الآخر صوت عميق القوة يعلن: “أنا محمود درويش!!”. بقيت مذهولة لبرهة من الحضور الصوت، قبل أن نتابع الحديث حول الترجمة التي قمت بها وحقوق الترجمة، وتفاصيل العقد الموقع مع دار النشر، إلى أن مهد لانتهاء المكالمة بسؤاله: “هل أنت مسرورة.. راضية عن الترجمة التي قمت بها؟!”. أردفت بحماس واثق: “نعم.. راضية جداً!!”. “حسناً هذا هو المهم”… أجاب وانتهت المكالمة وخرجت الـ”جدارية” للنور باللغة الاسبانية.
مع سؤال محمود درويش البسيط تعلمت أهمية الشعور بالرضى حين مواجهة الترجمة الشعرية. بالتأكيد لكل واحد منا أخطاؤه، إلا أن الاجتهاد والممارسة والتعايش مع النص حتى الوصول للرضى هو من الأهمية بمكان!!
بعد سنوات عدة، التقيت درويش في محاضرة شعرية نظتمها مؤسسة “سكن الطلبة” في مدريد، اقتربت منه للسلام عليه لشدة محبتي له وإعجابي به، إلا أنه لم يتذكرني للوهلة الاولى. طبعا حصل هذا بعد معاناته مع المرض وعملية أجريت له على ما أعتقد، وكان علي أن أعرّف بنفسي وأذكره بلقاء هاتفي وترجمة رأت النور من بين يدي. بالطبع تذكرني وأخذ الحديث بعدها منحى طيباً ودوداً.
أعتقد أن الشاعر محمود درويش الذي عانى المنفى المادي المباشر والمنفى الروحي الماورائي، كما أعتقد، هو شخصية مركبة في تعقيدها. رأيت في أعماقه رجلاً خجولاً، ولعل هذا الخجل هو مبرر الدرع الذي كان يضعه، تاركاً مسافة إبعاد فاصلة عن الآخرين؛ ورغما عن ذلك لم تهجره روح الرجل القريب والقريب جداً من الآخر. بالطبع حديثي عن درويش يقودني إلى سميح القاسم، الشاعر الذي تختلف شخصيته كلياً عن صديقه درويش. تعرفت إلى سميح القاسم في اسبانيا، تبادلنا الحديث والمودة والتضامن ودون مقدمات فاصلة، فهو شخصية دائمة الابتسام ومؤثرة في النفس منذ الوهلة الاولى للقاء. وترجمت له دون أية معيقات أمام التواصل معه والاقتراب منه.
أما الشاعر الذي ترجمت له ولا أستطيع أن أغفل عن كبر حبي وتقديري لشعره فهو أدونيس. بالنسبة لي، هو أفضل من يمثل الشعر العربي المعاصر. أعترف أنه شاعر ذهني، يحتاج للتروي والتفكر أثناء قراءة وتمثل شعره، الذي يبدو كما لو أنه مكتوب للنخبة. بكل الأحوال أراه الأكثر شعرية ممن قرأت لهم، وإعجابي به يطال منجزه الشعري كما النقدي. أما تعاملي الشخصي معه فلا يمكن أن يكون بأحسن مما هو، لشخصه اللطيف والمحب والمرح، حتى أننا نتشابه بدفق العواطف العفوية الصدوقة دون حواجز. ولاقت الترجمات التي أنجزتها لنصوص أدونيس ترحيباً واعترافاً مرموقاً بقيمتها، خاصة ديوان “آخر الجسد أول البحر” الذي رشح لنيل الجائزة الوطنية لأفضل ترجمة إلى اللغة الاسبانية.
على هامش كل ما أحكيه، حينما أعود لقراءة ترجمتي لديوان صلاح عبد الصبور “الإبحار في الذاكرة”، وهو من ترجماتي الأولى، يتنابتي شعور شخصي أنها أفضل ترجماتي، أحس أن السطور الشعرية تسكن قلبي وروحي بعمق، في حين أن ترجمتي لنصوص أدونيس، حكمتني بلغتها الشعرية الخالصة، وآلية نحته للجمل المموسقة الصافية المذهلة، والتي اجتهدت على ترجمتها بالصنعة وتقنيات الترجمة الذهنية قبل الشعورية.
يكل الأحوال لا أعرف مبرراً لإحساسي هذا تجاه ترجماتي الأولى لعبد الصبور، أحيانا أقول ربما لأنه شاعر مصري، أو لعل السبب يكمن في إنجازي للترجمة في “أم الدنيا” التي كنت على تماه ووجد كلي معها حينئد… لست أدري؟!
* * * *
* من بين الشعراء الاسبان، من هو الشاعر الأكثر قربا وتأثيراً في رؤيتك للشعر؟
** من بين الشعراء الاسبان يحضرني الشاعر الرومانسي أدولفو بيكر الذي تعرفت عليه مبكراً عن طريق جدتي وأثر بي كثيراً، كذلك أنطونيو ماتشادوا من جيل الـ98، وكل شعراء جيل الـ27 كخوخي غيين وخوليو ساليناس ولويس ثرنودا… وأضيف شاعراً آخر من إيطاليا وهو أونغاريتي بكل حمولة المتوسط في شعره.
* * * *
* فيما يخص الشعراء الاسبان. كيف ترين لإمكانية تحقق دراسة مقارنة بين منجز الشعراء الاسبان والشعراء العرب، ومن هم الشعراء الذين يمكن أن يمتلكوا تقاطعات في تجربتهم الشعرية.
** من الممكن مواجهة أدونيس مع خورخي غيين، الشاعر الذي ينتمي لما يعرف بجيل الـ27 في اسبانيا، من حيث التقاء كل منهما في شعرية مفاهيم “الأبدية” و”الكونية”، والتوق للكمال الشعري، وفي عملية خلق كل منهما لكون خاص تترابط فيه العناصر الشعرية الأبسط وتتغيا مضمونا ًمطلقاً متعالياً. فكل منهما يشتغل على تقنيات العنصر الشعري حتى حضوره بكمال ماهيته، فلا شيء ناقض ولا شيء زائد، بمعنى تحقق كمال العنصر الأبسط وهو يسعى للتعبير عن الكمال المطلق. لعل كلا منهما كان يهاب الواقع وأراد أن يخلق كوناً موازياً يفوق بكليته الشعرية الواقع النسبي. بهذا المعنى يلتقي أدونيس مع غيين ويجتمعان على عنصر الهواء المكون لهما كشاعرين من بين عناصر الطبيعة الأربع. كذلك يمكن القول أن أدونيس يقترب إلى حد ما من الشاعر الاشبيلي لويس ثِرنودا.
أنجزت دراسة مقارنة بين شعر أمل دنقل ونصوص شاعر اسباني من جيل الخمسينات هو كلاوديو رودريغيث غارثيا، فيما يتعلق بتمظهرات اللون والأحاسيس في منجزهما. ولا أنسى هنا أن أشدد على قابلية إجراء دراسة مقارنة بين رومانسية ادولفو بيكر مع رومانسية العديد من الشعراء العرب. كما أعتقد بقابلية إجراء تقاطعات في التجارب الشعرية لشعراء من جيل الـ27 كفدريكو غارثيا لوركا مع كثير من الشعراء العرب من جيل السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي.
* * * *
* من هم الشعراء الذين تميلين للتواصل مع تجربتهم، وترغبين ترجمت نصوص لهم في راهن اليوم؟
** الشاعر سعدي يوسف حاضر باستمرار، وكذلك الشاعر سعيد عقل رغم خطه الشعري المفارق، وآمل أن تتاح لي الفرصة في يوم من الأيام على ترجمة قصائد لهما. كما أنني فتنت بشعر اللبناني عباس بيضون، ولأسباب تعود لعدم تمكني من التواصل معه، بقيت رغبتي في ترجمة نصوصه معلقة على ما تأتي به الأيام من إشارة قبول منه، وإن كنت ترجمت لنفسي نصوصاً له وبقيت الأوراق هناك في الظلال.
منذ بضعة سنوات بدأت أحرص على متابعة منجز شعراء وشاعرات من أجيال شابة. وفي هذا المجال أشير أنني ترجمت ديوان “إلاي” للشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة. كما وأحاول أن أتابع شاعرة شابة فلسطينية، حاصلة على الجنسية البرازيلية، لفتت انتباهي اسمها فرح شما لجودة كتاباتها ومعاصرتها الشعرية.
* * * *
* كيف ترين للسجال الذي دار بشأن شرعية قصيدة النثر في فضاء الثقافة العربية خاصة أنك ترجمت قصائد ضمن هذا الانتماء الشعري؟
** الكثير من النقاد العرب والاسبان يرى أن قصيدة النثر، الغربية والعربية، شكت ثورة في العالم الشعري. وأعتقد أن هناك سيرورة في الشعر العربي تحمل إمكانية التغيير في داخلها، منذ شعر المعلقات قبل الاسلام، مروراً بالمراحل الثقافية العربية المختلفة، إلى شعر الحداثة، بغض النظر عن الازدهار أو الانتكاس. بالطبع دون أن ننسى مختلف المؤثرات الوافدة من الثقافات الأخرى. بمعنى أن التجربة الشعرية العربية تحمل إمكانية نقيضها في داخلها، فحتى مع شاعر قصيدة عمودية كأحمد شوقي يتناب القارئ الناقد أن قصيدته العمودية تحمل نقيضها (قصيدة النثر) في عمقها الخفي. كما لو أن فيها قصيدة نثر محزومة بقيود الوزن وتبغي التحرر منه. والأمر نفسه أراه لدى شعراء آخرين.
إضافة لذلك أعتقد أن شعراء المهجر حقنوا الشعر العربي بمؤثرات خصبة في مرحلة تاريخية شعرية هامة، ساهمت في ميلان الشعر العربي نحو قصيدة النثرـ كما لا أغفل عن تجربة نزار قباني الشعرية وجهود أدونيس مع مجلة شعر وخصوصية شعر أنسي الحاج ومحمد الماغوط.. جميعها تجارب تقدمت بالشعر خطوات أضيفت لأخرى نحو صيرورة قصيدة النثر في لحظة اجتماعية ثقافية تاريخية مفارقة. وفي معرض الحديث هنا، أشير لأهمية تجربة توفيق الحكيم اللغوية وبحثه عن “اللغة الثالثة” التي تقترب من الحياة اليومية، وتأكيده على ضرورة الإصلاح اللغوي والذي لابد أنه حمل معه ما أثر على التجربة الشعرية. ويكفي أن نرى حراك اللغة العربية وتطورها حتى نفهم قصيدة النثر. بكل الأحوال، ما أود أن أفضي إليه هو أن قصيدة النثر ليست منفصلة عن تاريخ الشعر العربي ولا عن الشعرية العربية، ومن هنا لابد من الاعتراف بها كواقع يستجيب للضرورة والحاجة الأدبية.
* * *
* بالوصول إلى هذه النقطة، ماهي وجهة نظرك حول تقنية ترجمة قصيدة النثر؟
** من خلال تجربتي صادفتني أمور عدة على الصعيد التقني، فإضافة للأبعاد التي سماها عبد النبي حجازي بالـ”سينمائية” في النص الشعري، هناك أبعاد أخرى تتعلق بـ”الإيقاع” الخاص لكل قصيدة.
فالشاعر في الـ”سينمائية”. يتناول آلة تصوير ويأخذ بتسجيل ما يبصره، أو ما تصوره له مخيلته، من واقع مرئي في يومياته، أو في الشارع، أو مع الحبيبة… إلخ. وعليه يبرز السؤال كيف يتحول ما يراه الشاعر إلى كتابة شعرية، وقصيدة قائمة بذاتها؟!! حسناً، جوابي يشدد على كيفية توظيف علامات ترقيم!!. إن دراسة الكيفية التي تطورت بها صيروة علامات الترقيم هو جزء من تاريخ شعرية النص وولادة القصيدة النثرية، فعلامات الترقيم تقود إلى تعمير النص في بنية جديدة، وتؤدي إلى طريقة مغايرة لتلقي النص والإحساس الشعري به. إن موضعة علامات الترقيم في قصيدة النثر ليس مجانياً بأي حال من الأحوال. وبناء عليه يوصلنا فعل بناء النص بالاستخدام الشعري لعلامات الترقيم إلى الحديث عن الإيقاع. لنأخذ قصائد لأمل دنقل أو محمود درويش أو أدونيس أو محمد بنيس ونتابع تطور الإيقاع فيها، نستطيع إن نتعرف على سيرورات شعرية مختلفة يتباين فيها الإيقاع. على سبيل المثال في قصائد الشاعر المغربي محمد بنيس، يرى البعض فيها اقتضابا شعريا، وهو ما نسميه بالاسبانية Poesía del silencio “شعر الصمت”، بمعنى أن الشاعر في بعض الحالات يترك في القصيدة “كلمة” ما، لكنها كلمة تحمل على كاهلها إيقاعاً يقوم على الصمت، إلى جانب اندراجها في نظام لغوية نحوي مغاير.
في هذا المجال يحضرني حديث تبادلته مع الصديق الشاعر التونسي يوسف رزوقة، الذي ترجمت له أيضاً، أذكر أننا اتفقنا على أن بنية الشعر في قصيدة النثر تتكئ على تركيب نحوي مغاير للجمل اللغوية، وعلى كيفية تحرر علامات الترقيم من التغيب القسري الأرثوذوكسي والمكرس والمتعالي في القصيدة التقليدية. فالشاعر في موقفه من الواقع والعالم، وهو يحاول التحرر من قيود الواقع، هو شاعر يرفض عبودية القيد في أي نظام، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا أو أدبيا أو شعريا.. شاعر يقول الـ”لا” ويقيم بنيته النصية وهو يتغيا التحرر من ذات القيود شعرياً.
في الوقت الراهن أولي عناية خاصة لموضوع الايقاع. هل من الممكن ترجمة الايقاع؟ وأود أن أنجز دراسة بحثية حول هذه الترجمة، وسأبدأها مع تجربة أمل دنقل الذي اعتبره الرائد في هذا المجال.
إلى كل ذلك، وقبل أن أتابع أود أن أشير لاستعمال مناقض لفكرة التي تحدثت عنها للتو، أي حضور علامات الترقيم في قصيدة النثر، وذلك بالعودة إلى تجربة الشاعرة الفلسطينية الشابة فرح شمّا، والتي أعتقد أنها شاعرة مميزة من بين الشعراء الشبان المعاصرين، في شعرها ما يدل على حمولة معرفية هامة، وتمثل للتجارب الشعرية العربية عامة وشعر المقاومة خاصة. يتميز نصها الشعري بأنه لا يولي أية عناية لتوظيف علامات الترقيم، كما لو أنها ترجع بقصيدة النثر التي تكتبها إلى معيارية القصيدة العربية، فيما يتعلق بغياب علامات الترقيم منها، فتبدو قصيدتها كما لو أنها صبت في قالب واحد. الأمر الذي جعلني أطلق على مثل هذا التوجه الشعري بـ”شتاء القصيدة العربية”، وهو مصطلح يحمل وجهة نظر ايجابية، لأنها قصيدة إبداعية مكتملة البنية، مصاغة بصلابة، ومؤطرة ولا تحتوي في داخلها على تمفصلات أو صمت أو انحناءات التي تفرضها علامات الترقيم مثل الـ(…) أو (؛) أو (… إلخ. لذلك أقول أن الشعر العربي يتابع الحراك والمسير بسبل متنوعة وبخطوات عظيمة. * * * *
* منذ فترة تعود لسنوات قريبة، ولأسباب مختلفة بدأت بالسفر بالاتجاه الآخر من الكرة الأرضية نحو أمريكا اللاتينية. ما الذي دفعك إلى توجيه دفة القارب إلى هذه الوجهة. هل هو نداء شعر المهجر العربي؟!!
** قبل أن أتكلم عن شعر المهجر أو القول أنني هناك في أمريكا اللاتينية، القارة المذهلة، ألقيت مرساتي وتوقفت للتعلم والتزود بالمعرفة.
منذ حوالي أربع سنوات، تفتحت أمامي آفاق لم أكن خبرتها بعد. على شاطئ تشيلي المطل على المحيط الهادئ تفتح في داخلي شيء حثني على كتابة السرد، فأخذت بكتابة القصص القصيرة. وحتى الآن لا أفهم ما الذي حصل معي أمام أمواه الهادئ المحيط. أذكر أن الوقت كان مساء من هذا الزمن، في مدينة ساحلية على أطراف الدنيا، وكنت أرنو لرحابة المحيط، بدأت أكلمه، أحكيه أحكي البحر… تناولت ورقة وقلم وبدأت أخلق نصي السردي. لعلها تلك الحاجة الخفية للتعبير، لعله المنظر الذي شاهدته، لعله مفرد الواقعية السحرية في تلك الأمريكا اللاتينية التي تعاش يوما بيوم هناك في أصقاع تلك القارة. ومازلت أمارس هذه النصوص النثرية السردية ولا أدري حتى الآن إلى أين ستوصلني. حسناً، بعد كل سنوات عمري التي كرستها للشعر ودراسة الشعر بوفاء وتفان فريدين، أحس الآن بحاجتي للنثر، للاهتمام بالسرد والبحث فيه وحوله.
* * * *
* ولكنك إلى جانب ممارستك للكتابة السردية، تسلطين بقعة الضوء على منجز شعراء من أميركا اللاتينية من الجيل الثاني أو الثالث لأسر تعود بأصولها إلى الثقافة العربية. كما لو أنك تعودين لاهتمامك الاول بالمهجر العربي وإن من مدخل جديد. حدثينا عن رؤيتك لهذا “المهجر” الآخر.. عن معنى تنقيبك في الذاكرة والشعر؟
بدأت الاقتراب من شعر المهجر مع جبران خليل جبران. ولمعرفة جبران كان علي أن أعرف لبنان. كان ما كان وقضى فكان!! حين وصولي إلى لبنان وقفت مذهولة من شدة العجب الفتنة. كذلك لمعرفة جبران خليل جبران لابد من معرفة ذلك المهجر.. كان ما كان وقضى فكان!! سافرت إلى مهجر جبران لأتعرف على جبران.
على التوالي قادني توق لآخر، وهكذا دواليك في رحلة البحث ومحاولة التقاط المعنى. في حقيقة الأمر ساعدني على ذلك حلمي في أن أجول الدنيا. وكوني مستعربة سهل لي أن يكون لتجوالي هذا محتوى وعمقاً معرفيا. حتى أنني أحاول باستمرار أن ابحث عن مشاريع بحثية متعالقة مع السفر المعرفي، منعتقة بذلك من محض ذهنية المعرفة المكتبية التي تولي ظهرها لسياق زمان ومكان المادة البحثية.
بالوصول لهذه النقطة أود أن أبوح بأمر. ذلك أن ما هو شخصي مشتبك بالجانب العملي المهني في حياتي. على سبيل المثال تعززت علاقتي بالمتوسط كانسانة ومستعربة في مصر، إلا انني لاحقا بدأت بزيارات ايطاليا لاسباب مباشرة مهنية كأستاذة مساعدة، إلا أن السبب الحقيقي هو مروري بأزمة نفسية بسبب الحروب المتتابعة منذ الثمانينات في العالم العربي، وبدأت أرى العالم الذي أكن له الحب ينهار بفعل هذه الحروب. وحينما كنت أقلب في الصور وأرى أن عراقيا يحارب كويتنا، عربيا يعتدي على عربي، بينما إداراة الولايات المتحدة تغذي المشهد القتالي. جعلني أمر بأزمة لم أعرفها في حياتي كلها. وكان علي البحث عن المعادل للعالم العربي الذي عشقته في بلدي وفي الثقافة العربية. وعليه برزت العناية بالثقافة العربية من منظار حوض المتوسط، وكانت ايطاليا عامل مساعد لي في أزمتي تلك وتوجيه مقاربتي للثقافة العربية من منظار ماهو متوسطي. بالطبع تابعت زيارة البلدان العربية ولكن ليس كما السابق. الآن مع المشهد المعاصر في العالم العربي المتشظي الذي يتقاسم العنف لا أود الانخرط بالحديث عن ألمي ولا عن الأزمة الجديدة التي تعتمرني، ولكن أشير إلى أن غيابي وانقطاعي عن زيارة البلدان العربية عوضته في البحث عن الثقافة العربية في المهجر، ومتابعة اهتمامي القديم بموضوع المهجر العربي.
وأخذت أتواصل مع جامعات أميركية لاتينية وكتاب يتحدرون من أسر عربية مما فتح أمامي السبيل لمتابعة موضوع المهجر وإن من وجهة جديدة ألا وهي مقاربة شعراء من أمركيا اللاتينية من أصول عربية، ودراسة خصوصيتهم ومنجزهم الإبداعي وسياقاته المختلفة. هكذا اشتبكت بفضاء ثقافي جديد من أصول عربية متضمن في ما يشكل La Hispanidad أي الثقافة الاسبانية بمعناها العام الذي يجمع اسبانيا وامريكا اللاتينية.
من كل ماتقدم، أعود وأجمل أن سفرياتي إلى امريكا اللاتينية مكنتني من نشر أشرعتي والابحار في كتابة السرد الابداعي من جهة وتقديم دراسات حول الشعراء الاميركيين اللاتينيين من جذور عربية، إضافة إلى أنه مكنني من إعادة التأمل والنظر النقدي في ثقافة بلدي اسبانيا وعلاقتها مع ما هو عربي من جهة، وأمريكي لاتيني من جهة أخرى. بمعنى الالتزام والوفاء للتقاطعات الثقافية بين ماهو عربي واسباني وأميركي لاتيني. وأعتقد أن كل مثقف متخصص بالأدب الاسباني أو الأدب المهجري العربي يجب عليه التعرف على أمريكا اللاتينية، الأمر نفسه لابد من قوله فيما يخص المستعرب، أو أستاذ الادب العربي في اسبانيا، أي أنه يجب عليه معرفة البلدان العربية.
هكذا تنقلت بين مختلف بلدان أمريكا اللاتينية أقتفي أثر الأدباء والشعراء من جذور عربية في كل من تشيلي والأرجنتين والأورغواي والمكسيك من بين بلدان أخر.. ودعيت لالقاء محاضرات في مدن عدة.
الهجرة في كل بلد من بلدان أميركا اللاتينية تختلف عن جارتها، ففي تشيلي الجذور الفلسطينية هي الأكثر حضورا، ويعرفون أنفسهم على أنهم تشيليون من أصل فلسطيني أكثر من عربي فلسطيني. في الأرجنين هم غالبا من أصول لبنانية أو سورية، ففي توكومان على سبيل المثال هناك مركز ثقافي اسمه “مركر لبناني وسوري” والتفريق واضح تماما بين اللبناني والسوري رغم أن الهجرة تمت في مرحلة لم يكن فيها فارق واضح بين مصطلحات “القومية” و”الوطنية”. وفي المكسيك هناك واقع مهجري مختلف فغالبية المهاجرين من أصول عربية يعودون إلى الجذور اللبنانية، والهجرة إلى المكسيك لم تتوقف بسبب ظروف البلد الأم، أي لبنان، وحاليا هناك لبنانيون مسيحيون كما مسلمون. والحديث عن هذه المكونات الاجتماعية في كل بلد هو شديد التعقيد، وتتعشق به عوامل مختلفة تتدخل فيها الكيفية التي تصوغ بها الجماعة انتماؤها في المجتمع الجديد، وتتدخل في ذلك عوامل موروثة ومحمولة من البلد الأصل في سياق تاريخي محدد، وأخرى تدرج في كيانها بالاندماح في بلد المهجر. فالمكسيون من أصول لبنانية لديهم طبائع اجتماعية خاصة، فالطبقات العليا تضع لنفسها حاجزاً يفصلها عن بقية مكونات المجتمع، حتى أنني لم أقدر أن على العمل أو إعطاء محاضرات في “المركز الثقافي اللبناني” الخاص بهم في المكسيك، وانتابني الاحساس بأنه نادي منغلق على أصحابه.
بكل الأحوال، نستطيع التوسع في الحديث عن حال المهجر الراهن، ورؤية أهله للثقافة العربية وللأندلس في تاريخ اسبانياً، وما أطلق عليه اسم “شعراء مابعد المهجر” في وقت لاحق.
(يتبع)