جيل دولوز، فيلسوف فرنسي، وكاتب في عدة حقول مثل الأدب والفن و التحليل النفسي
أريد ان اعرضَ خمس قضايا تخصّ التحليل النفسي . القضية الأولى هي التالية:
ان التحليل النفسي اليوم يمثّل مخاطرةً سياسيةً خاصة به، وتمتاز عن المخاطر المتضمنة في المشفى العقلي القديم [الّذي] يمثّل حيّزًا موضعيًا للإنغلاق؛ على الضد من ذلك، يشتغل التحليل النفسي في الهواء الطلق. للتحليل النفسي بشكلٍ أو بآخر وضعُ التاجر في المجتمع الاقطاعي بحسب ماركس: الّذي يعمل في المنافذ الحرّة للمجتمع، ليس فقط على مستوى الدكان الخاص، بل على مستوى المدارس، المؤسسات والقطاعات الخ. هذا الاشتغال يضعنا في موقعٍ فريد بالعلاقة مع المؤسسة التحليلية النفسية.
السؤال هو: في ايّ موضعٍ، وتحت ايّ ظروف، ولصالح ايّ أحداث، يمكن ان يحصل انتاجٌ للاوعي؟ بإنتاج اللاوعي نفهمُ بالتحديد الشيء نفسه عن انتاج الرغبة في حقلٍ اجتماعي تاريخي، أو تشكّل ملفوظ و تلفّظات من نوعٍ جديد.
قضيتي الثانية، ان التحليل النفسي آلةٌ تامة الصنع، مكوّنة مسبقًا من أجل اعاقة الناس عن الكلام، اي عن انتاج ملفوظات تنتمي اليهم والى المجموعات التي يألفونها. منذ اللحظة التي نخضع فيها للتحليل، يتراءى لنا اننا نتكلم. و لكن حين ننطلق بالكلام فإن الآلة التحليلية بأكملها سوف تعمل كي تلغي شروط كل تلفّظ فعلي. ومهما يكن ما نتفوّه به سوف يسقط في شباك بابٍ دوّارٍ و آلةٍ تأويلية، ولن يتمكّن المريض ابدًا من الوصول الى ما قاله حقًا.
ان الرغبة أو الهذيان (وهما بالعمق الشيء نفسه)، الرغبة-الهذيان بطبيعتها استثمارٌ ليبيديّ لكل الحقل التاريخي، لكل الحقل الاجتماعي. ما نهذيه هي الطبقات الاجتماعية، الشعوب، الاعراق، الجماهير والجموع. ولكن يحصل نوعٌ من التكسير من جانب التحليل النفسي الّذي يعدُّ شيفرةً موجودة مسبقةً. هذه الشيفرة تشكلّت من خلال أوديب، الخصي والرواية العائلية؛ وان المضمون الأكثر سرّيةً للهذيان، اي ذاك المشتقّ من الحقل التاريخي والاجتماعي يتم سحقه بحيث ان ايّ ملفوظ هذياني، يستوطن اللاوعي، لن يستطع المرور عبر الآلة التحليلية.
نرى ان الفصاميّ يجب صناعته، ليس مع العائلة، ليس مع والديه، ولكن مع الشعوب، والجماعات والقبائل. نعتبر ان اللاوعي ليس قضية جيلٍ أو جينيولوجيا عائلية، ولكن قضية تجمعات عالمية، وان هذا ما يتم الغاؤه بأكمله عبر الآلة التحليلية. لن اذكر سوى مثالين:
المثل الأول الشهير هو مثل الرئيس شريبير حيث يحيل الهذيان بأكمله الى الاعراق، التاريخ، و الحروب. لا يأخذ فرويد ذلك بعين الاعتبار ويختزل هذا الهذيان الى العلاقات مع الأب. المثل الآخر، مثلُ الرجل ذي الذئاب؛ حين يحلم هذا الأخير بستة أو سبعة ذئاب، اي بما هو بالتعريف قطيع [ذئاب]، اي شكلٍ من اشكال المجموعات، فإن فرويد لا يفكّر سوى في اختزال هذه التعددية، في ان يسوقها الى ذئبٍ وحيد والّذي يصبح بالقوة الأب. لقد تمّ سحق كل نطقٍ جماعيّ ليبيديّ يخصّ هذيان الرجل ذي الذئاب: لم يستطع هذا الرجل ان يمسك أو يصيغ ايًّا من التلفظات التي هي الأعمق بالنسبة اليه.
قضيتي الثالثة هي انه وإن كان التحليل النفسي يسلك هنا، فهذا لأنه يرتّبُ آلة تأويلٍ اوتوماتيكية. ويمكن تلخيص آلة التأويل على الشكل الآتي: مهما قلنا، فإن ما نقوله يقول [يعني] شيئًا آخرَ.
لن نستطع بشكلٍ كافٍ شجب الأضرار الناتجة عن هذه الآلة. حين يشرحون لي ان ما اقوله يعني شيئًا آخرَ غير ما اقوله، وهنا يحصل انشطارٌ للأنا كذات. هذا الانشطارٌ معلومٌ جدًا: ما اقوله يحيل الى أنا من حيث هي ذات ملفوظٍ، ما أقوله يفيد ذاتٍ (في علاقاتي مع المحللّ) على انها ذات تلفّظٍ. يتصوَّر المحلل هذا الانشطار نفسه على انه اساسُ كل إخصاءٍ وما يعيق كل إنتاجٍ للملفوظات. على سبيل المثال، وفي بعض المدارس الخاصة بالاطفال ذوي صعوبات، أكانت تخلّفًا في الشخصية أو اضطرابًا عقليًا، فإن الطفل، خلال نشاطاته أو ألعابه، يرتبط بمربّيه الخاص، ويؤخذ هنا على انه ذاتُ تلفّظٍ؛ ومهما قام به في المجموعة على مستوى نشاطه وأفعاله، فإنه يُحال الى مرجعية عليا، مرجعية طبيب الامراض العقلية الّذي يحتكر تأويله، بشكلٍ ينشطرُ فيه الطفل ولا يتمكن من تمرير ايّ ملفوظٍ يهمّه فعليًا في علاقاته أو مع مجموعته. سوف يحوز الانطباع بأنه يتكلّم، ولكنّه لن يستطع التفوّه ولو بكلمة واحدة عمّا يشعر به حقيقةً.
وفي الحقيقة، فإن ما يولّد ملفوظات في كلّ منّا، ليس نحن كذوات، بل امرٌ آخرٌ هو التعدديات، الجماهير والمجموعات، الشعوب والقبائل، الارتصافات الجماعية التي تخترقنا، التي تكون بداخلنا والتي لا نعرفها لأنها تشكّل جزءً من لاوعينا ذاته.
ان عملَ تحليل فعليّ، تحليل مضاد للتحليل النفسيّ هو في ان يكتشف هذه الارتصافات الجماعية للتلفّظات، هذه السلاسل الجماعية، هذه الشعوب التي بداخلنا والتي تجعلنا نتكلّم، وانطلاقًا منها تجعلنا ننتج ملفوظاتٍ. هذا بمعنى اننا نعارض كل نشاطٍ تأويلي تحليلي نفسيّ بحقل تجريبٍ، حقل تجريبٍ شخصيّ أو في مجموعةٍ.
قضيتي الرابعة […] هي ان التحليل النفسي يقتضي علاقةً لقوى جدًا محددة. […] علاقة القوى هذه تمرّ عبر العَقِد، [اي] ذلك الشكل البرجوازي الليبرالي الخطير تحديدًا. ويقود [ العقد] الى “النقلةِ”، و يبلغ اقصى مداه في صمتِ المحلل؛ ذلك ان الصمت هذا هو أسوأ التأويلات وأخطرها. يمرّ التحليل النفسي بقليلٍ من الملفوظات الجماعية وهي تلك الخاصة بالرأسمالية نفسها، والّتي تتعلّق بالإخصاء، والنقص والعائلة؛ وهذا القليل من الملفوظات الجماعية الخاصّ بالرأسمالية يميل التحليل النفسي الى ترحيله عبر الملفوظات الفردية للمرضى انفسهم.
نرى بأن ما يلزم القيام به هو العكس تمامًا، اي الانطلاق من الملفوظات الفردية الفعلية، واستحضار الشروط لكل فرد، الشروط المادية لإنتاج ملفوظاتهم الفردية، من أجل اكتشاف الارتصافات الجماعية الفعلية التي تولّدهم.
قضيتي الأخير هي، وفي ما يخصّنا، فإننا لا نتمى الانخراط بأي محاولة تندرج في المنظور الفرويدو-ماركسي. وذلك لسببين:
أوّلهما انه وفي نهاية المطاف فإن كل محاولةٍ فرويدو-ماركسية تعمل على شكل عودةٍ الى الاصول، اي الى النصوص المقدّسة، نصوص فرويد ونصوص ماركس. نقطة انطلاقنا يجب ان تكون مختلفة كليًّا: لا نتوجّه الى نصوصٍ مقدّسةٍ يلزمها، الى هذا الحدّ أو ذاك، تأويلاً، ولكن التوجّه الى وضعيةٍ ما كما هي، وضعية الجهاز البيروقراطيّ في الماركسية، والجهاز البيروقراطي في التحليل النفسي ، في محاولةٍ للاطاحة بهذين الجهازين.
ان الماركسية و التحليل النفسي ، وبأسلوبين مختلفين، يتحدثان بإسمِ صنفٍ من الذاكرة، من ثقافة الذاكرة، وايضًا، وبأسلوبين مختلفين، بإسم متطلبات النمو. نعتقد، وبالعكس، بوجوب التكلّم بإسم القوى الفعّالة للنسيان، بلسان ما هو لكلِّ واحدٍ نموّه التحتيّ الخاص، ما يسمّيه ديفيد كووبر[1]العالم الثالث الحميم لكلٍّ منّا.
السبب الثاني الّذي يميّزنا عن كل محاولة فرويدو-ماركسية هو ان تلك المحاولات تفترض خصوصًا مصالحةً بين اقتصادين: الاقتصاد السياسيّ والاقتصاد الليبيديّ أو الرغبوي. نجد عند رايش[2]الموقف الثنائي هذا وتلك المحاولة للمصالحة.
بالقابل، ترى وجهة نظرنا ان لا وجود سوى لإقتصادٍ واحدٍ وان قضية التحليل الفعلي المضاد للتحليل النفسيّ تكمن في اظهار كيف ان الرغبة اللاواعية تستثمر انماط ذلك الاقتصاد. انه الاقتصاد ذاته الّذي هو في الوقت عينه اقتصاد سياسيّ واقتصاد رغبوي.
نقاش بعد مداخلة دولوز
يطرح مشاركٌ في الندوة سؤالاً حول الذاكرة في [المحاولة] الفرويدو-ماركسية وحول القوة الاثباتية [الايجابية] للنسيان
دولوز: بالرغم من دعوتي الى عدم الرجوع الى النصوص إلاّ انّه يخطر على بالي نصّين جميلين لنيتشه يميّزان بين النسيان كقوة عطالة والنسيان كقوّة فعّالة. ان النسيان كقوّة فعّالة هو القدرة [الاقتدار] على ان يصفّيَ حسابه الخاص مع شيءٍ ما. في هذه الحالة يتعارض ذلك مع اجترار الماضي الّذي يرتبط بنا، مع ما نعيد ربطه بهذا الماضي، حتّى من أجل تطويره، حتى من أجل الوصول به الى ابعد مدى. إن ميّزنا بين شكلين من النسيان حيث الواحد منهما قوة عطالةٍ منفعلة، والآخر قوّة نسيان فعّالة، يصبح من البديهي ان النسيان الثوري، النسيان الّذي تكلّمت عنه هو النسيان الثاني: هو الذي يكوّن نشاطًا حقيقيًا أو ما يمكنه ان يشكّل جزءً من النشاطات السياسية الفعلية. وعلى هذا النمط عينه يقوم الثوريّ بفضل النسيان بقطيعةٍ ويستحيل ان يعترضه ذلك الاعتراض الّذي يُردد على مسمعه بشكل متكرر :” لقد حصل هذا في السابق، ومن ثمَّ سوف يحصل دائمًا”.
يمكن التقريب بين النسيان الثوري وبين موضوعٍ آخر متواتر، هو الخاص بالهرب الفعّال الّذي يتعارض بحد ذاته مع هرب سلبيّ [منفعلٍ] ينتمي الى جنسٍ آخر تمامًا.حين يقول جاكسون[3]وهو في سجنه:” نعم، يمكن لي ان أهربَ، ولكن طوال هربي، سوف أبحث عن سلاحٍ”؛ هذا هو الهرب الثوري المناقض لأصناف الهرب الأخرى والتي هي من طبيعة رأسمالية أو شخصية..الخ.
يطلبُ مشاركٌ توضيحًا حول مقولة النسيان بخصوص العلاقة بين الماركسية والفرويدية.
دولوز: منذ البداية ظهر في الماركسية نوعٌ من ثقافة ذاكرةٍ؛ حتى ان النشاط الثوري يلزمه ان ينبثق من رسملة ذاكرة التشكيلات الاجتماعية. هذا، إن أمكن القول، هو الجانب الهيغيلي الّذي يحتفظ به ماركس، بما فيه في رأس المال. في التحليل النفسي ، تبدو ثقافة الذاكرة واضحة جدًا. من ناحية أخرى، ان الماركسية كما التحليل النفسي يخترقها نوعٌ من ايديولوجيا النموّ: نموٌ اجتماعي أو حتى نمو في الانتاج من وجهة نظر ماركسية.
سابقًا، و مثلاً في بعض اشكال النضال العمّالي في القرن التاسع عشر والّتي سحقتها الماركسية في بداياتها ( ولا افكّر فقط باليوتوبيات)، كان النداء الى النضال يجري وهو ينادي بضرورة النسيان، من خلال قوّة نسيان فعّالة: [ما معناه] غياب كلّ ثقافة استذكار، وكلّ ثقافة ماضٍ، ولكن [وجود] دعوة الى النسيان كشرطٍ للتجريب. اليوم، وعند بعض المجموعات الاميركية ، لا يتوجّه الاهتمام ابدًا الى عودةٍ ما الى فرويد ولا الى ماركس؛ هنا ايضًا نجد ثقافة نسيان كشرطٍ لكل تجريب جديد. ان استخدام النسيان كقوّة فعّالة، من اجل اعادة توزيع جديدة، من اجل الخروج من الثقل الجامعي الّذي طبع بشكلٍ عميق الفرويدو-ماركسية، هو شيءٌ عظيم الاهمية على صعيد الممارسة. وفي حين تحدثت الثقافة البرجوازية دائمًا من داخل نموّها وبإسم نموّها الذي تدعونا الى اتّباعه واطالة امده، فإن الثقافة-المضادة تكتشف اليوم الفكرة [التي تفيد] انه إن امتلكنا شيئًا ما لنقوله، لا يكون من ناحية نموّنا، ايًّا كان، ولكن من ناحية وانطلاقًا من تخلّفنا [نموّنا المتأخّر].
لا تكمن الثورة ابدًا في فعل الانخراط في حركة النمو ورسملة الذاكرة، بل في الحفاظ على قوّة النسيان وقوّة التخلّف في النمو كقوى ثورية كما ينبغي.
يشير أحدُ المشاركين (المدعو ج. جرفيس) الى اختلاف في المحتوى بالعلاقة مع الآنتي-أوديب،مثلاً اختفاء مقولة “التحليل الفصامي” لصالح مقولة “التحليل المضاد للتحليل النفسي”، ويلاحظ تحوّلاً محسوسًا: لم يعد الامر متعلقًا بنقد أوديب بل التحليل النفسي . ما هو سبب هذا التحوّل؟
دولوز: جرفيس معه كل الحقّ! لسنا – غاتاري وأنا- متشبثيْن جدًا بملاحقة أو حتى بتماسك ما نكتبه! نتمى العكس، نرجو ان تقطع تكملة الآنتي أوديب مع ما يسبقها، مع الجزء الأول، ومن ثمّ، هناك امورٌ لن تجد لها في الجزء الأول ايّ اهمية. ما اريد قوله اننا لا ننتسب الى هؤلاء المؤلفين الّذين يتصوّرون انّ ما يكتبونه كمؤلَّف يجب ان يكون منسجمًا؛ إن غيّرنا، فهذا جيّد، إذ لا يجب ان تتم محاسبتنا على الماضي.
ولكن جرفيس تحدّث عن أمرين مهمّين: حاليًا لا نأخذ كثيرًا بعين الاعتبار أوديب بقدر ما نفعل ذلك بخصوص المؤسسة، [ اي] آلة التحليل النفسي في مجموعها. يبدو جليًا ان الآلة التحليلية النفسية تتضمن أبعادًا ابعد من أوديب، وهناك من ثمَّ اسبابٌ تجعل من هذا الأخير مسألةً غير جوهرية. ويضيف جرفيس ان اتجاه عملنا الحالي هو سياسي واننا تخلّينا بين ليلةٍ وضحاها عن استخدام مقولة التحليل الفصامي. اريد التكلّم عن اشياء أكثر بهذا الخصوص، بشكلٍ بسيط ما أمكن ذلك.
حين يُطلق مصطلحٌ ما، وهو يحوز حدًا أدنى من النجاح، كما سبق وحصل بالنسبة لـ”الآلات الراغبة” أو لـ”التحليل الفصامي”، فإمّا أن نستأنفه من جديد وهو ما قد يدعو للأسف! و [لكنه] يكون بالفعل إنعاشًا [له]، أو بالأحرى نرفضه ومن ثمَّ نبحث عن غيره لكي نستبدله تمامًا. هناك كلماتٌ شعرنا- غاتاري وأنا- ان التخلّي عن اعادة استخدامها بدا ملحًّا: التحليل الفصامي، الآلة الراغبة، انه أمرٌ قبيح إذ ان العودة الى استعمالها معناه اننا قد وقعنا في الفخ. لا نعرف بشكل كافٍ، ولا نؤمن بكلماتٍ ما: حين نستخدم كلمةً، هذا معناه اننا نريد ان نقول: إن لم تعجبكم هذه الكلمة ابحثوا عن غيرها، فسوف نعيد ترتيب انفسنا دائمًا وأبدًا. ان الكلمات هي بدائل ممكنة الى ما لانهاية. أما بالنسبة الى محتوى ما نقوم به، فيبدو صحيحًا ان الجزء الأولى من الـ آنتي-أوديبقام على انشاء اجناس من الثنائيات. كان هناك، علي سبيل المثل، ثنائية بين العُظام (البارانويا) وبين الفصام، واعتقدنا اننا وجدنا ثنائية أنظمة بين النظام العُظامي والنظام الفصامي. أو بالأحرى تلك الثنائية التي حاولنا بناءها بين الجزيئي وبين الكتلوي. توجّب تخطّي ذلك، ولا ادّعي اننا تخطيناه، ولكنّ الأمر لم يعد يثير اهتمامنا. حاليًا، ما حاولنا ان نبيّنه هو كيف ان الواحد يرتكز على الثاني، ويرتبط به. اي ، وفي خاتمة المطاف، كيف ان الهروب الصغيرة للفصام تنتظم على مستوى المجموعات العُظامية الكبيرة. نجد احيانًا أمثلة باغتة في السياسة. فلنأخذ مثلاً قريبًا جدًا بخصوص ما يحدث في الولايات المتحدة الاميركية: هناك حرب فييتنام، حربٌ عظمى، وهي [تشير] الى تشغيل آلة عُظامية ضخمة، التركيب الشهير العسكري – الاقتصادي، نظام كامل من الدلالات، السياسية والاقتصادية. الكل يقول “برافو!” بإستثناء قلّة قليلة، كل البلاد قالت “هذا جيّد!”، وهذا ما لم يجلب العار على أحد. لم يجلب العار على أحدٍ سوى على قلّة من المشجوبين بإعتبارهم يساريين. ومن ثمّ، هاكم ما حصل، أمرٌ بسيط وليس حقيقةً بالكبير، تاريخٌ من التجسس، من السرقة، تاريخُ رجال الشرطة والمحللين النفسيين بين حزبٍ اميركي وآخر. هناك هروب. وكل الشجعان الّذين قبلوا جيدًا بالحرب في فييتنام، الّذين قبلوا بتلك الآلة العُظامية الضخمة بدأوا بالكلام: “ان رئيس الولايات المتحدة لا يحترم قواعد اللعبة”. انغرس خطُ هرَبٍ فصامي فوق النسق العُظامي الضخم، وفقدت الصحف موقعها في القمة أو تراءى انها بدأت تفقده. […] ما يثير اهتمامنا اليوم هي خطوط الهرب داخل الأنساق [السيستمات]، والشروط التي فيها تشكّل أو تحثّ هذه الخطوط قوى ثورية، أو تبقى كامنة. ان الاحتمالات الثورية لا تتوقف على تناقضات السيستم الرأسمالي، ولكن على حركات الهرب، اللامتوقعة ابدًا ،المتجددة دومًا، و الّتي تقوّضه. لقد عابوا علينا، حين استعملنا كلمة التحليل الفصامي، اننا خلطنا بين الفصامي وبين الثوريّ؛ في حين اننا كنّا قد تنّبهنا كثيرًا لكي نفرّق بينهما.
ان سيستامًا كالرأسمالية يهرب من كلّ الجهات، تهرب الرأسمالية ومن ثمّ تتصلّب وتصنع عُقُدًا، وتُنشأ روابطَ كي تمنع [خطوط] الهروب من أن تصبح كثيرة. فضيحةٌ من هنا، هجرة رأسمال من هناك…الخ. وهناك هروبٌ من نوعٍ آخر: الجماعات، المهمّشون، اصحاب الجنح، هناك المدمنون، هروب المدمنين على المخدرات، هناك هروب من كل صنفٍ ونوع، هروب فصاميّة، وهناك من يهرب بشكلٍ مختلف جدًا.
إن قضيتنا (ونحن لسنا بهذا الغباء كي نظنّ انه يكفي [الهرب] كي تحدث ثورة) هي: في سيستام معطىً ويهرب من كل حدب وصوب، وفي الوقت عينه لا يكفّ عن كبح، وقمع أو دمج الهروب بكافة الوسائل، كيف يمكن لهذه الهروب ألاّ تكون ببساطة محاولات فردية أو مجموعات صغيرة، ولكن أن تشكِّلَ فعلاً آلةً ثورية؟ ولأي سبب، حتى يومنا هذا، حصلت الثورات بشكلٍ سيء؟
لا وجود لثورة من دون آلة حرب مركزية، ممركزة؛ نحن لا نفتعلُ شجارًا، لا نتعارك بالأيدي، [بل] يلزم آلة حرب تنظّم وتوحّد. ولكن حتى اللحظة لم تنوجد في الحقل الثوري آلةٌ لم تعيد توليدَ، وعلى طريقتها الخاصة، شيئًا آخرَ مختلفًا، عنينا به جهاز دولة، عضو القمع. هاكم مشكلة الثورة: كيف يمكن لآلة حرب أن تحمل في الآن عينه كل خطوط الهروب في السيستام الراهن من دون أن تسحقها وتصفّيها ومن ثم تعيد انتاج جهاز دولة؟
بينما يعتبر جرفيس ان خطابنا يصبح اكثر فأكثر سياسيًا، أرى كلامه صحيحًا، لأننا بقدر ما شددنا، في القسم الأول من عملنا، على الثنائيات الكبيرة، بقدر ما نبحث اليوم عن النمط الجديد للتوحيد حيث، مثلاً، يمكن للخطاب الفصامي، للخطاب الادماني، المنحرف، المثليّ، لكل الخطابات المهمّشة أن تبقى على قيد الحياة، وحيث يمكن لكل خطوط الهروب ولكل تلك الخطابات ان تترسّخ فوق آلة حرب لا تعيد انتاج جهاز دولة أو جهاز حزب. لهذا السبب لم نشأ التحدّث عن التحليل الفصامي لأن ذلك عائدٌ الى الدفاع عن نمطٍ محدد من الهرب، [وهو] الهرب الفصامي.
ما يهمّنا هو صنفٌ من الربط يقودنا الى المسألة السياسية المباشرة، وهذه هي تقريبًا بالنسبة لنا:
حتى اللحظة، تكوّنت الاحزاب الثورية على شكل توليفات مصالح بدل ان تعمل كمحلِّلات لرغبات الجماهير والافراد. أو بالاحرى، ما معناه ايضًا: ان الاحزاب الثورية تشكّلت كأجنّةِ أجهزةِ دولة بدل ان تشكّل آلات حرب يتعذّر اختزالها الى هذه الاجهزة.