إن الحديث عن مسألة الإبداع الفني الأدبي في ميزان التحليل النفسي يحيلنا، أولا، إلى الحديث عن الإبداع باعتباره فعلا انسانيا، وثانيا عن التحليل النفسي باعتباره منهجا تناول بالدراسة التحليلية موضوع الإبداع وتداعياته. فالإبداع الفني يتولد من منطلقات نفسية ومعاناة محضة يعيشها المبدع، تعكس الحالة النفسية المضطربة، وترصد أهم العناصر الإبداعية المساهمة في ذلك.
لقد عرف التحليل النفسي باعتباره نظرية سيكولوجية وتقنية شارحة وتطبيقا علاجيا مجموعة من المراحل والتطورات التاريخية، قبل أن يصبح منهجا دراسيا قائما بذاته، سواء على مستوى تطور علم النفس ككل، أم على مستوى الجهاز المفاهيمي، أم على مستوى المدارس والاتجاهات المؤسسة لمنهج التحليل النفسي.
إن البذرة الأولى لهذا المنهج لاحت مع العالم النفساني فرويد من خلال كتابه "تفسير الأحلام". وكانت نظريته القائمة على علم النفس الفردي تهتم بجانب اللاشعور/ اللاوعي الفردي مركزة على عقدة أوديب وتداعياتها، ومفهوم التسامي وتمظهره على أرض الواقع كوسيلة للتنفيس عن الحاجة النفسية. فالإبداع حسب فرويد مرتبط بضغط عقدة أوديب على الحياة النفسية الخاصة من جهة، وضغط الحياة المجتمعية والمحيط الخارجي من جهة ثانية، فيترتب عن ذلك صراع بين الهو (خزان الليبيدو)، وبين الأنا الأعلى الممثل للقيم والأخلاق العامة، فيعمل الأنا على خلق التوازن والاستقرار النفسيين والمتجليين في التسامي.
وفي الاتجاه نفسه، أي علم النفس الفردي، اعتبر ألفريد أدلير وهو أحد تلامذة فرويد النجباء، أن اللاشعور الفردي ليست له ملامح مشتركة، وإنما محكوم بالسيكولوجية الفردية التي تقوم على قوتين أساسيتين: قوة الشعور بالدونية التي تتولد عند الشخص منذ طفولته، فتنمو وتكبر معه عبر مختلف مراحل نموه. وقوة اثبات الذات بغية تعويض النقص المتراكم عند ذلك الشخص. وعلى هذا الأساس، يعتبر أدلير الإبداع الفني بمثابة إكمال للنقص الحاصل في شخصية الأديب/ الفنان، وضمان لتوازن واستقرار نفسيته المضطربة.
ولعل أبرز مثال يمكن أن نضربه في هذا الباب، هو حالة الإحساس بالنقص وبالدونية التي كان يتخبط فيها أحد الشعراء الأسياد، ويتعلق الأمر بعنترة بن شداد. فهذا الشاعر بفضل بطولاته وشجاعته وقوته تمكن من فرض مكانته بين قومه وأفراد عشيرته، بل والاعتراف به كسيد من أسياد عبس. ولكنه، مع ذلك، لم يتخلص من مجموعة من النزعات الفردية التي شكلت له محفزا ودافعا للإبداع. فخوفه من فقدان الحبيبة، وكراهيته للمعاملة السيئة التي لقيها من أقرب الناس إليه (والده)، بسبب لون بشرته وأنه من رحم أمة، وغضبه من أقرانه الذين نافسوه حب عبلة؛ كلها أمور ولدت عنده نزعة العدوانية التي جعلت منه فارسا فتاكا بالعدو. إن شعور عنترة بالنقص والدونية جراء الرق والعبودية شكل دافعا قويا للإبداع الشعري، وذلك من أجل الوصول والفوز بقلب محبوبته عبلة، ومن أجل إنشاد الحرية المفقودة والتخلص من قيود الرق والعبودية. كما أن هذا الشعور، أظهر عنده غريزة الإقدام التي كانت غايتها واضحة تتجلى في السعي إلى الحصول على مكانة مرموقة في قبيلته. وقد شغل هذا الهدف عنترة طيلة حياته، ورغم أنه حققه في نهاية الأمر، باعتراف والده به وجعله من أشراف وأسياد قبيلته، وفوزه بمحبوبته وابنة عمه عبلة، إلا أنه ظل ينشد الحرية والتخلص من قيود العبودية، من خلال أشعاره التي تغنى فيها بعشقه وهيامه، بقوته وشجاعته؛ مما يدل على أن حالته النفسية ألفت الاضطراب والتوتر وعدم الاتزان.
وبعودتنا إلى المناهج النفسية التي تناولت الإبداع الفني بالفحص والتحليل، نذكر تلميذا آخر من تلامذة فرويد ويتعلق الأمر ب كارل غوستاف يونغ الذي تبنى نظرية علم النفس الجماعي/ الجمعي على عكس أستاذه. فالإبداع عند يونغ مقترن باللاوعي الجمعي الذي هو موروث جماعي مشكل من ترسبات نفسية وخصائص بيولوجية ونماذج عليا، أساطير وخرافات، وصور بدائية. هذا الموروث ينتقل من جيل إلى جيل في شكل تمظهرات، حيث يعمل المبدع، حسب يونغ، بواسطة الإسقاط وهو كالتسامي الفرويدي، على تحويل تلك الترسبات والمشاهد الغريبة التي تتبادر إلى ذهنه من أعماقه اللاشعورية (اللاشعور الجمعي) وبلورتها على أرض الواقع في شكل موضوعات خارجية وعمل فني أدبي، قابل للتأمل من لدن الغير. فهو يعتبر تمظهرات الموروث الجمعي على أرض الواقع بمثابة أحلام يقظة، تتمثل في الإلهام والحدس المقترنين بالمبدعين. حيث الإلهام، حسب كلاي، يدل على لحظات الإبداع الفجائية التي تنتابنا مصحوبة بأزمات انفعالية، وتبدو بعيدة عن العمليات العادية للعقل والشعور، وعن حكم الإرادة وسيطرتها؛ فهاته اللحظات تكون غير متوقعة، ومجيئها غير مرهون بدعائنا، كالنوم والأحلام.
أما الحدس، فهو المعرفة الفجائية التي ليس لها مقدمات من تفكير وتروٍ. وينقسم إلى حدس بسيط خاص بالقضايا البديهية لعموم الناس، إذ أنه لا يقوم على أي نوع من الإعداد والتأهب. وحدس راقٍ خاص بالعباقرة، ناتج عن آثار التفكير الشعوري، ومشيد على التجربة، فهو يأتينا بعد عناء سابق في إيجاد الحل.
ويمكن تشبيه هذا الطرح بما جاء به برغسون الذي اعتبر الانفعال جوهر الإبداع، على أساس أن الانفعال هزة عاطفية تمس الحياة النفسية. وقد قسم هذا الانفعال إلى انفعال سطحي يوصف بأنه تحت عقلي أي أن العاطفة أو الأفكار المتولدة عنه تكون تحت تصرف العقل، فهو من ينظمها ويؤطرها. وانفعال عميق يوصف بأنه فوق عقلي لا طاقة للعقل في السيطرة عليه والتحكم فيه، وهذا هو جوهر الإبداع ولبه في العلم أو الفن أو في الحياة الاجتماعية.
وإذا كان الإبداع الفني هو نتاج التجربة والمعاناة التي يعيشها المبدع، إذ أنه ينطلق من حالة نفسية مضطربة ويسعى من خلال إبداعه إلى خلق التوازن وتحقيق الاستقرار النفسي، فإن الإبداع، بشكل عام، يأتي استجابة لعناصر أساسية؛ واعية وغير واعية. فالعناصر الواعية يُتحكم فيها ويُخطط لها تماشيا مع نوعية الجنس الأدبي ومقتضياته، حيث إن الشاعر مثلا، عندما يستهل قصيدته باللائمة أو مقدمة غزلية، فإنه يفعل ذلك احتراما وتبعا لنهج باقي الشعراء الذين دأبوا على ابتداء قصائدهم بهذه الطريقة. أما العناصر غير الواعية، فهي التي ترتبط بلاوعي الشخص وحالته النفسية، وهذا ما يؤكده فرويد بأن الإبداعات الفكرية ناتجة بالأساس عن اللاوعي/اللاشعور المتجلي في الإلهام الجارف.
منير المقدم