شخصية الشاعرة الخنساء على أريكة التحليل النفسي
مسارات فبراير 4, 2017 مسارات أدبية اضف تعليق 33 زيارة
بقلم: يوسف عدنان *
هامش تقديمي:
لن ننكب في هذا المنجز التحليلي على دراسة مقومات الشعر الخنسائي، تاركين هذا الغرض إلى ذوي الإحساس الجمالي المرهف، بقدر ما سنلتمس من التحليل النفسي – كفن التأويل – شفاعة تكليم المكبوت الأنثوي، في مساعي الكشف من داخل قطاع الحرفيات في اللاوعي الثقافي العربي، عن مركبات العقد النفسية في شخصية الخنساء شاعرة الجاهلية والإسلام، والتي نلحظ سواء في حياتها أو إبداعها جهدا كادحا لمحاربة رغبة التدمير الذاتي ومازوشية الطبع، مع أقل ما يمكن استجلاءه من تصريف للنزوات (الغرائز) الشبقية. مما ألحّ علينا استدراج النّتاج الشعري للخنساء إلى معاينته معاينة تحليلية نفسية كمرآة للوجدان، للجسد، للمتخيل، للاشعوري. ومن ناحية أخرى نروم الوقوف على منابع الهوام الذي وجد مكتنهه مرة أخرى في الكلام، سواء أكان هذا الكلام منطوقا أم مرموزا في فضاءات متمايزة من الجسد، مع محاولة الإجابة عن أسئلة محيّرة وغير مطروحة من قبل تحوم حول تلك الجوانب الظّلية في شخصية الخنساء.
وقد نجد في هذه الدراسة النفسية التي وقع عليها الاختيار، أبعادا أكثر تعبيرية وتشويقا في ملامسة موضوع الاهتمام، وذلكم من حيث الانزياح عن المألوف و توتير متعمّد لثنائية المركز/الهامش، عبر انجاز تحليل نفساني لشخصية الشاعرة الأنثى، بدل إبقاء التحليل متمركزا على »النموذج القضيببي الذكوري « المحتكر للكلام والكلمة. بهذا يترجم هذا العمل مساهمة جد متواضعة منا، تصطف مع أبحاث المدرسة العربية في التحليل النفسي، التي أحرزت ولا تزال تقدما ملموسا في تشفير بنى اللاوعي الثقافي العربي – الإسلامي، مع تمكينها الباحثين في هذا المجال من آليات تحليلية نفيسة تنفض الغبار عن قطع غابرة ومنسية من التراث، من الذاكرة، من اللاوعي الفردي والجماعي، منكبّة على تفسير ما هو غائب ولامنقال لكن يظلّ محركا حيويا للصراعات النفسية الكتيمة.
وقد اخترنا لهذه الدراسة أربعة أقسام جاءت عنونتها وفقا للتبويب التالي:
I. لماذا الخنساء ؟
II. مأساة الخنساء ومتاهات النفس اللوامة
– السوداوية la mélancolie
– الهستيريا l’hystérie
– المقاومة la résistance
– الخصاء castration
– التسامي sublimation
III. شعر الخنساء بين الأثر والسلطة القضيبية
IV. الجنسانية الخنسائية منطقة عتماء
كلمة ختم
I. لماذا الخنساء ؟
تنبجس في سحيق تجربة الألم التي أخبرتها تماضر بنت عمر الملقوبة بالخنساء، هوية ضائعة، وتتمسرح أنوثة مخدوشة ومنكسرة، تنبعث من رماد، رافضة الفناء والانقضاء كما هو حال طائر العنقاء "الفينيق" الرامز في التحليل النفسي للميثولوجيا والأساطير، إلى الخصوبة، إلى الولادة المتجددة، إلى الأنثى المحتضنة في محيضها سرّ الحياة. وبعيدا عن أن يكون المراد من هذا التشبيه مجرد زخرفة بلاغية تنشد الغموض أو تمتحن ذكاء القارئ، فقد أظهرت الخنساء مناعة قصوى في التّشبث بالحياة، مغلّبة غريزة البقاء على غريزة التدمير، ومجابهة النكبات والفواجع التي ألمّت بها، بكلّ صلابة وعنفوان، رغم الانكسارات التي عرّضتها لاضطرابات نفسية متعدّدة، سنأتي على ذكرها وتحليل مركباتها العقديّة في القادم من البحث.
ويمكننا أن نبادر في تحليل شخصية الخنساء بدءا بتوجيه بعض الملاحظات بخصوص هذا الشأن. فلقد ارتهنت نفسيتها في مدارات حزينة تتقلّب فيها ثناياها بين ثنائية الحياة و الموت. فجدّة التحليل النفسي تكمن في رفع الستار عن هذا المعيش المتذكّر في أشعارها والمتمظهر في سلوكها وعلاقته العميقة بالانسحاب والغياب. ومن جهة أخرى بالحضور والرغبة العظامية في الخلوذ كرمز، كأيقونة، كمثال نموذجي أو أسطورة. وتستوقفنا في هذا الصدد ملاحظة هامة لا ينبغي أن تفوت على المحلل النفسي، وهي تلك المثلنة أو التماهي الذي تقيمه الخنساء مع ابنة الملك أوديب أونتيكوني، وكأن الرمز الأسطوري يرسم هنا جرح الوجود ويشكّل مشهد عائم بالعلامات تنضبّ في تقاسيمه فانتازيا أنثوية مترنّحة.
أما تلك القواسم المشتركة المعثور عليها بين الشخصيتين، فتشمل صفات الوفاء – الولاء – الإخلاص. هذا دون إغفال بعض الاختلافات التي تطبع سياقات الحديث عن »عقدة الأخوة « من نمط ثقافي لآخر. ففي حين تظلّ أونتيكوني مخلصة لأخيها بولينيس حين قررت دفنه وعصيان أوامر الملك كريون ولو كلفها هذا القرار الشجاع حياتها، نجد الخنساء تبدي مظهرا أكثر تعبير عن الولاء العائلي، وذلك عندما اختارت أن تعلن حدادا دائما على أخيها صخر المفقود. فقد أعدمت فونتازم الموت على المستوى البيولوجي، لتعيشه كحدث متكرر على المستوى النفسي. (الولاء العائلي هو مفهوم في الجينيالوجيا النفسية المراد به شرح كيفية الحداد على الأشخاص المفقودين، واسترجاع ذكراهم على نحو مرضي).
إن تشبّت الخنساء بالحزن والكمد والتفجع، وجعل من الحالات القصوى في إخبار الألم نمط في الانوجاد والعيش، هو ما خلّد المأساة وجعلها ذكرى تنقل صورة مرموزة لعرض عابر للأجيال. كما نستشفّ وفقا لمناهج استكشاف الأحلام والرموز، أن للطلّل واستحضار الأموات وبخاصّة البكاء، علاقة أسطورية (رمز – سحرية) مع الانبعاث والقيامة، بما يصدق منها على دموع الخنساء وأشعارها ذات النزع النيكروفيلي. وبذلك فإن الشاعر (ة) الجاهلي يصلّي، أو يقوم بعمل مقدس، أو يشارك الآلهة في عملية إحياء الخراب، كأنه يجتاف الألوهية، ويرغب في إحداث النشور. إن الشاعر يعيد إحياء القفار، يغوص في أعماق الرغبة بالخلود عند البشر، ينعش في نفسه الأطلال، أو يؤنفس ما هو رميم ورماد. فالعملية هنا أعمق من الوصف الميكانيكي المسطّح، وموغلة في أغوار الإنسان الذاتية واللاواعية. كما يسري التذكير بأن المعلّقة الجاهلية هي مرموزة دينية أو أسطورة تعبّر عن الخلق والتجديد، عن الانبعاث والنشور، عن رغبة البشر الدفينة في الخلود و اجتياف الألوهية. كأن الشعر الجاهلي يكرّر أصوله و ينابيعه المنغرسة في السحري والأسطوري والتّعبدي، وكأن الشاعر يخلق، يحيي، يكرر فعل الشاعر الأول الأكبر (راجع: اللاوعي الثقافي، علي زيعور،175/176).
II. مأساة الخنساء ومتاهات النفس اللّوامة
جاء على لسان المؤرخ والمفكر العربي ابن خلدون ذكر الخنساء، فقال في حقها: "إن شاعرتنا الخنساء، نشأت في بيت كان على أعلى ما يكون من الرقي، فهي بنت البيئة الطبيعية، من حيث الفطرة و التربية و الحرية و الأخلاق. فمن يتأمل حياتها الأولى، لا يجد غير النفس الطبيعية الهادئة و السلوك القويم. إذا ما راجعنا هذا الحكم، فسنجده يضمر أكثر مما يفصح، يذّكر السابق ولا يكمله باللاحق، ليجانب ذكر الانقلاب المفاجئ الذي نقل الخنساء من حياة هادئة إلى أخرى تفيض بالحزن والدمع والألم والرغبة في قتل النفس، مما يبين عن حدّة الوجع الذي كان يعصر فؤاد الخنساء.
تظلّ الشاعرة الفصيحة رغم علو كعبها وحسن مقامها، شخصية عصابية، إن لم نقل أنها جمعت ما بين العصاب الاستحواذي والذهان والاكتئابي. نحن إذن أمام حالة إكلينيكية لربما لم تجد أريكة في ذلك الزمن، لتستلقي عليها مثل الآنسة دورا إحدى مريضات فرويد. (دورا هي إحدى الحالات الخمس التي نشرها فرويد في كتابه "خمس حالات تحليلية" وكان قد نشرها عام (1905) بعنوان : مقطع من تحليل الهيستيريا). تبعا لما تقدّمنا به، سنعمل جاهدين في هذا الباب على التشخيص الدقيق لتمظهر مركبات العقدة الخنسائية، مع إرفاقها بتحليل نفسي للأعراض الباثولوجية المصاحبة لها، ويأتي حصرها في التحديدات التالية:
السوداوية la mélancolie :
إن الموت كصدمة » « trauma معاشة، قد أصبح حدثا متكررا في الماضي الفردي كما في التاريخ الأسري للخنساء، وهذا الحال يصطلح عليه في التحليل النفسي بديمومة الصدمة. ونفتح قوسا في هذا الصدد لنحيل القارئ إلى اقتراحات المحلل النفسي عدنان حب الله فيما يتعلق بمصيــــــــر الصدـمــــة وكيـــــف يتــم الحـــداد علــى الــــذات أو كيفية المقاومة أو الرضى. بحيث يبسط لنا مداخلا للتفكّر العميق بالصدمة، وآثارها والمعالجات المقترحة من قبل التحليل النفسي. إنه يستنطق النصوص الأساسية ويعود إلى مفاهيم دالّة مثل نزعة الموت، وعقدة الخصاء، والتكرار، والتراجع، والنسيان وفرط التذكر، والشعور بالذنب، والإلغاء.
لقد خبرت الخنساء من الاغتمام والحزن الدائم، ما جعل لسان حالها سخط ومعاتبة للدّهر وعدم تقبل الواقع وطمس للسكينة وكل هدوء مؤقت يأتي بعده ناعي الموت بخبر ثقيل على الأذن، مما أودى بها إلى أن تسقط فريسة ما يدعى بالحداد المرضي. هذا السواد الشديد الذي لم يبارح حتى ثيابها الممكن أن تختفي فيه الغربان نظرا لشدّة عتمته. فالحداد الباثولوجي له طبعه الخاص في ما يعرف بالاجتياف والعلاقة الدمجية الذوبانية مع الموضوع، إلى جانب نقص في مشاعر الأمن والفرحة والابتهاج والاقبال على الحياة. فمن شدة الحزن والبكاء واللوعة، تمنّت الخنساء لو أن بطن أمها لم يلفظها، ومن شدة الجزع الأكبر تمنت الشاعرة لو أنها ماتت وهي بين أيدي القوابل. إن صيغة التمني هته عند الخنساء ترقى إلى مستوى عدمي موغل في التشاؤم والسوداوية، بعد أن وصلت بها درجة اليأس إلى تمني الموت أو التحول إلى تراب. فكل شيء بالنسبة للخنساء ميت، الحافي والناعل. (راجع دراسة تحليلية، تحت عنوان: تجليات المأساة في شعر الخنساء).
الهستيريا l’hystérie :
من أبرز الملامح التي تؤكد إصابة الخنساء بنوبات هستيرية حادة نذكر: البكاء؛ النواح؛ حلق الرأس؛ نذب الوجه؛ وضع نعل أخيها المقتول على خصرها؛ الطواف المستمر والقهري حول الكعبة. وفي كلّ ذلك نلحظ ارتدادات تعبر من خلال الرّد الجسدي وتعبيراته المطروزة في جغرافيا الجسد المتكلّم، المهتز، المتوقّض. كلّها مجموعة تصرفات منمّطة ذات هدف دفاعي بالأساس، وهي أيضا تصرفات احتجاجية تخرج عن المألوف وتتخطّى حرمة الجسد الأنثوي، بما هي تقدّمه على نحو متمرّد يكسر القواعد السلوكية المطلوبة من الأنثى.
إنّ الكلام ولو أنه تفجّرت فيه قريحة الخنساء الشعرية، لم يستطع احتواء وطأة المكبوت والهاجع في الصدر، فجاءت الأعراض مدونة في مناطق متمايزة من الجسد الحامل لذاكرة الصدمة. فالمصابين بالهستيريا يعانون من تذكرات، وأعراضهم رسابات بعض الحوادث، ورموزها رموز تذكارية (…)؛ إنهم لا يتذكرون فقط أحداث مؤلمة مضى زمن طويل على وقوعها؛ بل يبقون مرتبطين بها عاطفيا، إنهم لا يتحررون من الماضي، بل يضربون صفحا لأجله من الواقع الحاضر، وهذا التثبيت للحياة العقلية على الرضات الممرضة هو واحدة من أهم سمات "العصاب" وأبلغها دلالة عمليا. لقد كشفت التجربة على أن الذكريات المنسية لا تضيع ولا تتبدّد، وعلى أنها تبقى في حوزة المريض متأهبة للإنبجاس. (انظر: سيغموند فرويد، خمس دروس في التحليل النفسي، ص 8 – 41).
إلى جانب الهستيريا، نلحظ نزوع لدى الخنساء إلى تهويل حدث موت أخويها وشحنه بطابع درامي لا يخلو من رواسب الاعتقادات الجاهلية وطقسنة الموت واعتباره نهاية لا عودة منها، قبل مجيئ الإسلام واعتبار الموت انتقال من حياة إلى أخرى، ليخفّف من ثقل فقدانها المتكرّر للأحباب. وكضرب من الاستدلال على ما جاء ذكره، يمكننا العودة إلى حوارها المعروف مع عمر بن الخطاب عندما دخل البيت الحرام، فلمحها تطوف بالبيت حليقة الرأس في طقس هجاسي، تبكي وتلطم خدّها واضعة نعل صخر في خمارها، كما كانت تعمل المرأة في الجاهلية إذا أصيب لها كريم حلقت شعرها وشرعت تضرب رأسها بنعليها فتعقره وتلطم خديها وتمزق ثيابها وقد نهت تعاليم الإسلام عن ذلك كله، ما أثار حفيظة خليفة رسول الإسلام ودعاه إلى عتابها وموعظتها لعلّها تعود إلى رشدها. إذ هو لم يجدها تستجدي من هذا الحداد بركة إلهية أو طلب للغفران وإنما رآى فيه مجرد مجموعة تصرفات منمّطة وقسرية ذات هدف دفاعي.
المقاومة la résistance :
ترفض وتقاوم الخنساء نسيان ما ألّم بها لتعيش على لسعات الذاكرة المستيقظة والمتوثبة. فالنسيان كمكانيزم دفاعي لاشعوري يجنب استعادة بعض الأحداث المؤلمة التي قد تتسبب له في حالة من التوتر والخوف والقلق والحزن (…) الخ. وهذا الاستعادة تنسحب على معظم أشعارها من حيث استرجاع نفس السياقات السيكولوجية والحالات العقلية المفضية إلى اجترار أثر الصدمة، لتنساب المشاعر المحصورة والانفعالات المخبوءة، في قالب لغوي شعري مطرزّ بطلاسم العقد النفسية الناسجة لسمكه.
لقد كانت الخنساء تنحر لسانها في ملتقى الشعراء، فتسيل دماء مداده فوق بياض الورق منهمرة في وديان وقوافي تغمر القصيدة الهائجة بانفعالات قوية مستيقظة من المقبور في النفس والموشوم في الصدر والمكبوت في اللاوعي. إن رثاء الخنساء هو مجال لسماع صوت الذهان، الهاجع، الظلّي، المكلوم، لذلك تأتي معظم القصائد التي أدلفتها الخنساء كهذيان تعويضيdélire de composation (إذا ما استثنينا تلك التي خصصتها للمدح والفخر والتغزل بصفات ومحاسن الرجل).
فبواسطة الشعر- الكلام يحضر الموضوع المفقود والغائب، لتشرع في استعادة ما فقدته، هاربة من أوجاع واقع مرفوض من الصعب هضمه، إلى سجل المتخيل الذي يتيح لها استحضار الشيء على حساب غيابه. فالشعر، قد أصبح المأوى و المهجر والملاذ ، تحيى وتنوجد به وفيه، إلى درجة أن الانقطاع عن الشعر – الكلام بالنسبة للخنساء لهو انقطاع عن استشعار الذات المثقلة بأكوام أحزانها. أو بلغة صفوانية إمّا الكلام أو الموت.
الخصاء castration :
لم تكف عيون الخنساء عن البكاء ودرف الدمع منذ تلقيها نبأ وفاة أخويها وخاصة صخر، حتى فقدت البصر وأصيبت بالعمى، بعد صراع طويل انتهى بسيطرة الظلام والسواد. لتستسلم الخنساء بالكّل إلى الظلام. فالبكاء دموع، والدمعة ماء. إنه رمز للانبعاث والحياة. هنا، وبدون تفصيل، يرتّد الموضوع إلى ماء الحياة الذي يحيي المتوفّي. وقد أسهبت الأسطوريات أو الاناسة العربية، وفي العالم القديم، من الربط بين الانبعاث والدموع، بين الخصوبة والتجدد والبكاء (راجع علي زيعور، مرجع مذكور).
ويبدو أن لهذا المصاب الذي حنّط عالم الخنساء وزاد من وحشته وغربته دلالات نفسية لاشعورية عميقة يستوجب تحليلها بمنآ عن زمرة من التفسيرات المعهودة المرجعة فقدانها للبصر إلى شدة الحزن والبكاء. صحيح أن فقدان البصر قد ينجم عن اضطراب حاصل في هذه الحاسة، كما قد يعود وهذا ما نريد تبيانه لأسباب نفسية دفينة (نؤخذ على سبيل المثال قصة النبي يعقوب مع ابنه يوسف حين فقد بصره). فمن هذا المدخل بإمكاننا تأويل الواقعة من داخل سجل التحليلي النفسي ومفاهيمه ذات الكنه اللاشعوري. ففي اعتقادنا أن عقدة الخصاء قد وجدت أحلك تجلياتها في فقدان الخنساء للبصر، فالعمى هنا نفسي قبل أن يكون فيزيولوجي وهو راجع أساسا إلى فقدان القضيب، والمقصود بهذا الرمز الدّال هنا إما الأب أو الأخ أو ما يعادله رمزيا أو يقوم مقامه. فقد يعود هذا الاضطراب في حاسة البصر بالأساس إلى الخوف من انمحاء الأصل أو ما دعوناه فوبيا انمحاء الأصل وما يصاحبه من اقتلاع واستئصال واستخصاء.
لقد ظلت الخنساء في جلّ أشعارها مهووسة بالبكاء وذرف الدموع وسكب العبرات، متنقلة بين الوادي والجبل، والصحراء والواحة، وبين كل هذه الأمكنة المختلفة، تتذكّر كل عائلتها الذين فقدتهم الواحد تلو الآخر، صخر ومعاوية وعمرا وأولادها الأربعة. مخلفا موتهم حسرة في وجدان الخنساء، ومن مثلهم في الناس: معاوية بأصله الشريف، وصخر البطل الصنديد وعمر الأب العربي الأصيل.
التسامي sublimation :
لقد شكل الدخول في الدين الإسلامي فرصة بالنسبة للخنساء للتّطهر. فالإسلام قد وفر للخنساء إمكانية العلاج بالصدمة. هذا ما يؤكّده حدث استشهاد أبناءها الأربعة دفعة واحدة بعد فترة على اعتناقها الإسلام. فالإسلام لم يأتيها بالخلاص أو ما تهواه أنفس الشعراء، بل أعاد تمزيق نفس الجرح باسترجاع ذاكرة الصدمة وحدث موت الإخوة المندثرة معه آخر بقايا العائلة. هذا القلب الفجائي للاقتصاد الليبيدي النرجسي لدى الخنساء عمل في التغلّب على نزوة الموت. حيث لم يعد هناك خوف من الموت. هذا من جهة، أما من جهة أخرى لم يعد الموت نقطة نهاية وإنما بداية لحياة أخرى كما أسلفنا الذكر، نظرا لما يمارسه الفردوس النعيمي في المخيال الأخروي الإسلامي من إغراء على السيكولوجيا الماليخولية (راجع: فتحي بن سلامة، الإسلام والتحليل النفسي ص: 118). على نحو عام فالمراحل النفسية التي بصمت تحولات الأعراض المشخصة، لا تخرج عن الأطوار المقدمة من قبل علم النفس الإكلينيكي، وهي: مرحلة إنكار الحدث – مرحلة تبلذ المشاعر وتخذر الأحاسيس – مرحلة الحزن والأسى والحداد – مرحلة التكيف والتأقلم مع الواقع.
III. شعر الخنساء بين الأثر والسلطة القضيبية
من المعلوم مدى طغيان الحضور الذكوري الإبيسي في العصر الجاهلي ، بالمقابل تلاقى الأنثى بنظرة نافية دونية تستبعد إثرها إما وؤدا أو هجرا أو اغتلاما. ومرد ذلك إلى طبيعة المجتمع الجاهلي بما يستحب فيه من وصاية على المرأة، واكتناز المال واستكثار النسل إلى جانب الإستمساك بالقرابة الدموية والأخذ بالثأر وسفك الدماء و الميل إلى الشعر الجامح والمتوحش إلى أقصى الحدود الموقدة معه الشهوة العمياء.
ووسط هذا الواقع، استطاعت تماضر بنت عمر الملقوبة بالخنساء أن تربك رجال زمانها، وأن تفرض نفسها ضمن الشعراء الفحول. لذا قد لا يرى التحليل النفسي في شخصية الخنساء سوى ملامح أونتيكونية "ضد القانون" جسدت نموذج الأنثى الثائرة، المتحررة، المتمردة، المتحدثة باسم الدوافع و الانجراحات الغائرة التي تخترقها. فمن خلال الشعر – أي سلطة الحرف- أمكن للخنساء التحرّر من القيود الهيكلية المحنوطة في نسيجها تركيبة المرأة الجاهلية. إذ ينبغي موقعة القضيب على مستوى المتخيل الشعري الخنسائي ضمن حقل الكلام. فالقضيب دال، والدّال يبصم حضوره في الكلام و اللغة. في هذا المضمار، يثار التساؤل: هل هي لعنة الشعراء من طاردت روح الخنساء وكلّمت لسانها تكليما، أم هي من اختارت كلام الشعر كاستراتيجية إخضاعية واختراقية للأنموذج القضيبي.
فإذا عدنا مثلا لشهادة و أقوال الشعراء في حقّ الخنساء، فنستطيع أن نستشف هذا الوجه الذكوري السافر الذي لازم شخصيتها. ومن ضمن الشهادات التي جاءت في هذا الصدد قَولُ البشار فيها: لم تقل امرأة الشعر قط، لا تبين الضعف فيه، فقال له، وكذلك الخنساء، فأجاب: تلك فوق الرجال. لعلّ التوقف عند هذا التوصيف قد يسعفنا من وضع الأصبع على هذا الاختراق "للمخيال ما فوق المذكر" والتعالي على السلطة الرجالية. كما لا نغفل من جهة أخرى، أن الشعر المنساب من فوه الخنساء فيه تعويض لسلطة السيف (السيف كمعادل رمزي للقضيب) بسلطة الحرف. هكذا، فالهوام لايبارح رغبة الخنساء في نيل وتملك الموضوع الممنوع، بما أن النساء ظلوا ممنوعات من الجهاد وتبليغ الرسالة. هذا ما قد يكشف لنا كذلك على ذلك الجانب الظلّي المذكرن في لاشعور الخنساء. ولكي لا تبدو الخنساء هي الوحيدة الحاملة لهذا الوزر نجد أن هذا الحال ينطبق على بنات جلدتها. وهناك أكثر من سبب لم نأتي على ذكره يدعونا إلى اعتبار الأمر كذلك، مع ترك المسافة الموضوعية اللازمة مع نظرية فرويد حول الحياة الجنسية الأنثوية وشهوة الفالوس. وتذهب بنت الشاطئ إلى اعتبار موقف الخنساء من بنيها وعدم درف الدمع على موتهم مصدره شذوذ في طبيعة تماضر جعل عاطفة الأخوة تغلب لديها على عاطفة الأمومة التي هي جوهر الأنوثة، والعنصر الأصيل في مقومات الفطرة لحواء. (أنظر، بنت الشاطئ، الخنساء، ص 51).
IV. الجنسانية الخنسائية منطقة عتماء
إن موت الإخوة معاوية وصخر هو حدث صدمي، قد كان له وقع بالغ الأثر على نفسية الخنساء. فنحن نعلم على نحو عام مدى حجم التّعلق والعاطفة الجياشة التي تكنها الأخت لأخويها أو أحدهم على وجه الخصوص. بل قد تبوؤ الأخت أخاها مقام أبيها في بعض الحالات، حسب التماهيات النرجسية الأولية التي تقيمها مع موضوع الرغبة في مرحلة الطفولة، كما تبين الملاحظات التحليلية النفسية للجنسانية الأنثوية.
وقد تختلف هذه الرابطة مدار الحديث من سياق تاريخي لآخر لكن على مستوى الموروث الثقافي سواء الجاهلي منه أو الإسلامي، نسجّل هذا الحضور البارز لما يمكن أن ندعوه »عقدة الأخوة « . فالأخ يشكل الركن الثالث في الثالوث النفسي للأخت (أب/أم/أخ)، وهو من جانب آخر يمثّل رمزا للحماية وصمام أمان وحليف وفيّ في أوقات الشدة. لذلك نجد الأخت تتباهى فقط بأخيها. فغياب الأخ يفسحُ المجال للغريب للاختراق. من هذا المدخل – عقدة الأخوة- نفهم مدى عمق التّجريح الذي طال النرجسية الخنسائية، بعدما تركت عرضة للضياع والخواء والفراغ. ففي فهم هذه العقدة الأخوية، مفتاح لولوج جنسانية الخنساء العتماء. وهنا نلمس أيضا حاجة المرأة الدائمة لدويها وأهلها طوال حياتها.
إن طريقة عيش الصدمة وحدادها بموت العائلة وانمحاء الأصل كان له وقع عميق في قتل الجانب الأنثوي فيها، بحلق الشعر وطمس معالم الجمال الذي كانت تتمتع حسب شهادة معاصريها. أما هذا الجدار الذي أقامته الخنساء على جسدها ففيه صد للرجال وله أكثر من دلالة تستدعي المزيد من التقصي من قبل المحلل النفسي. إن هذا الخدش على مستوى الهوية الجنسية كان سببا في اكتفاءها الذاتي و امتناعها عن الجنس سواء داخل مؤسسة الزواج أو خارجها بعد وفاة بنيها، وهي الجميلة، الظبية التي كان يهيم بها الذكور.
ننتهي إلى القول بأن عقدة الخنساء لا تخصّ تماضر وحدها. بل هي شكل خاص من الحزن والفقدان والحداد والتعبير عن الألم، يسم اللاشعور الأنثوي، كما لو أننا نتحدث عن عرض عابر للأجيال. فالمرأة العربية اليوم على سبيل المثال تعيش في الكثير من الأحيان نفس الصدمة ونفس النزيف، جراء فقدان شجرتها العائلية في ساحة الحروب والثورات، إنما ما تنقصها فقط بلاغة الكلمات لتعبر عن وجعها وتقرّحاتها شعرا يحرك الضمائر ويلهب الأحاسيس ويحتفظ بالذكرى.
أستاذ الفلسفة *
باحث في التحليل النفسي والفلسفة