[size=10]777[/size]
يبدو البحث في الصّورة التي رسمها المتخيّل الإسلاميّ للمرأة الغربيّة أمرا جديرا بالاهتمام في ظلّ تراكم الأسانيد النظريّة التي قدّمت عونا منهجيّا في هذه المسألة، وأسهمت في تأويل هذا الخطاب ودراسة مقوماته، إذ تجاوزت الأبحاث العلميّة التي عنيت بضبط معايير المتخيّل عامّة ما وقفت القراءات الماركسيّة عند عتباته من التفسير الآليّ للتاريخ والتركيز على المحرّكين الطبقيّ والمادّي. وأضحى المتخيّل آليّة لفهم التّاريخ وإدراك مسالك تأويل الأفكار ومقاربتها.
ففي فصل من كتاب المتخيّل (l’imaginaire) عنونه "جان جاك فوننبورغر" (Jean-Jacques Wunenberger) باستكشافات المتخيّلات" (explorations d’imaginaires)، أكّد على صيغة الجمع في استعماله، وأنّ هذه المتخيلات تتطوّر في كلّ المراحل بفضل التجربة الإنسانيّة طقوسا وعقائد. وحاول ضبط بعض المعايير التي يمكن اعتمادها لفهم المتخيّل. ومنها ما خلص إليه بحث مقارن قام به فريق عمل من الجامعات الأوروبيّة والأمريكيّة سنة 1990، ومن أهمّ تلك المعايير التي تساعد في فهم المتخيلات الإنسانيّة: روح الأمكنة، والتحوّلات الزمنيّة وأحلام السفر ومغامرة التطلّع، واستعمال وعدم استعمال الثروات والأعمار والحياة وحدود الجسد والهويّة الجنسيّة والأنا والآخر والمتخيّلات الجغرافيّة.[1] وتكمن أهمّية هذه المنطلقات المنهجيّة في تحديدها روافد المتخيّل العقديّ وتأكيدها على طابع التنوّع والتعدّد، رغم وحدة المرجعيّة الدينيّة، وهو ما سنحاول بيانه من خلال استعراض مواقف مختلفة تجسّد المتخيّل الجنساني في خطاب بعض المتأسلمين، وهو متخيّل يعتمد مرجعيّة دينيّة ولكنّه مع ذلك يوظّف تلك المعايير في تمثّله لقضيّة المرأة وتصوّره لسبل حريّتها، وقد حاولنا عرض هذه العيّنات اعتمادا على معيار نفسيّ، يرتبط بمكوني العدوان والجنس في ذات المؤوّل، إذ يقترن ارتفاع مؤشّر العدوان تجاه الآخر بالصّورة الجنسانية الأكثر إغرابا وشذوذا في متخيّل المؤوّل العصابيّ[2]، وهو ما نلاحظه من خلال رصد صورة المرأة الغربيّة في سرديّات المتأسلمين. ولا يخفى جدل صورة المرأة الغربيّة في هذه السرديّات مع صورة المرأة المسلمة. ومن أسس هذا الجدل قيامه على ثنائيّة تقابل بين منهج الإسلام القويم وفق تأويلهم، وبين التأثير الخارجي الذي عدّوه غزوا فكريّا وحضاريّا غايته إفساد أخلاق المسلمين وتشويه أنموذجهم المثاليّ. وتبدو المرأة الغربيّة في إطار هذا المتخيّل مستهترة بالنظم الأخلاقيّة وفق معاييرها في المتخيّل الإسلامي. ولذلك، فقد حاولنا تناول عيّنات من خطاب المتأسلمين لنبيّن من وراء ذلك دور المتخيّل في تشكيل صورة الآخر.
- اقتباس :
تبدو المرأة الغربية في إطار متخيل المتأسلمين مستهترة بالنظم الأخلاقية وفق معاييرها في المتخيل الإسلامي.
لعلّ أكثر المتخيّلات عدوانا في تصوير المرأة الغربيّة هي التي أقامت بنيانها على الفصل الدّينيّ بين ديار الإيمان وديار الكفر، واسترجعت الثنائيّة الميثولوجيّة القديمة القائمة على وعي ملائكيّ وشيطانيّ، إذ يقوم الفصل باتّا بين عالمين: عالم الإيمان والطّهارة المطلقة وعالم الكفر والنجاسة. فقد استعار عمر سليمان الأشقرى مثلا لمن يخالفونه الرأي في تصوّر حقوق المرأة صورا حيوانيّة مختلفة، ولكنها تأتلف حول معنى الشرّ والضرر وغياب الفهم، فنعتهم بالذئاب والأفاعي والببغاوات، وبأنّهم يفعلون ما فعله إبليس بآدم وحوّاء. ففي اعتقادّه أنّ "أهل الضلال وقادته يسيرون على هدى إبليس في إضلالهم العباد، فهم يصوّرون الحقّ في صورة الباطل، والباطل في صورة الحقّ، وهم في ذلك يُفَلْسِفُونَ الباطل، ويحاولون أن يدلّلوا عليه بما يوهم الذين لا علم عندهم بأنّ قولهم حقائق لا تقبل الجدل. ومن جملة ذلك، ما يفعله أدعياء التقدّم حين يطلبون من المرأة التمرّد على دين ربّها، والخروج على تعاليمه، باسم التحرّر والتمدّن...فمن ذلك أنّهم يقولون للمرأة: ما هذه الملابس التي تكبّل حريّتك، وتخفي جمالك ومحاسنك وتحرمك من التمتّع بالحياة؟ ويقولون لها: لماذا أنت في المجتمع عضو أشلّ لا تساعدين في رفاهيّة المجتمع ولا تقومين بأعمال الرجال؟ أنت لست بأقل من الرجال شأنا، والرجل ليس أذكى منك. ويقولون إنّ علاج الكبت الجنسيّ الذي يعاني منه الرجال والنساء لا سبيل للخلاص منه إلاّ بما قرّره شياطين الغرب –أمثال فرويد- بالخلطة بين الجنسين، واجتماع القبيلين."[3] لقد تأسّس هذا المتخيّل على فصل صارم بين عالم المسلمين بكلّ نقائه المتخيّل وعالم الغرب الكافر الذي يكيد للنساء (حسب زعمه) كما كاد إبليس للبشر فأخرجهم من جنان الخلد. وإنّ استعادة قصّة الخلق الأولى، ليس في الحقيقة مجرّد استعارة تبيّن تلازم المكوّنين العدوانيّ والجنسيّ، إذ يرتبط عداء الغرب بتصوّر جنسانيّ للمرأة. وإنّما هو في الحقيقة محاولة للحفاظ على منظومة سائدة عُمدتها الهيمنة الذكوريّة المبرّرة بلغة المقدّس. ولذلك، فتوظيف متخيّل "المدنّس" هو محاولة لإظهار أيّ انزياح عن السّائد ضربا من الفوضى والاضطراب اللذين يهددان تماسك المجتمع ووحدته. وضلال إبليس وفق هذا التصوّر مرتبط بمشاركة النساء الرجال أعمالهم والاختلاط بهم دون رابط زواج أو قرابة محرم. ومن البديهي أنّ تستعيد تلك الآراء ما ساد من منظومة الفصل بين الجنسين وأن يعتبر أصحابها بيقين وثوقيّ أنّ "الاختلاط بين المرأة والرجل خطر محقّق."[4] وفق منظور جنسانيّ/ حيوانيّ يستبعد أيّة قدرة إنسانيّة على التحكّم في الغرائز، ويجعل من التقاء الجنسين لقاء جنسيّا محرّما وإثما محتوما. وقياسا على هذا المبدأ، يكون الاختلاط بدعاة التحديث أيضا خطرا محقّقا، إذ تكون أفكارهم أشبه بوباء يصيب النّساء بعدوى الحرّية. ومن هنا تناسقت مكوّنات المتخيّل عدوانا للمعسكر الغربيّ الموسوم بالشيطنة ودعاة الحريّة الذين يكيدون للمرأة بدعوتها إلى العمل والاختلاط. فالتقت المعاير المكانيّة والزمنيّة وحدود الجسد بمعايير الأنا والآخر والمتخيلات الجغرافيّة، لتقيم فصلا بين مجموعة من الثنائيّات المتقابلة: ظاهرها الحدود بين عالم الذكور وعالم الإناث وباطنها الفصل بين المقدّس الإسلاميّ والمدنّس الغربي. لقد صوّر بعض المتأسلمين المعقوليّة الغربيّة لحريّة المرأة تصويرا جنسانيا حاول الإقناع بأنّ غايته سلب المرأة إنسانيتها وتحويلها إلى وسيلة للإثارة والتسويق التجاريّ. ولذلك، فقد اعتبروا أن عقيدة الغرب تقوم على "عبادة الشهوة الجنسيّة بصورة إباحيّة حديثة حتّى تطوّر الأمر بالمرأة إلى أن تفقد إنسانيّتها من جديد، وتغدو موضوعا للمتعة مع الرجال بغير مسؤوليّة وللاستغلال الدعائي التجاريّ، وأصبح أكبر همّها هو تحقيق أنوثتها لا تحقيق إنسانيّتها وتزييف جسدها بالموصلات والملصقات وبالجراحة والتلوين وتهدر قيمتها وطاقتها ورقّتها ومالها في اكتساب دواعي الفتنة. وإذا تزيّنت أو خرجت عملت لإثارة الرجال بالعورة والمظهر الجذّاب والتطرية والتطيّب والتظرّف والتكسّر لينظر إليها الرجال استرسالا ليفوزوا بخلوتها حراما فتفشوا الفاحشة وتختلّ خصوصيّات العلاقات الزوجيّة وينفرط عقد الأسرة النظاميّة."[5] يعتبر هذا الشاهد عيّنة من متخيّل إسلامويّ[6] يحتاج منّا إلى تفكيك بنيته الداخليّة وفهم خلفيّاته الفكريّة ومقاصده السياسيّة. فهذا الخطاب هو من الناحيّة السوسيولوجيّة حكم خارجيّ تؤسّسه خلفيّة البداوة، وهو يصوّر وضع المرأة المتمدّنة ماجنة. ولذلك، فهو أقرب إلى الصّورة التي يرسمها النازحون من منطلق نفسيّ أساسه الاعتقاد بأنّ الخروج عن الصورة النمطيّة للمرأة البدويّة في زيّها والمنفصلة عن الرجل حجّة على الانحلال الأخلاقيّ وكسر العادات والتقاليد. ولذلك، فهذه الصّورة تعتمد آليّة المقارنة والتهويل من أجل تحويل مظهر خارجي يبيّن جمال المرأة ويخالف صورتها النمطيّة التي تفرض عليها قيود اللّباس والعزل بصورة المرأة المتزيّنة والمختلطة بعالم الرجال إلى دليل قاطع على فساد الأخلاق والانحلال. ذلك المظهر يتحوّل بحكم عامل الكبت (وهو عامل نفسي تهويميّ) إلى صورة المرأة المارقة عن القوانين الأخلاقيّة. فالعقليّة التي تحكم المؤوّل هي أنّ كلّ اختلاط بين الذكر والأنثى يؤول حتما إلى اجتماع حيوانيّ لا تتداول فيه سوى لغة الغرائز، وهو وعي يحوّل صورة المرأة المتحرّرة إلى صورة غريزيّة تسلبها كلّ قدرة وتجعلها مادّة طيّعة في يد الرجل. ثانيا لا تتأسّس صورة المرأة في الخطاب الإسلامويّ من خلال العيّنة التي قدّمناها على أساس تصوّر عقلانيّ، إذ الحكم على المرأة لا يتجاوز مظهرها الخارجيّ ويتجاهل عمدا الحديث عن قدراتها العقليّة أو إرادتها الذاتيّة. ولذلك، فمن آليّات المتخيّل الإخفاء والطمس مقابل إظهار ما يعتقد أنّه الحقيقة المطلقة. فترتبط الحقيقة بمنظور المؤوّل أكثر من ارتباطها بالموضوع الذي يؤوّله، إذ تتشكّل الصّورة النمطيّة التي تستثمر كلّ أشكال التجريح والدعاية للمرأة انطلاقا من متخيّل ذكوريّ لا يرى في الجنس الآخر سوى وسيلة لإشباع رغباته مقابل غياب أيّ تمثّل عقلانيّ يرى في المرأة إمكانات الخلق والإبداع واتّخاذ القرار بصورة مستقلّة عن إرادة الرجل/ الفقيه. وتخضع صورة المرأة وفق هذا النمط من التفكير إلى مفهوم الفتنة. وكأنّ المرأة نار موقدة وما الرجل إلاّ مادّة سريعة الالتهاب أمام جسدها، بل كأنّه لا همّ لها من الحياة سوى أن تؤدّي الدور الشيطانيّ الذي يخرج الرجال من جنان الأخلاق، وهي الصّورة الميثولوجيّة المستعادة دوما في شكل تهويمات تتنوّع صورها ولكنّ مرجعها واحد. ويتوافق هذا المتخيّل مع ما بيّنه فوكو من خصائص الخطاب العالم حول الجنس في القرن التاسع عشر، وهي ما عبّر عنها بالضلالات الممنهجة. فالإنكار والتجاهل مرتبط بخلفيّة لها علاقة أساسيّة بالحقيقة. وتجنّبها وعرقلة ظهورها وتقنيعها يشكّل خططا للتهرّب من مطلب أساسيّ في المعرفة. إنّها ببساطة لعبة الحقيقة والجنس التي تتهرّب دوما من قول حقيقة الجنس، [7] وهو ما لم يجد فيه القدامى حرجا. ثالثا، إن قيام المنظومة الأخلاقيّة الإسلامويّة على أساس الطّاعة وسلطة الفكرة الجماعيّة يصيّر كلّ خروج عن النمط الثابت الذي رسمه المتخيّل الذكوريّ إضرارا بالأسرة، وهو استثمار لثنائيّة المقدّس الذي يحقّق النظام والمدنّس الذي يهدّد حياة البشر بالفوضى. غير أنّ لائحة الاتهامات الأخلاقيّة توجّه حصرا إلى المرأة ولا توجّه إلى الرجال. فإذا كانت حقيقة هذه الآراء أخلاقيّة، فلماذا تظلّ المرأة وحدها مدانة بالفتنة والحال أنّ كلّ تعدّ على الأخلاق وفق ذلك المنظور لا يتمّ إلاّ بإدانة الطرفين وليس باتّهام طرف واحد. ومن هنا كان هذا المتخيّل قائما على أساس تبرير الاستبداد الذكوريّ، وليس على أساس أخلاقيّ كما يبدو ظاهرا.
ولا غرابة بعد ذلك، أن يستخلص محمّد عمارة أنّه "في قضيّة تحرير المرأة تحديدا كان الرفض الإسلاميّ للنموذج الغربيّ حاضرا وبارزا في أغلب الأحايين"[8] لأنّه في الحقيقة رفض لكل مفاهيم المساواة والحريّة بمنظورها الغربيّ، إذ هي تهدّد منظومة الاستبداد بجميع أشكالها الدينية والسياسية والاجتماعية. ومنطلقه في هذا الرفض ما اعتبره "نزعة أنثويّة متطرّفة"، وهي تقوم في نظره على مبدأ الصراع بين الجنسين، والدّعوة إلى الثورة على الدّين وعلى الله وعلى اللغة والثقافة والتّاريخ والعادات والتقاليد والأعراف. فدعت إلى استقلال المرأة عن الرجل "وفي سبيل ذلك دعت إلى الشّذوذ السّحاقيّ بين النساء وإلى التحرّر الانحلاليّ، وبلغت في الإغراب مبلغا لا يعرف الحدود... "فالتعبير الحرّ عن الجنس هو جزء من الحريّة، حتّى لو اتّخذ شكل الشذوذ السحاقيّ. وحتى ولو اتخذ شكل احتراف البغاء، طالما خلا هذا الاحتراف للبغاء من الاستغلال التجاريّ."[9] فالمتخيّل الإسلامويّ الذي يرسمه "محمّد عمارة" يضيّق قضيّة حريّة المرأة في زاوية جنسيّة لا منظور له غيرها. وهو اختزال مخلّ لدور المرأة الغربيّة عامّة في مسار الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع وتشويه متعمّد يصوغه متخيّل عدوانيّ يحاول تسويق صورة مثاليّة للمرأة المسلمة تقابل صورة مشوّهة للمرأة الغربيّة على أساس معيار أخلاقيّ ومتخيّل جنساني. فإذا كانت الحريّة النسويّة بكلّ أسانيدها النظريّة والفلسفيّة تؤول في النّهاية إلى حريّة سحاقيّة وشذوذ جنسيّ في هذا التصوّر، فإنّ مثل هذه الأحكام إمّا أن تكون ناتجة عن نزعة عدائيّة لها روافد استعماريّة وتراكمات تاريخيّة في الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة من الطبيعيّ أن تولّد آليات الإخفاء والحجب، وأن لا ترى في العدوّ سوى سوئه. وإمّا أن تكون نتيجة جهل بما حققته المرأة الغربيّة من إنجازات خلال مسيرة تحرّرها، ثمّ إنّ ظاهرة الشذوذ الجنسيّ التي يدين بها "محمد عمارة" الحضارة الغربيّة ليست سوى ظاهرة إنسانيّة لم تخل منها حضارة من الحضارات. وما رسالة "الجواري والغلمان" للجاحظ سوى عيّنة دالّة على أن التاريخ الإسلاميّ لم يخل منها. وأنّ قصر الأحكام على النساء الغربيات يبدو صناعة لمتخيّل عدوانيّ لا يرى في حريّة المرأة سوى سحاق وشذوذ، وهو محكوم بخلفيّات إيديولوجيّة، وعقليّة أصلها ثابت في الهيمنة الذكوريّة[10]. إنّ تلك المواقف التي وجّهها فريق ممّن تبنوّا الخطاب الدينيّ، وحاولوا احتكار تأويله مثّلت الوجه البدائيّ لرفض حريّة المرأة. وقد شهد هذا المتخيّل تحوّلات تأثّرت بالمواقف السياسيّة، حين انتقل مشروع حريّة المرأة من مشروع غربيّ "كافر" قابله الدعاة بالرفض المطلق إلى مشروع دافع عنه بعض السياسيين وحاولوا تطبيقه اعتمادا على آليّات قانونيّة وتشريعيّة. من ذلك مثلا "مجلّة الأحوال الشخصيّة" التي سنّها "الحبيب بورقيبة" بعد الاستقلال مباشرة لم تلق الترحيب من الجناح الإسلامويّ الذي وجّه له نقودا مختلفة. فقد اعتبر "راشد الغنوشي" في الثمانينيات أنّه قد غلب على مشروع "الحبيب بورقيبة" لتحرير المرأة طابع التقليد الأعمى والشكلانيّة الفجّة، وهو من طقوس الولاء للغرب وأنّ بعض نصوص المجلّة مسقطة إسقاطا بدون دراسة متأنّية، واستخلص نتيجة مفادها أنّ هذه المجلّة موجة تغريبيّة شاملة لكلّ ميادين الفكر والثقافة والتشريع المفتونة والمقلدة للأشكال الغربيّة. فأنتجت حسب رأيه تحلّلا عاما في المجتمع. فتحولت الحريّة إلى إباحيّة وأضحت العفّة والحياء رجعيّةً وتأخرًا وتخلفًا. واعتبر أن ارتفاع نسب الطّلاق دليل واضح على أنّ هذه السّياسة قد تسبّبت في تفكّك الأسرة بدل تحرير المرأة، وهو يعتبر أن مشروع حريّة المرأة استراتيجيّة رأسماليّة لتوفير يد عاملة بخسة تخدم المصالح البورجوازيّة.[11] ومن الطبيعيّ أن تصدر هذه المواقف من مضطهد سياسيّ كتبها في إحدى السجون التونسيّة زمن قمع النظام الحاكم للأحزاب الإسلاميّة[12]. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ المتخيّل العدائيّ يمكن أن يحجب عنّا أنّ الآراء التي يقدّمها "الغنوشي" تظلّ متهافتة وضعيفة الصلة بالواقع. فقانون الطلاق الذي يدّعي "الغنوشي" أنه من أسباب ارتفاع نسبه هو الذي أخرج المسألة من طور الأحكام العشوائيّة الخاضعة إلى هوى الزوج أو الزوجة إلى المأسسة، فصار من نظر المحكمة، وهو يضبط شروط الطلاق ويضمن حقوق المتضرّرة من خلال تمكينها من التعويض المالي في حالات الضرر، وذلك حفظا لكرامتها بعد الطلاق وتوفيرا للحدّ الأدنى من نفقاتها.[13] أمّا ارتفاع نسب الطلاق في المجتمع التونسيّ، فليس وليد قوانين مجلّة الأحوال الشخصيّة مثلما يدعي "الغنوشي"، بل هو نتيجة تحوّلات سوسيولوجية شهدها المجتمع التونسيّ. وتبدو مسألة المقارنة بين الطلاق قبل الاستقلال وبعده مسألة غير علميّة، فقد كان الطّلاق يخضع إلى العرف ويبدو إحصاؤه أمرا صعبا في ظلّ غياب المأسسة وغلبة النظام العشائري في مجتمع تسيطر عليه البداوة. ويبدو من الصعب توفّر إحصائيّات تمكّن "الغنّوشي" من المقارنة بين وضع الطلاق قبل قانون مجلّة الأحوال الشخصيّة وبعدها، وهو يشير في هامش الكتاب أنّه كتب هذه الدراسة في زنزانته. - اقتباس :
انتقل مشروع حريّة المرأة من مشروع غربيّ "كافر" قابله الدعاة بالرفض المطلق إلى مشروع دافع عنه بعض السياسيين وحاولوا تطبيقه اعتمادا على آليّات قانونيّة وتشريعيّة
إنّ هذه المقاربة الإيديولوجيّة تتجاهل الوضع الذي سبق مجلة الأحوال الشخصيّة حين كان الطلاق يتمّ بصورة عشوائيّة وغير ممأسسة، بل إن كثيرا منه يخضع إلى أهواء الرجل ونزواته. ولو صحّ ادّعاء "الغنوشي" بأنّ "بورقيبة" يضع استراتيجيّة رأسماليّة لاستغلال المرأة لكان منح المرأة في الوظيفة العموميّة أجرا أقلّ من الرّجل والحال أنّ ما تتقاضاه المرأة من راتب شهريّ في القطاع العامّ التابع للدولة خلال تلك الفترة يعادل راتب الرجل متى استويا في المؤهّلات العلميّة والدرجة الوظيفيّة. إلاّ أنّ الاختلاف في الأجور كان يحصل في القطاع الخاصّ، وهو ما لم تكن تتحكّم فيه الدولة، وإنّما تخضع فيه الأجور إلى قانون العرض والطلب. وحتّى لو سايرنا "الغنوّشي" في اعتباره حريّة المرأة استراتيجيّة رأسماليّة للمنافسة، فإنّ الأمر سيؤدّي إلى القول إنّ المرأة كانت شريكا فاعلا في التنمية، ولم تبق عنصرا هامشيّا غير مشارك في دفع عجلة الاقتصاد، وليس منحها أجرا أقلّ من الرجل سوى نتيجة عقليّة تقليديّة تفاضل الرّجل على المرأة وهو ما سعى بورقيبة إلى الحدّ منه. ويبدو أنّ الشيخ قد راجع مواقفه المتسرّعة زمن غربته في أوروبا وبعد أن فاز حزبه في أوّل انتخابات بعد قيام "الثورة التونسيّة"، فالسياسة التي جعلته يحكم على مجلّة الأحوال الشخصيّة بالتغريب هي ذاتها التي لوّنت موقفه لتصير المجلّة ذاتها حامية لحقوق المرأة ومقبولة في صلب حركته.
ليست النماذج الثلاثة التي قدمناها وقد اختلف الواقع الذي انطلقوا منه، سوى عيّنة تبيّن قيام المتخيّل الإسلامويّ على تصوّر جنسانيّ للمرأة يعتقد أصحابه أنّهم وكّلوا بحمايتها من شتّى أنواع الاستغلال الجنسيّ والاقتصاديّ وتصوّروا نمطا ثابتا لحريّتها الإسلاميّة عُمدته الشكل الخارجيّ ومنع الاختلاط وتحديد أنشطة المرأة. فالغالب على هذه التصوّرات أن البشر يساقون كالقطعان، وأنّ النمط الذي يحدّده الدّعاة صراط مستقيم لا مناص من اتباعه، والهالكون هم من حادوا عنه. وهذا الوهم الذي لازم خطاب المتأسلمين هو ذاته الذي قاد إلى فصل بين منظومتين. ولئن كان المتخيّل العدوانيّ مزيجا بين صورة الغرب الكافر وصورة المرأة الفاجرة في البداية، فقد تحوّل قانون المزج ذاك إلى ربط الصورة المنبوذة للمرأة المتحرّرة باختيارات الأنظمة الحاكمة. وقد كانت منطلقات هذه الآراء الفصل بين منظومة إسلاميّة تصوّرها أصحابها وفق تأويلاتهم حافظة للمرأة من أعين الرجال وحامية لجسدها من ذئبيّة البشر، ومنظومة غربيّة لا همّ لها سوى زينتها وكشف عورتها وإفساد أخلاقها. ذلك ما حاول كثير من المتأسلمين ترويجه في إطار استراتيجيات الهيمنة اللاهوتيّة التي وظفوها لاستغلال الرجال والنساء على حدّ سواء، وإن بدرجات متفاوتة. فبالمقدّس يستمال الرجال ويصيرون مادة طيّعة في يد الساسة. وبالمقدّس يتأسّس استبداد ناعم تترجمه عبارات الطّاعة والولاء. أمّا النساء، فالأخلاق هي أحسن السبل لتبرير قيودها وتنميط دورها في المجتمع، ذلك أنّ التغريب هو العدوّ اللّدود للإسلام ولا حلّ إلاّ بمخالفته ورفض منظومته. ولكنّ هذا المتخيّل العدائيّ القائم على آليات الطمس والإخفاء والمغالطة لا يطرح على نفسه بعض الإشكاليات التي من شأنها أن تعدّل من غلوّ أحكامه وتصيّر مواقفه أكثر موضوعيّة في الحكم على نساء الغرب حكما إنسانيّا.
فإن كان الغرب يتآمر على النساء المسلمات بمنظومة لا أخلاقيّة غايتها استغلال جسد المرأة واستعبادها. فبم نحكم على وضع نساء عِشْنَ كلّ أشكال القهر في مجتمع ذكوريّ حوّلهن إلى خادمات مطيعات لغرائز الرجال؟ أليس من الأولى تقديم صورة موضوعيّة للمرأة التي استطاعت أن تثبت كفاءتها في جميع الميادين وأن تظهر قدرتها على الخلق والإبداع، وأن يتمّ نقاش ما شاب تجربة تحريرها من مشاكل نقاشا عقلانيّا بدل لغة الإدانة الأخلاقيّة والاتهام بالفجور، وهو ما لا ينسجم مع أخلاق المسلمين؟ وهل الوقوف عند وظيفة حراسة جسد الأنثى هو أقصى ما يطمح إليه مشروع المتأسلمين؟ ومن ذا الذي يضمن عدم إعادة إنتاج الأشكال القديمة للقهر والاستغلال التي عانت منها المرأة العربيّة المسلمة طويلا باسم الطاعة والمقدّس؟