شهد العالم سنة 1975 ما عرف بـ "عام المرأة" جرت خلاله العديد من
الفعاليات والأنشطة الداعمة للمرأة في أنحاء عدّة من العالم. في العام نفسه
حصل (يوم المرأة العالمي) وهو الثامن من آذار من كلّ عام، على اعترافٍ
رسميّ من الأمم المتحدّة بوصفه مناسبة عالميّة، ثمّ حذت حذوها دول عدّة
حتّى أنّ بعضها كالصين وروسيا وغيرهما اعتبره يوم عطلة رسمي.
تعود فكرة تحديد يوم عالمي للمرأة إلى ناشطة نسويّة ألمانية تدعى كلارا
زيتكن كنت ترأس "مكتب النساء" في الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا،
حيث أدرجت على جدول أعمال "المؤتمر الدولي للنساء العاملات" الذي عُقد في
كوبنهاغن عام 1910 اقتراحاً بأن تحتفل النساء في كل بلد في اليوم ذاته بيوم
المرأة كوسيلة لتحقيق مطالبهنّ والتأكيد على ما تحقّق منها. أقرّ المؤتمر
بالإجماع المقترح لتقوم كلارا زيتكن في العام التالي بإطلاق أول يوم عالميّ
للمرأة في 19 آذار من عام 1911 (تم نقل الموعد إلى 8 آذار في عام 1913
ومازال هو التاريخ المعتمد حتى الآن).
وقد لاقى يوم المرأة العالميّ الأول نجاحاً لافتاً فاق التوقعات، ساهم في
ذلك صدور صحيفة "التصويت للنساء" في ألمانيا وصحيفة "يوم المرأة" في النمسا
قبل يوم الاحتفال بأسبوع، ناقشت خلاله في مقالاتها مختلف جوانب قضية
المرأة وروجت ليوم المرأة وضرورة المشاركة به.
مئة عام مضت والمرأة ما تزال تعاني في كافة أرجاء العالم من مختلف أشكال
العنف والتمييز ضدّها، خصوصاً في البلدان والمجتمعات المتخلّفة ـ والبلدان
العربية والإسلاميّة من ضمها طبعاً ـ تتشابه الممارسات من حيث النوع،
وتتفاوت من بلد إلى آخر بالدرجة والانتشار.
يأتي كلّ ذلك على الرغم من توقيع معظم الدول العربية والإسلاميّة على
اتفاقيّة (سيداو) الخاصة بمناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة.
مردّ ذلك أنّ مصادقاتها تلك على الاتفّاقية قد ترافقت "مع التحفّظ" على عدد
من موادّها الأساسيّة أو على فقرات من موادّ أخرى، الأمر الذي يفرغها من
مضمونها، ويحول دون تحقيق الغاية المرجوّة منها. وكأنّ التوقيع عليها جاء
من باب "رفع العتب" أو لغايات دعائيّة إعلاميّة لا أكثر.
من جهة أخرى لا تزال معاناة المرأة مزدوجة أو مركّبة، لكونها تواجه
صعوباتٍ وأشكالاً من الاضطهاد على مستويين، حيث أنها تشترك في المستوى
الأول مع الرجل من خلال أنّهما يعيشان معاً ظروف التخلّف ومظاهره من القمع
والاستبداد السياسي والبؤس اقتصادي وتردّي الأوضاع المعيشيّة، في بلدان لم
يعد خافياً ارتفاع معدلات الفقر والبطالة فيها، عدا عن انخفاض سقف الحريات
واحترام حقوق الإنسان بفضل فنون الاستبداد وأشكاله المتنوعة. وما الثورات
والاحتجاجات الشعبيّة التي شهدتها وتشهدها بلدان عربيّة عدّة إلاّ الدليل
الأقوى على ذلك.
إضافة إلى أنّ المرأة تنفرد بشكل خاص بما يثقل كاهلها من قهر اجتماعي تحت
سطوة العادات والتقاليد المدعومة بأعراف ومسلمّات موروثة، دينية ومجتمعيّة
تنتمي إلى ظلمات القرون الوسطى. ينتظم ذلك كله ضمن قوانين ذكورية الطّابع،
تفوق المجتمع ـ المتأخّر أصلاً ـ في تخلّفها، قوانين تكرّس العنف والتمييز
وتحمي ممارسيه. والسبب فقط كونها امرأة. وكفى بذلك سبباً في رحاب المجتمعات
البطريركية ذات النظرة الدونيّة للمرأة.
ومما يثير الاستغراب تلك الازدواجية في التعامل مع المرأة من حيث الاعتراف
بها وبحقها في العمل بوصفها قوّة أساسيّة في المجتمع إلى جانب "رفيقها
الرجل" فهي ـ بتكرار ممل ـ "نصف المجتمع". بينما نجد في مقابل تلك الشعارات
الإجحاف والتمييز الواضحين ضدها في القوانين والتشريعات بشكل سافر.
ولعل قوانين الأحوال الشخصيّة بما هي مختصّة بتنظيم جوانب ذات أهمّية كبرى
في حياة كلّ شخص تشكّل واحداً من المعايير الأساسية للدلالة على مستوى
التقدم الاجتماعيّ والحقوقيّ للدول، خصوصاً المسائل التي تتعلق بحقوق
المرأة. وهي في البلاد العربيّة تمثّل واحدة من أبرز علامات التخلّف
التشريعي عن عصرٍ باتت فيه حقوق الإنسان (ذكراً أو أنثى) من مسلمات الحضارة
العالمية الحديثة.
هذه القوانين في كافّة الدول العربية، مستمدة من الشريعة الإسلامية، وتترك
للمواطنين من باقي الأديان والمذاهب أن ينظّموا الأحوال الشخصيّة الخاصّة
بهم وفقاً لشرائعهم وتعاليم أديانهم ومذاهبهم.
وإذا كانت الديانات الثلاث الكبرى (اليهودية، المسيحية، الإسلام) قد
اختلفت في الكثير من الآراء والتفسيرات اللاهوتية والتاريخيّة إلاّ أنّها
اتفقت بل وتناغمت فيما بينها في التأكيد على تصنيف المرأة كتابعة للرجل،
خاضعة لسلطته، ومقيدة في الكثير من جوانب حياتها بإرادته.
من هنا نميل إلى ربط التمييز ضدّ المرأة عضويّاً بالأصوليّات الدينيّة على
اختلافها، وهي كما بات معروفاً في أوج انتعاشها على كافّة الصُعُد. ولمّا
كانت الديانات التي تنبثق عنها تلك "الأصوليّات" هي في معظمها ديانات ذات
ثقافة "ذكوريّة" وتتبنّى نظرة دونيّة وموقفاً تمييزيّاً ضدّ المرأة يصبح من
المنطقيّ جدّاً أن النهوض بواقع المرأة وتمكينها يتناسب طرداً مع انحسار
سيطرة تلك الأصوليات على الفضاء العامّ، الثقافيّ والسياسيّ وتالياً
التشريعي والقانوني. حيث أنّ ما تنتجه العقائد والنصوص والتفسيرات
"المقدّسة" لتلك الديانات يفتح المجال واسعاً للحديث عن شرعنة ممارسات
تمييزيّة ضدّ المرأة، تبدأ بتقييد الحريّة والتدخل في أدق تفاصيل حياتها
الشخصيّة ومصيرها، وصولاً إلى "تأديبها" لينتهي الأمر مع بعضها إلى القتل،
كما في ما يسمّى "جرائم الشرف"، محميّة بقوانين الأحوال الشخصيّة وبعض
المواد والفقرات في القوانين الجزائيّة. عدا عن التمييز الصريح ضدّها في
دساتير بعض الدول التي تنصّ على احتكار الرجل لـ "الولاية العامّة" ما يعني
حرمان المرأة من تبوّء العديد من المناصب في الدولة "احتراماً" للدستور
أسمى القوانين!
من هنا تأتي ضرورة أن علمنة الدساتير والقوانين والكفّ عن اعتبار الدين ـ
أيّ دين ـ من مصادرها، لقطع الطريق على تضمين القوانين قواعد تحطّ من شأن
المرأة وتتعارض مع حقوق الإنسان بشكل عام.
المؤسف هو ما نشهده لدى أعداد كبيرة من النساء اللواتي يدافعن عن واقع
التمييز الممارس ضدّهن، بل ويعتبرن ما يتعرّضن له من عنف واضطهاد على أيدي
زوج أو أب أو أخ "أمر طبيعي لأنّ ذلك من حقّه"!
بالاستناد إلى علم النفس، ربّما تكون تلك من مظاهر حالة "التماهي
بالمتسلّط" وهي إحدى الأواليات الدفاعيّة التي يلجأ إليها الإنسان المقهور
في محاولته للتكيّف مع وضعيّة القهر التي يعيشها، حيث تصبح أحكامه على نفسه
ونظرته إليها هي نفسها أحكام ونظرة المتسلّط نحوه، فتفترض المرأة مثلاً
أنّ الطبيعة هي التي جعلت الرجال أعلى منزلة من النساء، وما إلى ذلك من
المقولات الذكوريّة.
إنّ قضية المرأة هي قضية المجتمع ككلّ ولا شكّ أنّ الحل الجذري لابدّ أن
يتسق مع تنمية شاملة. لكنّ ذلك لا يلغي ضرورة البدء بمحاولات للنهوض بواقع
المرأة وتحرير طاقاتها الخلاّقة، من هنا نجدّد التأكيد على ضرورة الترويج
لمفاهيم علم النوع الاجتماعي (Gender) باعتباره أحد المداخل الأساسيّة
لتغيير الثقافة السائدة التي تتبنّى مواقف تمييزيّة ضد المرأة، من حيث ما
يعنيه ويعنى به ذلك العلم في مجال دراسة المتغيرات حول مكانة كل من المرأة
والرجل في المجتمع بغض النظر عن الفروق البيولوجية بينهما، وتعميق الثقافة
الجندريّة التي تهدف الوصول إلى التعامل مع كل منهما من منطلق كونه
إنساناًُ بمعزل عن جنسه. فيصبح منطق المساواة في الفرص هو المبدأ الأساس
ليتمكن كل منهما من أداء دوره الاجتماعي، وهو السبيل لتطبيقات عمليّة
تستدعي بالضرورة المساواة القانونية من حيث النظر إلى الفرد كإنسان أيّاً
يكن جنسه، وبالتالي تهيئة بنية تشريعيّة وقانونيّة، تكون أمام المجتمع لا
خلفه، تعيد الاعتبار للمرأة بما يتناسب وحقيقة دورها الفعليّ في الواقع.
كما من الضروري ألا تختلط الأمور، فيتحولّ النضال من أجل حقوق المرأة إلى
صراع بين الجنسين، وهو خطأ وقعت فيه بعض الحركات النسويّة ممّا انعكس سلباً
على إمكانيّة كسب حلفاء لهنّ من "معسكر الرجال".
إنّنا مع إقرارنا بالمكتسبات التي حقّقتها المرأة خلال قرن من الزمن، إلاّ
أنّ ذلك لا يلغي حقيقة أنّ الكثير من العنف والتمييز لا زال موجوداً في
مجتمعاتنا وبين ثنايا قوانيننا وتشريعاتنا، الأمر الذي يقتضي عدم دفن
الرؤوس في الرمال، بل العمل بدأب لمتابعة مسيرة النهوض بواقع المرأة في كل
مكان.
في الذكرى المئوية، وردةٌ وبسمةٌ وتمنّياتٌ طيبّة لكنّ جميعاً. وكلّ عام
وأنتنّ أفضل حالاً من سابقه!