كان نرسيس يأتي كل يوم لكي يحدق في البحيرة، لكي يطمئن إلى صورته. امرؤ يقف في امتلائه، ينظر إلى اكتمال صورته، إلى حضوره المرآوي. يسرف في النظر إلى انعكاساته حتى يجف ماء العين أو تنضب البحيرة. قرر أن يذهب إليها فمات. بكت البحيرة/المرآة نرسيس فجفت أو تبعته إلى النهاية، فبدورها كانت تحدق لكي تمتلىء، لكي ترى صورتها في مرآته/عينيه. لم يعد نرسيس يأتي لكي يقف على حافتها منكفئًا على ذاته، متلألئًا في ظهيرته الخاصة.
سألت الأوريات، ربات الغابة (ربما فوكو أو لاكان أو.. من كان يقف معهما كشهود للواقعة، شهود التحديق): من الذي يحدق؟
لاكان J. Lacan يخبر بأن من ارتكب التحديق هو الآخر الذي لم يظهر في المشهد. من هو هذا الآخر؟ الآخر الذي رأني. كان نرسيس مسكونًا به، بينما الآخر كان يحدق فيه، يلتف التفاف حبل حول الجسد، يدور حوله، يحيطه. الآخر هو الخيالي الذي يحل في المرآة. هذا الذي يسن شرائع الذات باسم الأب وبقانون الأب، وهو مشرع قوانين هذا المجال، وهو منشىء تخيلاته وصوره. أنا بدوري ضحية التحديق الذي طالني في منزل الأب، وفي مفازته المحروسة بشرائعه وأبجديته الأبوية. أنا رغبة الآخر، الآخر يتكلم عبري ونحوي وبي وأنا ألوذ بالبحيرة خوفًا من الصور التي يزين بها أبي المنزل/البيت، صورتي تتلألأ فأذهب نحوها، هناك، فأموت. لا خلاص من البيت ولا من صور الأب الميت.
فوكو يتفحص رسوبيات هذا الموقع ويقلب أرشيف العيادة (في ميلاد العيادة 1960) ويضع يده على سجل التحديق بوصفه أداة السلطة الطبية لإخضاع جسد المريض/الخارج/المجنون، وهي الأداة التي أثبتت فاعلية عالية في السيطرة على جسد النزيل، كان عليه (المجنون) أن يدرك أنه موضوع النظرة، هذه النظرة التي لا يمكن الرد عليها، التي من شأنها أن تنظم العالم من حوله لكي يتطابق مع صورته، بوصفه غريبًا، شاذًا، مجنونًا. وكان على “توك”، طبيب مستشفى دار الشفاء بانجلترا، “أن ينظم ما يشبه الفرجة الإحتفالية حول سلوكيات النظرة” (فوكو). إن السلطة ليست عمياء كما يعتقد بل هي عين؛ تحرس وتراقب وتكافىء أيضًا.
لقد انتقل مفهوم التحديق بكامل فاعليته، بل وتم مضاعفته وتهجينه عبر الدراسات “ما بعد النسوية” ليعمل على سطح أكثر تشتتًا ومرآوية. لقد تساءلت لورا مالفى عن الطريقة/العين التي ينظر الرجل بها إلى المرأة، وطريقة نظر النساء إلى أنفسهن في المتعة البصرية والسرد السينمائي، وكشفت عن تمثيل المرأة بوصفها موضوعًا قابلاً للامتلاك وللغواية، كائنًا مثيرًا ومغريًا، تقدم إلى مشاهدين ذكور وتلمع أمام كاميرا ذكورية وممثلين ذكور، وهذا لا ينفصل بالضرورة عن طرحها كسلعة عبر سرد سينمائي يعمل على مضاعفة العالم الخيالي الذكوري وذلك عن طريق الرموز الجنسية والصور العارية، فيدخل المشاهد في أحلامه وهلوساته؛ فعندما أكون في السينما يكون الآخر الذي يظهر على الشاشة موضوعًا لتحديقي. لقد تم تصميم المرأة لتكون فقط موضوعًا للإغراء. وكشف خطاب السرد السينمائي عن ثنائية ذكورية وهي؛ المرأة السلبية/ في مقابل الرجل الإيجابي. وهكذا تظهر المرأة بوصفها آخر، أو ليست برجل، فعبر الحيل الذكورية تصبح المرأة امرأة، وهي لم تولد كذلك كما تقول سيمون دى بوفوار. ووفقًا لتحديق الرجال تنظر النساء إلى أنفسهن، فالمرأة لا تنظر إلى نفسها في مرآتها الخاصة، بل تتطلع لها بواسطة عين/مرآة الرجل. يقول بيرجر من خلال دراساته للجسد العاري في لوحات نساء عصر النهضة:
الرجال يفعلون، والنساء يظهرن، والمرأة تشاهد نفسها وهي يُنظر إليها.
وعبر سلسلة مترابطة من التحديقات تتحول المرأة إلى مرآة الرجل تعكس خيالاته ورغباته، وتصير النساء أشياء الرجل الجميلة المغرية التي يحتفظ بها في المنزل أو في الصور أو في العمل وفي الترفيه والمتعة. لقد خلقن كوجوه حسنة وجنات وعيون ماء وحوريات. ومرة ثانية يظهر لاكان:
التحديق هو امتلاك الآخر في مجال الرؤية،
لقد أصبحت المرأة امتدادًا لذات الرجل أو عبدًا في إمبراطورية الذات الذكورية. فالتحديق يجعل الذات حاضرة أمام مرآتها، ويجعل المرأة مرآة مصقولة لتعكس صورة المحدق، ويتم تجهيزها (المرأة) لكي تكون مرآة أكثر لمعانًا، فتنة، تأثيرًا، وموشحة بلباس الفضيلة أيضًا، لكي تعكس قيم وخيالات المجتمع الأبوي، ومتطلباته الدينية والدنيوية. إن التحديق هو استراتيجية ذكورية لتثبيت المرأة في رمزها التاريخي/الممثل، أي تثبيتها كرمز ثقافي وهوية. هو استراتيجية لتثبيتها كآخر، فهي ليست رجلاً، بل كائنًا غريبًا، شاذًا، ناقصًا، ضلعًا أعوج…الخ. وهذا لكي يبقى الرجل على امتيازه بوصفه الذات/الأصل/العقل.
ربما علينا أن نقوم بخطوة أخرى تجاه لفظة التحديق، أن نتفحص دلالاتها في معجمنا العربي. جاء في لسان العرب أن
حدَقَ به الشيءُ وأَحدقَ: اسْتَدارَ؛ وكل شيء اسْتَدار بشيء وأَحاطَ به، فقد أَحدَقَ به. والحَدِيقة: كلُّ أَرض استدارت وأَحدق بها حاجزٌ أو أَرض مرتفعة؛ وقيل: الحديقةُ البُسْتانُ والحائط وخص بعضهم به الجَنةَ من النخل والعنب؛ لا يُحْدَق عليه إلا وهو مَضْنُون به مُنْفِسٌ، وكلُّ بُستان كان عليه حائط، فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يُقَل له حديقة.
وكأن فوكو ينطق بحفرية لسانية من رسوبيات هذا المعجم. استدار والتف لكي يستحوذ أو يقبض على شيء، لكي يسوره، يحيط به، يحفظه ويصونه. وكأن التحديق يأتي للحماية أو للتعيين مثل سور أو ساتر، أو غطاء. فالحديقة إذن لا تسمى حديقة بدون سور، فهي كالمرأة لا تصبح امرأة بدون تحديق. أما في أكسفورد فيأتي الفعل gaze مرة بوصفه نظرة حادة stare، ومرة gawk نظرة طويلة تنم عن غباء، مثل نظرة السائحين للمشاهد المحلية وهو ما يعرف بالنظرة السياحية التي تعكس اختلاف المكانة الاجتماعية والحضارية، وأيضًا تأتي للدلالة إلى نظرة وقحة أو فضولية، ويشير Michael Argyle إلى إن لفظة gaze قد تشير إلى النظرة الملحقة peripheral وهي
النظرة التي تلحق الآخرين ضمن مجال الرؤية، ولا تركز على الرأس والوجه، بل على الجسم كله.
وخبرات النساء تضيء ما يشير إليه معجم أكسفورد، فهن خبرن بشكل جيد كيف يستقبلن نظرات الرجال في المجال العام سواء في الشارع أو في المواصلات أو في الميادين أو في العمل. وقد عبرت نساء كثيرات على الارتباك الذي يصيبهن والتوتر الذي يلحق بهن بسبب هذه النظرات المتفحصة والمراقبة، ويتحدثن عن ذلك في صيغ بلاغية من قبيل “حسيت كإنه بيعريني، أو كأني ماشيه عريانة” أو “رجلي خبطت في بعضها”، وهناك بعض النساء يرددن بأنهن يشعرن بالنظرات التي تأتيهن من الخلف، فيتوقفن فجأة لكي يمر من كان يحدق بهن. والنساء يصنفن الرجال تبعًا لنظراتهم، ففي فيلم سارق الفرح لدواد عبد السيد عبرت الشخصية التي لعبتها لوسي عن هذه النظرات، فقالت:
فيه نظرة تحسيها بطبطب عليك ونظرة تحسيها زي الزيت على جسمك، وفي نظرة تبقى عايزه تنهشك.
ولا يرتبط التحديق هنا بالوقاحة والغباء فقط ولكنه يرتبط أيضًا بالانتهاك والإهانة، فلقد تحولت النساء إلى موضوعات جنسية وفتشية. فالرجال لا ينظرون إلى المرأة بوصفها ذاتًا ولكن باعتبارها فريسة أو شيئًا ينبغي السيطرة عليه، يحضرن بوصفهن موضوعات للقنص. وتشير ريتا فريدمان في أسطورة المرأة بأن التحديق في الفتيات ومعاكسات الشوارع والصفير يؤدي إلى إدامة الاعتقاد بأن مظهر المرأة ملكية عامة وأن تشييئها أمر مشروع. (وما حدث في أيام عيد الفطر مؤخرًا وتداولته الصحف والمدونات مثال صارخ على التحديق الذي يستثمر جسد المرأة إلى ما لانهاية. هذه الحشود التي هرولت باتجاه النساء في الشوارع هي نفس الحشود التي استخدمها النظام في انتخابات الرئاسة 25 مايو 2005 وانتهكت النساء في الشوارع وفي وضح النهار فيما عرف بالأربعاء الأسود).
الدولة أيضًا تحدق
لا تظهر الدولة كتجسيد لعقد اجتماعي كما هو الحال في أوروبا، حيث الميلاد والنشأة، بل كمشروع أبوي بامتياز، خليط فذ من البطريركية والحداثة الزائفة، ربما بتعبير هشام شرابي “أبوية مستحدثة”. في هذا المجتمع الأبوي المستحدث، حسب شرابي،
يهيمن جهازان متوازيان، عسكري- بيروقراطي وبوليسي سري، هذا الأخير يتحكم بشئون الحياة اليومية، فيقوم بضبط مجريات الأمور المدنية والسياسية.
وبناء على ذلك يتحرك المواطن وهو يشعر بعين ترصده، بأنه مراقب، فهناك جيش من المحدقين أو “البصاصين” يزرع الطرقات والمواصلات وأماكن العمل والترفيه وأدوار العبادة. فهل كان اختراع أوراق الهوية من أجل تسيير عملية المراقبة والتحديق، أم جاء التحديق من أجل تثبيت الذات وتشكيل هوية؟
لقد عملت الدولة، عبر تحديقها في الحركات النسوية، على إنتاج ما أطلق عليه “نسوية الدولة”، حيث قامت الدولة بصياغة مطالب نساء الطبقة الوسطى اللواتي احتشدن من أجل الحق في التصويت والترشيح عام 1956، وفي نفس العام تم حل الاتحاد النسائي وإلحاقه كمكتب في الاتحاد الاشتراكي. لقد وسعت نسوية الدولة مكاسب نساء الطبقة الوسطي وذلك في مقابل إدماجهن في المشروع الوطني،
وقد أدى اعتماد النساء المصريات على الدولة – المساندة لهن شكليًا – إلى ترك القوانين البطريركية كما هي خاصة في الأسرة،… الأسوأ أن نسوية الدولة أسست لممارسات بطريركية جديدة في المجال العام. (ميرفت حاتم).
وترى مان Mann أنه بحصول النساء على حقوق قانونية فإن شكل السلطة الأبوية في الدولة الحديثة قد تطور ليصبح سلطة أبوية جديدة neo-patriarchy. ووفقًا لشرابي ومان تقترح ولبي Walby:
رصدًا متعدد الجوانب للسلطة الأبوية فتفرق بين شكلين أساسيين للأبوية من منطلق العام والخاص، فالسلطة الأبوية الخاصة تعتمد على الاستبعاد النسبي للنساء من مجالات الحياة الاجتماعية بخلاف المنزل وكذلك الاستيلاء على خدماتهن من قبل بعض أفراد يتمتعون بسلطة أبوية داخل حدود البيت، في حين تعتمد السلطة الأبوية العامة على عنصري التوظيف والدولة، حيث لا يتم استبعاد النساء من المجال العام وإنما يتم إخضاعهن داخله.
لقد اتخذت الدولة من حضور النساء وسيلة لنيل التأييد وكسب المشروعية، وأيضًا علامة على حداثتها. وهناك من رأى أن هذه التعبئة العامة فرصة لولوج النساء إلى المجال العام ونيل حقوقهن، وأن هذه التعبئة بمثابة “الباب المفتوح”. ولكن سرعان ما اكتشفن أن هناك من يمسك بالمفتاح وبيده قوانين اللعب في هذه الساحة. هناك خلف الباب دهليز يقود إلى متاهة أبوية، وهذه المتاهة تحيط بكل الجسد وتسيجه، لا من أجل استثماره ودمجه في قوة العمل ولا من أجل إخضاعه وحسب بل لكي يعكس صورة النظام. وهنا تصبح النساء مرآة حداثته ومشروعه في التنمية، مثلها مثل صورة مولد كهرباء أو أية آلة حديثة.
إذا كان الخطاب القومي أضعف قدرة النساء على تطوير خطاب نسوي خاص بهن مقابل بعض المكاسب التي نالتها نساء الطبقة الوسطى، خاصة مع استبعاد تام لنساء الريف، فحقبة السادات ومبارك ألقت بهن إلى تحديق ذكوري للنيل من مطالبهن وأيضًا لدعم قدرة الدولة التفاوضية مع هذه الجماعات الذكورية السلفية، ولكنها لم تترك الحقل بكامله لحرث السلفيين بل سعت إلى سيطرة أخرى وذلك عبر تشريعاتها ووزاراتها ومجالسها القومية واحتفالاتها. إن المرأة التي تستجيب لتحديق الدولة، أي التي تحيا وفق شروط الدولة/الذكر/الأب، يتم تكريمها، مرة بوصفها أمًا مثالية، أو امرأة فاضلة،…الخ، يتم تكريمها لأنها لعبت دورًا في خدمة المجتمع الأبوي واستجابت لتقاليده وظروفه الخاصة وأنجبت له رجالاً..الخ.
والإسلاميون يحدقـون
إذا كانت الدولة قد حدقت من قبل من أجل إدماج النساء في مشروعها الوطني وتحدق الآن من أجل دفعهن إلى سوق العمل واستثمار جسدهن بوصفهن عمالة أرخص وأقل عنادًا من الذكور فإن الإسلاميين يحدقون من أجل الحصول على هوية أصيلة غير ملوثة بمياه الحداثة ووضع حد هوياتي بين الغرب/الآخر/اللاأخلاقى وبين إعلاء شأن الداخل الثقافي المحاصر، بالإضافة إلى إعادة ترسيم الحدود بين الجماعات الثقافية والدينية المختلفة في الداخل. إن تحديق الإسلاميين يأتي في محاولة للرد على الآخر/المستعمر، أي بوصفه تجربة جرح. والنساء في هذا السياق يمثلن خط دفاعهم الأول والأساسي عن خصوصية أو هوية ثقافية. ويظهر الخطاب الأخلاقي الذي تحتله المرأة بوصفه نهاية التحديق واكتماله، هو نوع من الاستيلاء على هذا الجسد الذي تم ربطه مسبقًا بالهوية والدين في صورته النقية الماضوية. لقد وضعت التيارات السياسية الإسلامية يدها بالكامل على تراب ما هو أخلاقي وتم تصعيده إلى الإيديولوجي والسياسي، بل صار هو تمام الإيديولوجيا والسياسة. لقد وضعت التيارات الإسلامية نفسها حارسًا لبوابة القيم والأخلاق وأيضًا طرق النجاة والتقدم، وقدمت النساء على أنهن أساس هذا التقدم وتلك النجاة الموعودة، بوصفهن أمهات المسلمين، ولا رفعة للأمة بدون امرأة مسلمة تحفظ شرع الله/الذكر وتصون عفتها وتحافظ على ذكورها من الفتنة والغواية. وفى تطور واضح في خطاب هذه الجماعات لم يعد ينظر إلى الحجاب بوصفه اعتزالاً بل بوصفه طريق المرأة المسلمة إلى المجال العام وتدعيمًا لقدرتها التفاوضية في مجال يتحكم فيه الذكور، وأيضًا بوصفه شارتها الدينية وبرهان إيمانها، ولم يعد هؤلاء يطالبون النساء بالعودة إلى المنزل، رغم التأكيد على أنه مهمتها الأولى، ولكنهم يسعون إلى استثمارها ايديولوجيًا في معركتهم الدينية واقتصاديًا وسياسيًا ضد النظام القائم.
ولعل ما حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ودعوة النساء للخروج، بوصفهن الكتلة الصامتة، للتصويت للإسلام/لأجسادهن/ولملابسهن/ولآخرتهن لدليل على هذا الاستثمار الجيد للتحديق. في هذه الحالة، في تقديري لسنا أمام “أبوية مستحدثة” كما يذهب شرابي، بل أمام أبوية يمكن أن نطلق عليها “أبوية أصولية” تؤسس في المجال الخاص قيمًا أبوية تقليدية، وتسعى في المجال العام إلى تأسيس هوية تقوم على الربح والخسارة السياسيين، وتدمج ما هو حقوقي ومدني بما هو ديني وشعبوي.
سرد مضاد للتحديق
إنك ترى، ولكنك لا تستطيع أن ترى، إنك أعمى أمام حقيقة أن الأزهار، حتى دون أن تعرض، وقبل أن يوعد بها، تسرق منك باستمرار، وتخطف. (دريدا عن جان جينيه).
في المقهى بينما كان جياكوميتى يقرأ، أثار عربي بئيس، يكاد يكون أعمى، ضجة في المقهى لأنه شتم زبونًا فرنسيًا… وأخذ هذا الأخير يحدق في الأعمى بشراسة ويحرك فكيه كأنه يمضغ غيظه. الشخص العربي نحيل.
يزمجر الفرنسي متوجهًا إلى العربي الذي شتمه:
– لو لم تكن هذه العصا البيضاء…
أعجبت، في أعماقي، بكون عصا بيضاء تجعل هذا الأعمى أكثر قداسة من ملك، وأقوى من أكبر مبارز للثيران. (جان جينيه: الجرح السري، ترجمة محمد برادة).
إننا في صدد البحث عن هذه العصا البيضاء، عن سرد مضاد يقلب التحديق ويرده إلى ذاته، سرد من أجل الهامش والتابع والآخر، سرد من أجل خلخلة الذات الذكورية المتعالية، سرد صغير لذات تتوسل المعرفة والكشف. وحيلتها في ذلك هي التلصص والاختلاس لا التحديق والتجريد. فالمرأة تختلس النظرة glance أو تتلصص. هذه النظرة المختلسة أو المتلصصة التي تحوزها من شأنها أن تقف ضد التحديق، وتحدث شقًا صغيرًا في جدار الأبوية، هي العصا البيضاء التي نبحث عنها، هي التجاذب الأعمى المتبادل بين الذوات. هذا التجاذب نقيض للأبوية بفعل عنصري الإرادة والاختيار، هو النظر إلى خارج الذات، التطلع إلى الآخر لا بوصفه تجريدًا بل جسدًا معينًا وتاريخًا متجسدًا. هذا السرد الصغير/المضاد متواطىء مع ذاته ومع موقعه الهامشي، حيث خبرات الاضطهاد والاستبعاد والألم، وهو – بفعل هذه الخبرات – قادر على كشف الخطابات التي تمارس نفوذها، وتجعل النساء مادتها، وعليهن تتأسس شرعيتها. هذا الخطاب لا يمكن السيطرة عليه أو محاولة دمجه لأنه لا يختزل إلى صيغة أيديولوجية ولا يسعى إلى مركز أو عمق، ولا يتنطع بهوية مفارقة للسيرورة التاريخية، ولا يهدف إلى تحديق مضاد متمركز حول النوع يدور في فلك أبوية- مضادة، بل هو مسكون بقلب العلاقات وخلخلة كافة البنى المعرفية والاجتماعية القائمة، وكشف وهم الحكمة الأبوية والأمثولة التاريخية للتمركز.
إن الحركات النسوية أو النشاطات النسوية تقع في مواجهة تحديقين: تحديق الخارج عبر طرح تمثيل للنساء كافة على اعتبار أن النوع عابر للقارات والطبقات، وإن المرأة أخت للمرأة في أي مكان، هذا الطرح يذكرك بالمسلم أخ للمسلم ولو في باكستان؛ وتحديق الداخل مرة تحت رعاية الأمة والوطن، ومرة تحت نزق الهوية، فعبر خطاب وطني صاغت النساء البرجوازيات، هذه النسوية المنتخبة، خطابًا ممثلاً للريفيات والفقيرات، فالنساء البرجوازيات هن اللواتي يقمن بالبحث وإنتاج المعرفة حول وضعهن ووضع النساء الآخريات، ومن هنا عليهن أن يتلمسن طريقًا ينأى بهن عن التحديق ويكشف عن التناقضات التي تحيط بمواقع النساء داخل الهياكل الإنتاجية المختلفة وأيضًا عن وعيهن المحجب والمبطن للتوصل إلى فعل سياسي مغاير، إلى استكشاف نقاط المقاومة التي يقفن عليها، واستكشاف قدرتهن أو حيلهن الضعيفة في مواجهة الاستبداد والفقر المحدقين بهن. فمثلاً لا يمكن أن ننظر إلى النساء وكأنهن خضعن لمطالب التحديق برمتها وهذا ما يكشف عنه تحجبهن، ولكن في الوقت الذي يتحجبن فهن يتجملن؛ بمزيد من الإكسسوارات والمساحيق ونوعية القماش…الخ. وهناك بعض النساء يفسرن امتثالهن للتحديق ولجوؤهن إلى الحجاب بدافع الحصول على الأمن النابع من قبول المجتمع لهن، فالخوف يكمن في إحساسهن بالرفض من قبل هذا المجتمع. ويمكن النظر إلى هذا على أنه حيلة من حيل التوافق أو طريقة من طرق المهادنة.
ما هو المأسوي؟
المأسوي أن تستثمر السلطة وهذه الجماعات هذا التحديق حتى يصير موضوعًا للمتعة واختبارًا للسلطة والنفوذ، فترغب النساء في التحديق مثلما ترغب الجماهير في السلطة. وهنا نعود إلى “لسان العرب” عندما قال بأن الحديقة لا تسمى حديقة ما لم تكن مسورة أو يدور بها سور أو حائط. فهل المرأة لا تسمى امرأة بدون تحديق وبدون محدقين؟! ربما سلوك المنقبات يظهر ارتباط التحديق بالسلطة، فهن يسرن في الشوارع وكأنهن يتمتعن بسلطة أو بفضيلة يجب على الجميع احترامها وتقديرها، فعلى الرجال أن يوسعوا لهن طريقهن، ويتكلموا معهن عبر مسافة، وأن يقفوا في المواصلات لجلوسهن وكأن لسان حالهن: لقد منحناكم الفضيلة، وتحاشينا غوايتكم وفتنتكم، وحفظنا فروجنا فعليكم إذن أن تقدرونا حق تقدير!!
في النهاية إذا كان رولان بارت يرى أن كل كتابة سياسية هي استبداد من نوع آخر، فيمكن القول أيضا أن كل كتابة نسوية يقوم بها رجل هي أيضًا تحديق بطريقة ما. وأنا لست بمنأى، لكوني أحدق أحيانًا..!