{1} للبردوني
– رحمه الله! - بضع عشرة مجموعة شعرية، بدأت رحلة صدورها سنة إحدى وستين
وتسعمائة وألف للميلاد، وحالت وفاته في سنة تسع وتسعين وتسعمائة و ألف دون
غايتها. من ثم أعتمد في رؤيته على سابق قراءتي للتسع الأولى منها التي حصلت
لي، ثم على النظر الحاضر في مجموعته الثامنة "ترجمة رملية لأعراس الغبار"
الصادرة سنة ثلاث وثمانين، بعد أربع سنوات من المجموعة السابقة لها، وقبل
ست عشرة من وفاته، أي في زمان فورة نهجه الجديد وأوج اضطرامه.
رسائل البردوني
يبث البردوني في شعره ثلاث رسائل متداخلة: القومية، والوطنية، والاشتراكية،
بادي التعصب في الأولى والثانية، والسخط في الأخرى، دون أن يخرج في أي من
ذلك عن العُرْف إلى النُّكْر.
{2}
حينما
يقرأ لأمته الكف يعجب:
"هل هذا الجاري مفهوم يبدو مـجهولا معلوم . . .
أدري أني محتـل وأرى فوقـي خيـل الـروم
أدري لكن ما الجـدوى من علمي إني موصوم
هل يبنيني إدراكي أني مـن أصـلي مهـدوم
هـل يشفي من أزمـاتي تـرديدي إني مأزوم" ص157، 169
وحينما يسرد علامات العالم المستحيل يقول:
"قيل تنشق بذرة عنه يوما قيل تدمي البروق عنه السحابا
ربما كان تحت حزن الدوالي وقريبا يجتـاز ذاك الـحجابا" ص187
إنه يرى في كف أمته تهاويل لا تصدق، وهي قائمة واقعة بها، يعلمها كل من
ينتمي إليها، كما يعلم أن علمها وحده غير مجد شيئا. وربما حمله على استعمال
ذلك القالب في بناء قصيدته، ما يبدو عليه ابن هذه الأمة العالم بواقعها
الحزين، من عدم مبالاة به، وكأنه يتوهمه ولا يراه، غير أن الشاعر لا يملك
إلا أن يطمح إلى واقع سعيد وإن بدا مستحيلا.
{3}
وحينما
يسمر مع أم ميمون بحكايا مفاخر اليمن يقول:
"آباؤكـم كانوا أعز على ذهب المعز وكل ما يغوي
ماذا أقص اليوم كم سقطوا والموت لا يغفو ولا يثوي
كان الصباح كأنف أمسية كان الدجى كالملعب الجوي
والآن هل ألقى معازفه زمن الأسى كي يبتدي شدوي
وتنحنحت كي تبتدي خبرا فبكت فغاص أمر ما تحوي
حدث الذي والدمع يسبقها ويقول عنها غير ما تطوي". ص228-229
إنه يمجد زمان البطولات العزيز السالف، ويريد أن ينعم بعاقبته الواقعة غير
أنه لا يستطيع أن يخدع نفسه، فالواقع اليمني كالواقع العربي، حزين.
{4}
وحينما
يتفقد حوادث هذا الواقع اليمني العربي، ويتسمع إلى صخب دعوات أبواقه
المزيفة وشعاراته الطارئة الجوفاء، يراها أعراس غبار لا أصل لها، رحى تطحن
قرونا- كما قال المعري في مثلها- فيقول:
"يا ريح هل تعطـين غير قش من أين تاريخ الركام بعلي
غدا تـراني أستـهل عهـدا لأنني ضـيعت مستهـلي
في القلب شيء يا زمان أقوى لا تنعطف من أجله وأجلي
أحب ما تـولين مـن عطـايا يا هـذه الأيام أن تولي". ص30
فليس ثم عطاء إلا الوهم، ولا اشتراك إلا في العدم بالغنى وبالفقر جميعا، إذ
لا قيمة لغنًى مُبْطِر ولا لفقر مُقْعِد.
{5}
ولقد
كان من آثار عصبيته القومية كثرة استعمال مفردات الثقافة العربية، أحداثا
وشخوصا وعلوما وفنونا، فهي متغلغلة في قصائد المجموعة التي تنوب عن
المجموعات الأخرى أحسن نيابة، حتى إن الشاعر يخص ذلك أحيانا بالقصيدة حين
تصلح المفردة الثقافية العربية، رمزا خالدا لقضاياه الثلاث السابقات ، كما
فعل في قصيدتيه "وردة من دم المتنبي"، و"تحولات يزيد بن مفرغ الحميري"،
يقول في الأولى:
"شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة صبىً مدلهما
كلما انهار قاتل قام أخزى كان يستخلف الذميم الأذما
هل طغاة الورى يموتون زعما يا منايا كما يعيشون زعما
أين حتمية الزمان لماذا لا يـرى للتحـول الـيوم حتما
هل يجاري وفي حناياه نفس أنـفت أن تحـل طينا محمى…
التعاريف تجتليه وتغضي ألتناكير عنـه تـرتد كلــمى
كلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونـه وهـو أظـما
كلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحـمى
حاولوا حصره فأذكوا حصارا في حناياهم يدمي ويـدمى
جرب الموت محوه ذات يوم وإلى اليوم يقتل الموت فهما". ص56،60-61
يبرز المتنبي في القصيدة فارسا متحققا بمعنى الفروسية، عالي الهمة، طامح
الأمل، شديد الأنفة، يريد الجليل الأسمى لأمته ووطنه ونفسه، ويضيق بالحقير
الأدنى، المستولي على أمته ووطنه ونفسه، فيشذ عن الخضوع له غير عابئ بما
يصيبه من تضييع وتقتيل، فيضيِّع هو نفسُه تضييعَه ويهتدي، ويقتِّل هو نفسُه
تقتيلَه ويعيش!
ومن عصبيته القومية وقوفه في شعره عند العمودي ، فلم يتجاوزه إلا في
قصيدتين من سبع وثلاثين، استعمل المشطر في الأولى- وهو نمط من التجديد
العروضي قديم- وتعديد القافية في الأخرى، ثم استعمل عشرة بحور، لبعضها عنده
أكثر من صورة، ثم استعمل في روي القافية واحدا وعشرين حرفا من حروف المعجم
بين المعروف بكثرة الوقوع رويا كالراء والميم واللام والنون، والمعروف
بقلته كالكاف والشين والواو والهاء، والمعروف بندرته كالطاء والغين والثاء
والذال.وأنا لا أخلي ذلك من أثر عماه.
لقد انقسم الشعراء منذ قديم طوائف أغرت العلماء بالنظر إليهم من جهتها، عسى
أن يكون لها في شعرهم من أثرٍ وجَّههم إلى ما اتجهوا فيه إليه، فدرس لويس
شيخو شعراء النصرانية، ودرس بعض أصحابنا شعراء الدعوة الإسلامية، ودرس
الدكتور عبده بدوي الشعراء السود، ودرس الدكتوران عبدالحليم حفني ويوسف
خليف كل على حدة، الشعراء الصعاليك، ودرس آخرون الشعراء اللصوص، ولا تقل
طائفة العميان عن تلك أهمية، بل ربما زادت عليها، إذ الصورة التي أصابها
عماهم، موطنُ عبقرية الشعراء. والحق أن للجاحظ رسالة طريفة في البرصان
والعرجان والعميان والحولان، ربما استطرد فيها إلى ما يفيد في ذلك.
لقد أستطيع أن أقول معتمدا على سابق اطلاعي على شعر الأعشَيْن وبشار
والعكوّك والمعري والحبسي العماني والبردوني اليمني، وعلى شعر بعض زملائي
من العميان، إن هذه الطائفة أشد تمسكا بالعمودي ومبالغة في الأخذ به، على
رغم أن التجديد حولهم من قديم وقد اطلعوا عليه، ولا ريب في أن لعماهم أثرا؛
إذ يستوفز سمعهم ويتعلق بما ألفه.
{6}
ولقد
كان من آثار عصبية البردوني الوطنية كثرة استعمال مفردات الثقافة اليمنية،
أحداثاً وشخوصا وعلوما وفنونا متغلغلة في قصائد المجموعة على النحو السالف
في آثار العصبية القومية، نفسه، فالرسائل متداخلة كما سبق أن ذكرت، غير أن
الأمر هنا أشد وضوحا لشدة حضور الوطن الخاص والأهل، بالقياس إلى الوطن
العام والأمة. وليكف دليلا أن البردوني حينما تحدث عن قصائده في قصيدته
"الصديقات"، قال:
"هن أنى ذهبن وجه بلادي جئن عنه وجئن منه اختصارا
أي أسمائهن أشـذى نثـيثا أي أوصافهن أشهى ابتكارا
قد أرى هذه تعزا وتبدو تـلك صنعا هاتيك تبدو ذمارا
تلك تبدو بيحان هاتيك إبا تلك لحجا هذي تلوح ظفارا
قد أسمي هذا سعادا وأدعو هـذه وردة وهـذي النوارا
هن ما شئت من أسام وإني كيفما شئن لي أمـوت اختيارا". ص12 –13
إنه يرى في قصائده معالم اليمن، لأنه يرى في معالم اليمن قصائده، تخرج
القصيدة مبنى كالمبنى أو طريقا كالطريق أو جبلا كالجبل أو مدينة كالمدينة
أو فتاة كالفتاة، عفوا لا قصدا وقصدا لا عفوا لأن غايته اليمن ولأن اليمن
غايته، في نمط فريد من الحلول أو الاتحاد بين الشعر والوطن. ويتصل بذلك
عشقه الأمكنة الطبيعية وكرهه الأمكنة الصناعية، وكأنه يرى الأولى خالصة
لليمن والأخرى مشوبة بغيره:
"فتموت صنعا وهي توقد فوق نهديها النيون
ويقال تولم للردى وتصوغ من دمها الصحون". ص16
{7}
وقد
كان من آثار سخطه الاشتراكي، أن أنكر على الفقير قعوده عن حقه، كما أنكر
على الغني بطره، وأن أنكر على المحكوم استكانته، كما أنكر على الحاكم
طغيانه، يقول في قصيدته "زامر الأحجار":
"موطني أدعوك من تحت الخناجرْ والى زنديك من موتي أسافرْ…
موطني هل أكشف الغور أما يوجز البرقُ المصابيح السواهر…
يرتقي العهر على العهر إلى آخر المرقى لأن الـسوق عـاهر
ولأن الشارع الشعبي على زحمة الأهل لغير الأهـل شـاغر
هذه الموضات أعراس بلا أي عرس هكذا الموت المعاصــر
أيها الأسواق من ذا ها هنا إنها ملأى ولــكن مـن أحاور
ذلك الدكان يعطي غير ما عنده هذا بلا حــق يــناور
ذاك ماخور بلا واجــهة ذاك ذو وجــهين ودّيّ ونـافر
كل شيء رائج منتعــش هل سوى الإنسان معروض وبائر
تلك أصوات أناس لا أعـي أي حرف أصبح الإسمنت هادر
يا فتى يا ذلك الآتي إلى غــيره يرنــو صباح الخير صابر
سنة تبحث عن بيت سدى أتعب التفتيــشَ مسعود وشاكر
إن هداك البحث عن بيت إلى مقعد في أي مقهى لست خاسر". ص137، 140، 142-144
صباح الخير شاكر، وصباح الشر ثائر، فيا أيها الفتى الوطن الصابر على عهر
سوق هذا الزمن، إن عثرت بموضع لرجليك في أي مكان مبتذل، فافرح به بيتا عظيم
المأوى، ولا تَشَكَّ خسران الصفقة؛ فقد رضيت أن يُمنع من الحق أهله، وأن
تُعشي العيونَ أضواءُ الزيف، وأن يُميَّز بعض الناس من بعض بغير حق، وأن
يصير الرياء دينا، والإنسان سلعة يطغى على صوته الحي، صوت المال والجاه
الإسمنتي.
وسائل البردوني
اتخذ البردوني لرسائله المتداخلة، ثلاث وسائل متداخلة مثلها، متفاوتة
الأداء هي: السخرية، والحوار، والتصوير.
{8}
أما
السخرية فشرْط الأدب فيما أرى، لابد من أن يشتمل شاديه على مقدار منها في
طبيعته، فإن منزلته تكون عند منتهى سخريته. وما ذلك إلا لما تتسرب إليه
السخرية من مفارقات في الحياة، هي أعمق ما يطمح الأدب إلى تناوله.
لقد فُطر البردوني على السخرية، وأشعلها لديه ضيق حاله وهو المبدع الموهوب،
وسعة حال غيره من المترفين الغُلف- كما قال في مقدمة أعماله الكاملة-، وهي
أول ما اطلع عليه من مفارقات، ثم زادها اشتعالا غرامه بالاطلاع على تراث
الهجاء، يتعزى به- كما قال- عن الحرمان.
لقد سخر من قومه مُرّ السخرية ، في قصيدته "من حماسيات يعرب الغازاتي"،
فقال:
"نحن أحفاد عنتره نحن أولاد حيدره
كلنا نسل خالد والسيوف المشهره
يعربيون إنما أمـنا الـيوم لنـدره
أمراء وفـوقـنا عـين ريجنْ مؤمره
وسكاكيننا على أعين الشعب مخبِره
نحن للمعتدي يد وعلى الشعب مجزره
كلنا سادة الرمـاح* والـفتوح المعطره
كل ثقب لنا به خـبرة الديك بـالذره
في الملاهي لنا الأمام* في الحروب المؤخره
حين صهيون يعتدي يصبح الكل مقبره". ص230 – 231
* هكذا ، وقد انكسر منه ، ولو قال : ( سادة الشرى ، لنا الذرى ) مثلا ،
لانجبر .
وسخر من وطنه مر السخرية ، في قصيدته "ترجمة رملية لأعراس الغبار"، فقال:
"أيا التي سميتها بلادي بلاد مـن يا زيـف لا تقـل لي
بلاد من يا عاقرا وأما ويا شـظايا تصـطلي وتُصْـلي
يا ظبية في عصـمة ابن آوى يا ثعلبا تحت قميص مِشْلي
يا طفلة في أسرها تغني ويا عـجوزا في الـدجى تفـلي
يا حلوة دوديـة التشـهي يا بهرجـا من أشنع التحلي
همست للقواد هـا صدري وقلت للسكين هاك طفلي
وللغراب البس فمي وكفي وللجراد اسكن جذور حقلي
فهل تبقى الآن مـنك مـني شيء سـوى لعلّها لعـلي". ص25 – 26
وسخر من علاقة الفقراء بالأغنياء والرعية بالأمراء، مر السخرية ، في قصيدته
"بنوك وديوك"، فقال:
"لنا بطون ولديكم بنوكْ هـذي المآسي نصـبتكم ملـوكْ…
يا ضعفنا تبدو لهم سافرا يا ضعفهم هيهـات أن يدركـوك
لكـم سجـون ولنـا عنـكم تجـادل مثـل نقار الديوك
عنـا تـلوكون اللـغات الـتي نعني سواها أي همس نلوك
ظنونكم عنـا يقينـية يقيـننا عنـكم كخـوف الشـكوك
لنا مناقير حمامـية لكـم مـدى عطشى وجبن سَفوك". ص150، 152
بل قد سخر من نفسه مر السخرية، في قصيدته "لعينيك يا موطني"، فقال:
"لأني رضيـع بـيان وصرفْ أجوع لحرف وأقتات حرفْ
لأني ولدت ببـاب النـحاة أظـل أواصـل هرفا بهرف
أنوء بوجه كأخبار كان بجنبين من حـرف جـر وظـرف
أعندي لعينيك يا موطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف".ص7
فبعد أن سخر من الجعجعة العربية بالقوة والجرأة والنخوة، والمجعجعون جميعا
أسرى الضعف والجبن والذل، وسخر من الجعجعة اليمنية بالأمن والحماية
والرَّغَد، وما ثم إلا الخوف والأسر والخراب، وسخر من بطر الأغنياء وضعف
الفقراء وطغيان الأمراء واستكانة الرعية- تفكر في نفسه وما يفعله لتغيير
الواقع الحزين إلى أفضل منه، فلم يجد نفسه تجاوز الكلام، فسخر من صنعته
المحدودة مهما حاول سكب الهرف بغرف الحرف.
ويبدو لي أن من سخريته، عزوفه عن العشق والغزل والتشبيب والنسيب، ولسان
حاله يقول: أنى لي وأنا السجين الحزين المسكين، أن أتطلع إلى خواطر الطلقاء
السعداء ونزغات المترفين!
ومن سخريته الوثيقة الصلة بعماه، إنطاقه الجوامد والمجردات، بالفلسفة
الملائمة، وكأنه يستأنس بها وهي التي تشاركه دون غيرها، حله وترحاله، وصحوه
ونومه، في حين أن الناس مهما جالسوه، منفضون عنه- لا محالة- في وقت ما.
إنه متى اقترنت بعماه وحدته، سلط عقله على ما حوله، وتلبسه، ثم جعل يتكلم
عنه، فتجد عندئذ للجبل فلسفة (جبليَّة)، وللرصيف فلسفة (رصيفيَّة)، وللجدار
فلسفة (جداريَّة)، ولليل فلسفة (ليليَّة)!
قال في قصيدته (حوارية الجدران والسجين):
" هيا يا جدران الغرفة قـولي شيـئا خـبرا طـرفه
تاريخا منسيا حلمـا ميـعادا ذكـرى عـن صـدفه
أشعارا سجعا فلســفة بغـبار الدهــشة ملتـفه
في قلبي ألسنة الدنيا لكــن لــفمي عنـها عـفه
الصمت حوار محتمل والهجــس أدل مـن الــزفه
إطلاق الأحرف حرفتكم اخــترت الصمت أنا حرفه
أو قل ما اخترت ولا اخترتم طبـعتنا العــادة والألفه
حسنا ألديك سوى هذا إجهادي مـن طـول الـوقفه
من صـف ركـامي لا يـدري أني أوجـاع مصطـفه". ص103/ 107- 108
كأنه في أول كلامه يُدل بقدرته السحرية على إنطاق الجوامد بالفلسفة
الملائمة، فتنطق الجدران بأنها تشتمل على أسئلة الدنيا وتعف عنها معتمدة
بلاغة الصمت، ثم تبدو لها دعواها أعرض مما ينبغي، فترى الصمت طبيعتها
والنطق طبيعة غيرها، فيستحسن الشاعر السجين بينها منطقها، فيستزيدها، فتبوح
بتعبها من طول الوقفة، وبأن إضافة اللبنة الى اللبنة فيها، كانت منذ البدء
إضافة الوجع إلى الوجع.
وينبغي لي أن أذكر أنه خطر لي كلام للدكتور إبراهيم السامرائي سمعته منه في
مجلس أستاذي أبي فهر محمود شاكر في مبتدأ التسعينيات، يصف فيه شعر
البردوني بالركاكة، فرغبت هنا في بيان أنه ربما تعمد ذلك عفة منه عن دلالة
الجزالة، وخشية لتهمتها، وأن ذلك من تمام سخريته التي لن تؤديها له على
أقسى ما تكون، إلا تعابير صحفية أو لهجية دارجة، فارقا بين هذه اللغة وبين
العروض الذي تمسك بعموديه، لتستمر في كل قصيدة المفارقة التي هي مبعث
السخرية، ثم أقبلت أفتش المجموعة المختارة ذهابا وإيابا، عن شواهد لتلك
الفكرة الخاطرة، فما وجدت لها شيئا، إلا أن أتكلف الحديث عن الأسماء
اللهجية والأعجمية، أو الاقتباسات من الأغاني أو العبارات الخاصة اللهجية،
وهو ما لا مغمز فيه ولا مؤاخذة به.
بل ازداد عجبي من البردوني، حينما عثرت بقصيدته "زَوّار الطواشي" أي زوار
الحي الصنعاني القديم ذي الحمام التركي الشهير، واستبشرت أن تشهد للركاكة
شهادة عليا، لفكرتها التي ينبغي أن تجر الشاعر الساخر إلى الركاكة، فما
شهدَتْ. يقول فيها:
"كان يرتاد الطـواشي راكبـا بغلا وماشي
تارة يلبس طمرا تـارة أزهـى التـواشي
كان يخشى من يراه كــل راء منه خاش
لي هنا حام كأهل وحمى يبــغي انتهاشي
ما لهم يكسون جذعي أعينا تحسو مشاشي
هل دروا أوطار قلبي من ضموري وانتفاشي
ألفوا الدهشة مني وأنا طــال انـدهاشي
جاوزوا دور التوقي كيف أجتاز انكماشي". ص208 – 209
وهكذا يستمر فيها بالجزالة لا الركاكة، غير أن سهولة كلامه وتحدره وتدفقه
قريبا من المتلقي ممتزجا به، يوهم من لم يطلع على حقيقة الجزالة في الكلام
العربي، بركاكته.
{9}
أما
الحوار فباب البردوني إلى أنس الحرية، الذي هرب به من وحشة أسر العمى
والحزن والوحدة، باب انفتح له بمفتاح الموروث القليل، وبمفتاح حب التقرب من
الناس، فلما انتبه إليه أولع به، حتى هدم الجدران كلها ليدخل إلى قصائده
الحوار من كل جهة.
لقد كان الحوار وما زال لدى غيره، وسيلة عارضة لبناء القصيدة العمودية،
فصار لديه كالسخرية، أساس كل قصيدة. وكان وما زال لدى غيره تقليديا ساذجا
بقال فلان وتقول فلانة، فصار لديه عجيبا غريبا خفيا متقنا لا يدرك أحيانا
إلا بفضل تفكير، حتى إنه ليرحم المتلقي عنه فينبهه إليه بالترقيم أو
التحديد الصريح، ولو لم يفعل لكان أوقع وأشد تأثيرا وإعجابا. وكان وما زال
لدى غيره حوارا لمن يستطيعه أو كأنه يستطيعه، فصار لديه حوارا لكل شيء
مُدْرَك بأية حاسة من الحواس مادية أو معنوية، وفيما سبق نماذج صالحة
لحواره لنفسه ولغيره من الناس، وللجدران، وللريح ولموطنه، غير أن في قوله
في قصيدته "وردة من دم المتنبي":
"البراكين أمه صار أمـا للبراكــين للإرادات عـزما
كم إلى كم تفنى الجيوش افتداء لقرود يفنون لثما وضما
ما اسم هذا الغلام يا ابن معاذ إسمه لا من أين هذا المسمى
إنه أخطر الصعاليك طرا إنه يعـشق الخـطورات جـما". ص48 – 49
نموذجا، لمدى خصب الحوار لديه وعظم طاقته فيه واقتداره عليه في القصيدة
العمودية؛ إذ تكثر الأصوات ليختلط في هذا المضيق،