07 يونيو 2014 بقلم
محمد مزيان قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:تقديم:
هذا الكتاب "البنيات السياسية لمغرب الاستعمار" لعبد الله بنمليح، الباحث في علم السياسية الذي كرس علمه لدراسة الثقافات السياسية والتنظيمات الاجتماعية، إذ حاول في هذا العمل رسم ملامح المجتمع والدولة المغربية قبيل وخلال الحماية، وتحديد مكوناته السياسية، وحاول بعبارة أخرى دراسة البنيات السياسية والاقتصادية والإدارية للدولة السلطانية، فعلى امتداد صفحات الكتاب البالغة 396 صفحة، يمكن قياس الأثر الاستعماري على هذه البنيات.
المسار التاريخي للدولة السلطانية:
سنحاول في قراءتنا لهذا العمل ملامسة مضمون الكتاب، كي نتمكن من فهم رسالة الكاتب المضمرة، خاصة أن الكتاب يتطرق لموضوع أثار الكثير من النقاش في الأوساط الفكرية الأجنبية والوطنية في تخصصات متعددة من مثل علوم السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع السياسي...إلخ، بل إن العمل يعتبر من المساهمات الجادة، باعتباره يتناول مسألة لم تفهم بعد بشكل جلي، ذلك هو الأمر المتعلق بالبنيات السياسية لمغرب الحماية.
يقر صاحب الكتاب منذ البداية، أن البحث في هذا المجال ليس بالأمر الهين، إذ شدد على صعوبة التعامل مع المعطيات التاريخية ودراسة الأرشيفات الوطنية والأجنبية، فهو يرى أن هذه الدراسة بمثابة دراسة نقدية لإشكالية معقدة، لذلك وجب استحضار كل المقاربات التي يمكن أن تساعد على استجلاء غموض الواقع المؤسساتي لمغرب الحماية، إذ يرى الباحث أن التركيز على دراسة البنيات السياسية الاستعمارية تسمح بفهم أوضح لحدود الإدارة المؤسساتية، ودرجة فعالية الممارسة السياسية الموروثة من الحقبة الاستعمارية، ذلك أن هذه الفترة غيرت بعمق المشهد السياسي للبلاد، وأدمجت المغرب في الاقتصاد العالمي، كما أن فترة (1912-1956) ليست حقبة تاريخية مر بها المغرب فحسب، بل هي كشف للتغيرات التي مست البنيات السياسية في مغرب الحماية. (ص 11- 12)
للوقوف أكثر على هذا الموضوع، عمل المؤلف على القيام بحفريات تاريخية حول البنية السياسية في المغرب في الحقب السالفة؛ الحقبة الرومانية والفتح الإسلامي والتجربة الإدريسية والتجربة المرابطية والموحدية والسعدية والعلوية، بهدف فهم دينامية الدولة في المغرب نظرًا للاعتبارات التالية:
- أن التجربة الرومانية قامت بدمج بعض السكان الأصليين في مناصب الجيش والإدارة، وبالتالي "رومنة" المحلي وفق تراتبية تمييزية، كما أن التأثير الروماني في مسار المؤسسات المغربية ظل ضعيفًا بسبب غياب مشروع سياسي روماني في خدمة المجتمع المحلي. (ص 26- 28)
- ساهم الإسلام في خلق جو سياسي أساسه فكرة "المركز" دون القدرة على تجاوز التعارض بين سلطة المركز وسلطة القبيلة.
- المزاوجة بين الخطاب الديني والخطاب السياسي خلال الفترة الإدريسية بسبب ضعف البنية المؤسساتية.
- اختزال مفهوم الدولة مؤسساتيًا في عناصر: "المخزن، الجيش، الضرائب، الأيديولوجية والشرف".
- حضور الزوايا بشكل واضح واعتماد مسألة الجهاد ضد العدو لإعطاء، الشرعية للزوايا مؤسسةً تنظيميةً.
لهذا، نجد الكاتب استحضر المقاربات الثلاث التي تناولت بنية المجتمع المغربي بالتحليل، وهي:
- النظرية الخلدونية: وذلك بالاعتماد على نظرية ابن خلدون حول العصبية التي شكلت محرك تاريخ المجتمع القبلي، وفيها تتبلور الإدارة السياسية. (ص 86)
- التحليل الماركسي: يعتمد هذا التحليل على بنية الإنتاج في فهم الأوضاع الاجتماعية، إذ يورد الكاتب آراء بعض الكتاب، مثل بن علي في كتابه "الأرستوقراطية الحاكمة" وجاليسو في كتابه "فيودالية القيادة". (ص 88)
- المقاربة الانقسامية: تعد هذه المقاربة أن المجتمع ينبني على تراتبية معقدة يصعب مقارنتها بتراتبية المجتمع الأوروبي، لهذا يطرح عدة تساؤلات لتحليل هذه البنية، من قبيل: هل ينبني المجتمع على نسب وعشيرة...إلخ؟ وما علاقات هذه الطبقات في مجال الإنتاج والسلطة والسياسة؟ (ص 93)
ثم ينتقل الكاتب إلى دراسة ميكانيزمات الإدارة السلطانية قبيل عقد الحماية سنة 1912، بدءًا بالإدارة المركزية، وعلى رأسها السلطان يساعده الصدر الأعظم، وأمين الأمناء، ووزير الحرب، ووزير الشكايات، وصولاً إلى الإدارة المحلية. وقد قسم المغرب إلى ثلاث مناطق، هي: تافيلالت، ومراكش، وفاس، وعلى رأس كل منطقة خليفة السلطان يساعده العامل والقايد والباشا والمحتسب والأمين.(ص 115)
الدولة التراسبية في مغرب الحماية:
لكن على الرغم من ذلك، ظلت البنية المؤسساتية للدولة السلطانية ضعيفة، بالإضافة إلى فشل الإصلاحات التي باشرتها بهدف تجاوز الهياكل التقليدية للدولة، مما سهل اختراقها وانفراد فرنسا بالمغرب بعد التسويات الثنائية التي قامت بها مع القوى المنافسة لها في المغرب، لهذا سينتقل الكاتب إلى دراسة مرحلة الحماية وربطها بالشخصية المحورية فيها، وهي شخصية المقيم العام «ليوطي»، باعتباره:
- الصانع الأول للبنيات التي غيرت المشهد المؤسساتي في المغرب.
- شكّل جيلاً من الرجال الذين استمروا في التأثير من بعيد أو قريب على ميكانيزمات مؤسسات المغرب.
ويبرز الكاتب أن الحماية تقنيةً، نجحت في النفاذ إلى عمق المشهد المؤسساتي المغربي، وإعطاء الخطاب الاستعماري شرعيته، فكانت الحماية منهجية استعمارية بدأت معالمها في تونكان ومدغشقر، ونضجت في الجزائر وطبقت في المغرب قائمة على الإلحاق والإشراك، فقد كانت الحماية عند «ليوطي» عبارة عن بناء عقلاني يهدف إلى حفظ بنيات المجتمع المحلي، وصيانة الأطر التقليدية بهدف الدفع بالمجتمع إلى التطور. (ص 146)وهو ما أدى إلى التصادم المؤسساتي بين السلطة الكولونيالية والمخزنية المتقوقعة حول الذات، فنتج عنه بروز مفاهيم جديدة في المشهد السياسي المغربي ذات طابع دولي، تتعارض مع خصوصية البنية العميقة للمغرب، وتنحو نحو فرض تفوق السلطة الكولونيالية التي ركزت على إدخال مجموعة من الإصلاحات الإدارية ونقل مركز القرار من القصر إلى الإقامة العامة بهدف إظهار مكامن ضعف الإدارة المغربية وهشاشة الهرم السلطاني، مما مهد لميلاد الدولة التراسبية.
تنتقل السيادة، في إطار النظام التراسبي، من قطب إلى قطب معتمدة على المؤسسات والفاعلين الموضوعاتيين. (القوانين التنظيمية للإدارة الفرنسية) وتجسدت العلاقة بين الطرفين في عنصرين:
الأول: يتمثل في تعاون النظام المخزني مع الإقامة العامة.
الثاني: محاولة المخزن ترسيخ مكانته في الوظيفة التشريعية، على الرغم من محاولات الإقصاء الذي كانت تحاول الإدارة الفرنسية ممارسته.
وبذلك شكلت الدولة التراسبية نظاماً متراصاً يهدف إلى تغطية المغرب المنهار سياسيًا والمقسم إداريًا، من هنا سعت المؤسسة الكولونيالية إلى إعادة تنظيم البينة السياسية المغربية، عن طريق تقسيم إداري معتمد على المركزية واللامركزية مع سيادة التركيز خاصيةً لم تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية ودمج المجال القبلي عن طريق منح القواد دورًا بارزًا في السياسة الاستعمارية القائمة على الإقصاء والمحافظة، من خلال تشجيع الزعامات القبلية على التحكم في مناطقها، وبذلك حسمت الدولة التراسبية في البنيات السياسية للقبيلة محققة توغلاً بداخلها وسيطرة على مجالاتها.
قامت السياسة الاستعمارية بتركيز وجودها في المغرب على معطيات الفهم لكسب الرهان السياسي، وكان عليها أن تعتمد على سلطة المعرفة، إذ سخرت العلوم الاجتماعية في خدمة السياسة عن طريق خلق اللجنة العلمية للمغرب، والقيام بأبحاث ومونوغرافيات وتقارير حول المجتمع والدولة المغربيين، وتأسيس لجنة الدراسات البربرية سنة 1915. (ص 229) وبهذا يمكن الحديث عن تفاعل المعرفة والسلطة في وظيفة المعنى؛ فالسلطة توجه البحث العلمي والخلاصات توجه القرارات.
خلاصة:
حاول الباحث في هذا العمل وضع البنيات السياسية لمغرب الحماية تحت المجهر، وإبراز التصادم ورد الفعل بين الأجهزة المخزية، رغم عتاقتها، والأجهزة الاستعمارية التي سخرت لخدمة أهداف الحماية، كما أن العمل يبرز تأثر الكاتب بالجهاز المفاهيمي للعلوم السياسية، وسعيه لتوضيح كيف يعمل التلاقح المؤسساتي بين النمطين الإداريين المختلفين، وذلك بالوقوف عند أبرز الخلاصات التي توصلنا إليها، وهي على النحو الآتي:
- دور السياسة الكولونيالية في تغيير معالم الأجهزة الإدارية السلطانية.
- حضور الجانب الاقتصادي بقوة في الخطاب الاستعماري وتفاعله مع الخطاب السياسي والعسكري.
- الهشاشة المؤسساتية والإدارية للدولة السلطانية السابقة لفترة الحماية.
- المزج بين القوة العسكرية والديبلوماسية تماشيًا مع أساسها القانوني.
- المساس بوظيفة السلطان التي تمت محاصرتها وتقزيمها وتعويض الوزارات التقليدية بأخرى حديثة تتماشى مع البنية الاستعمارية.
أنتجت المقابلة بين سلطة السلطان وسلطة الحماية ما يسمى بالتراسبية إذ تم إدماج البنية الضعيفة في البنية القوية دون إلغاء.
- نجحت الدولة التراسبية في إرساء قواعدها في قلب المجتمع المغربي معتمدة على عناصر متميزة في الفضاء السياسي والإداري، وتطلبت في ذلك العلوم والقوة الاقتصادية، وهو ما سهل وضع ترسيم جديد للمربع التنظيمي الحاكم بالمغرب.
- تأسست السياسة الكولونيالية على الفعل والمحافظة والإلغاء والتحول أو الابتكار، والمبدأ الأساسي في حالة المغرب هو المحافظة واجتناب الإلغاء والتحول والتركيز على توحيد الاستراتيجية السياسية، رغم تعدد الوضعيات وتعدد الفاعلين.
- الفاعلون الأساسيون في الإدارة الاستعمارية هم ضباط شؤون الأهالي والمراقبون المدنيون، ومهمتهم هي المراقبة.