تستحق الفترة الّتي وصل فيها الإسلاميون إلى السّلطة في تونس توثيقاً موضوعياً لما شهدته البلاد بعد سقوط حكم زين العابدين بن علي واستغلال “تنظيم الإخوان المسلمين” ممثلاً بحركة النّهضة، غياب قيادة قويّة لثورة انطلقت عفوية من دون مشروع واضح وركوب موجتها. ذلك أنّ ما قام به الإسلاميون من إخوان وسلفيين وتنظيمات تسمى بالجهاديّة لم يكن له دور في الثورات الّتي عرفت بالرّبيع العربي سوى إجهاضها، وتحويل كلّ تحرك عفوي ووطني صادق إلى عمل إرهابي مسلّح يعطي للسلطة المُستبدة ذريعة لمقاومته. ذلك تمّ بدعم أنظمة مستبدة عربية ودول كبرى تبحث عن مصالحها وسط ركام الهياكل المُدمرة وما تحتها من ثروات إحفوريّة.
إجهاض الثّورة
قد يكون رأي الكاتب الصحافي التّونسي نور الدين بالطيب مجانباً لهذه المقدمة، إذ لا يعترف بوجود ثورة ولا يقر بأي تغيير جوهري حصل، وهو قد يكون على حقّ في الكثير من النّقاط الّتي كنا نتناقش بها بين حين وآخر. لكن ما لا يمكن رفضه في كتاب “سقوط في القمة- تونس زمن الإسلاميين”، الصادر عن “دار آفاق – بريسبكتيف للنشر” في تونس، هو هذا الاختراق الواضح للثورة بدعم أميركي – خليجي- تركي، بغية إجهاض أي مشروع عربي علماني تقدمي، واستبداله بمشاريع رجعية أتحفنا بها الإسلاميون على مرّ عقود في برامجهم الإنتخابية وتنظيراتهم الآيديولوجيّة الّتي لا يمكن أن تتصالح قيد أنملة مع مفاهيم الحريّة وقيم الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والحريات الشخصيّة والعامّة.
من هنا يحاول بالطيب من خلال مقالات عديدة نشرت في صحف تونسيّة وعربيّة، وضع مقاربة منطقيّة إلى حدّ كبير حول ما يمكن وصفه بمصادرة الثورة والذهنيّة السياسيّة القديمة الّتي قبلت الإسلاميين وتحالفت معهم بهدف الوصول إلى السلطة. وهنا كانت المأساة حيث تصبح أحزاب عريقة رفعت سابقاً شعارات علمانية ووطنية رهن اشارة “حركة النّهضة” الّتي استفادت منهم بوضعهم في الواجهة فيما بقيت هي تعمل على تعزيز وتوطيد مشروعها الإسلامي من خلف الكواليس، وبالتّزامن مع تشظي كبير لخلايا سلفيّة “جهاديّة” “داعشيّة” عبثت بأمن البلاد وجعلت التونسيين يتحسّرون على أيام حكم بن علي.
“سقوط في القمّة”
عنوان لافت لكتاب بالطيب، إذ يكون السّقوط في القمّة وليس من القمّة، حيث تحالف ثلاثة أحزاب هي “حركة النّهضة الإسلاميّة” بزعامة راشد الغنوشي، “حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة” بزعامة الرئيس المؤقت السّابق منصف المرزوقي و”التّكتل من أجل العمل والحريات” بزعامة مصطفى بن جعفر. سقوط يمكن متابعة إرهاصاته وحركته وتداعياته من خلال هذا العمل الّذي وإن صدر في العام 2018، الا انه يتناول بالخصوص فترة السنوات 2012، 2013، 2014، حيث “تحولت تونس إلى أكبر مصدر للإرهابيين الّذين تمّ تجنيدهم ضمن جمعيات تموّلها جهات خليجية مورطة في الحرب في سوريا وليبيا وتمت السيطرة بشكل شبه كامل على المساجد وانتشر السّلاح وانتشرت المدارس الدينيّة وظهرت جمعيات تُعنى بـ”النهي عن المنكر” وممارسة الوصاية على المواطنين، كما تمّ اختراق الجهاز الأمني والتّرويج لخطاب يشكّك في كلّ المكاسب الّتي حققتها تونس وخاصة الاستقلال ومجلّة الأحوال الشخصية” (ص12).
“وثيقة للأجيال”
هذه المقالات الّتي جمعها الكاتب بين دفتي كتابه المؤلف من 175 صفحة من القطع الوسط، يؤرّخ لمحنة عاشتها تونس في زمن الثّورة والتّدخلات الخارجيّة غير المحدودة. هذه الفترة تقع بين موعدين انتخابيين وتكشف عن أهمّ المحطّات الّتي واجه فيها التونسيون محاولات “النّهضة” الّتي فشلت حتّى الآن في تغيير النمّط الاجتماعي والهويّة الثقافيّة للبلاد.
وقد كان الكاتب محقاً حين ذكر في المقدمة أن هذا الكتاب قرّر نشره “حتّى يكون وثيقة لأجيال تونس الجديدة ممن لم يعيشوا هذه المحنة” (ص 14).
إرث بورقيبة
قدّم للكتاب المؤرخ الجامعي عبد الجليل بوقرة، تحت عنوان قد يكون مستفزاً للبعض “عندما هددت السلام عليكم عالسلامة”، وهو عنوان يختصر التغير الّذي حصل على صعيد العادات الإجتماعيّة بدخول هوية دينيّة مدعومة من دول رجعيّة مثل تركيا- رجب طيب أردوغان الّذي أراد لتونس أن تنحرف عن إصلاحات الحبيب بورقيبة العلمانيّة التقدميّة خلال فترة حكمه (1957-1987)، كما فعل هو تماماً بإرث مصطفى كمال “أتاتورك” في بلاده مستغلاً التنمية الاقتصاديّة الّتي عاشتها تركيا خلال العقد الأول من حكم حزبه “العدالة والتنمية” ليخترق ما يسمى بالدولة العميقة ومؤسّساتها وأسلمتها تدريجياً وبطرق التّسلل والإحتيال، والانتقال بها من سياسة “صفر أعداء” الّتي رسمها رئيس حكومته السابق أحمد داوود أوغلو إلى سياسة العداوة مع الجميع.
اضطرابات الترويكا
في المقال الأول يسرد بالطيب اضطراب الموقف بين رؤوس البلاد الثلاثة “النّهضة” و”المؤتمر” و”التكتل” أو ما يُعرف بالترويكا، وكيف أدى هذا الإضطراب النّاتج عن عقدة “الرئيس” لدى الإسلاميين إلى سقوط في القمة. ويشرح في مقال آخر علاقة “النّهضة” بالتّنظيم العالمي للإخوان وعلاقة الغنوشي بالمرشد. وهي علاقة شبيهة بعلاقة الأحزاب الموالية للنّظام الإيراني مع المرشد علي الخامنئي وإن كان هناك اختلاف في الدرجة فالنّوع نفسه.
ثمّ يتناول الصراع الخليجي وانعكاساته على الدّاخل التونسي، إذ أصبحت البلاد في دائرة هذا الصراع وبات تنظيم “داعش” على حدود تونس الجنوبيّة في لبيبا. يتناول أيضاً سياسات تطهير القضاء وقمع الإعلام وظهور أنواع جديدة من الرّقابة والتّحديات أمام استقلال الإعلام المهدّد بالبيع، إلى العلاقة الملتبسة بين “النّهضة” والسلفيين، ومسلسل الاغتيالات الّذي طال شخصيات وطنية رائدة في العمل السياسيّ، وتهديد تركة بورقيبة الّتي حملت تونس إلى مصاف الدول المتقدمة الّتي تحدّ من استبداد المفاهيم الدينيّة المُجحفة بحقّ النّساء والأقليات. كذلك ينتقل بالطيب إلى الميدان فينقل إرباك الشّارع التونسي وسط التحركات اليوميّة الّتي باتت بمثابة ثورة ضدّ الثّورة.
يمكن للقارىء أن يتابع فصول هذا الكتاب وفق تسلسل تاريخي توثيقي يتابع التّطورات السياسيّة الآنية ليخرج بنتائج وتداعيات لهذه التطورات اليوميّة، والّتي رغم مساوئها ظلت تونس النموذج الأنجح من نماذج أخرى من الثورات قادت نحو التدمير الشامل مثل سوريا وليبيا واليمن. فالثورة بحدّ ذاتها لم تكن هي المشكلة بل كانت حاجة كل عربي للتخلص من العفن السياسي والقمع الأمني والتخلف على جميع الصعد الجاثم على صدره منذ عقود طويلة. لكن حين تكون الثورة على أيدي تيارات تؤمن بالعبوديّة لقوانين خارج الزّمن، وتفرض على النّاس طريقة حياة من شأنها مصادرة حرياتهم الشخصيّة وجعلهم رهائن في مركبة مصنوعة من الأوراق الصفراء البالية فحينها ستكون النتيجة التحضير لثورة مضادة كما يحصل في إيران الآن، حيث انتفضت بعض الفتيات مطالبات بحريتهنّ في خلع الحجاب، كما انتفض النّاس ضدّ الهيمنة على أموالهم وتحويلها إلى أيدي تنظيمات إرهابيّة تعيث فساداً وخراباً وقتلاً في العالم العربي من المحيط إلى الخليج باسم الدين والتّمهيد لدولة المهدي المزعومة.
ولمن لا يعرف الكاتب نور الدين بالطيب، فهو صحافي وشاعر تونسي من مواليد دوز. كتب للمسرح وأصدر عدداً من الكتب ودواوين الشعر منها: “صلوات للرّمل”، “حسن مرزوق- خفايا حربي فلسطين وبنزرت وانقلاب 1962″، “دوز .. ذاكرتي”، “أيام إسبانية” و”حسن مرزوق من قابس إلى فلسطين”.