(نص مشاركة يان ياربه في النَّدوة الَّتي أقامتها حركة السَّلام السويديَّة في 17 نوفمبر 2016 تحت عنوان ثلاثة أديان – ثلاث رسائل محبّة وسلام)
الأسباب الّتي يوردها رجال الدّين لأفعالهم هي الأسباب الشرعيّة، وذلك لكي يتسنَّى لهم فهم أفعالهم فيؤدونها بضمير مستريح. كما إنّها أسباب تبريريّة، يزعمها الشّخص للدّفاع عن تصرفاته؛ فهو يعتقد أنّها ستلقى القبول أو الفهم لدى المستمعين.
أمّا الأسباب الماديَّة، أي العوامل الاجتماعيّة والسّياسيَّة والاقتصاديّة والجيوسياسيّة والسيكولوجيّة الّتي وراء النّشاطات المرتبطة بالدّين – بما فيها العنف – فهي شيء آخر بعيد عن الكيفيّة الّتي ينظر بها الفاعلون إلى أفعالهم. إنّ الأسباب الماديّة تتعلّق بالمشاكل حول قدرة النّاس على العيش وكيفيّة حلّ تلك المشاكل. وهنا بالذَّات نجد أسباب الفوضى الّتي تسود الشَّرق الأوسط اليوم. لكن في المنظور القصير سنحتاج أن نعرف الكيفيّة الّتي يدرك فيها النّاس ما يحدث حولهم، من خلال خبراتهم وتصوّراتهم عن التّاريخ، وحتّى من خلال تقاليدهم الدينيّة والعرقيّة والوطنيّة.
إنّ التّقاليد الدينيّة مرتبطة بنزعة الانتماء للجماعة، حيث يعدّ الإخلاص لهذا الانتماء أمراً مفروغاً منه، وعندها تكبر أهميّة كلّ ما يروى عن الماضي وكذلك كلّ التّصورات عن المستقبل (سواء هنا أو في “حياة آخرة” محتملة).
إنّ خاصيّة الانتماء للجماعة، الّتي يتضمّنها التّدين، لها وظائف عديدة، أبرزها:
[list="box-sizing: border-box; margin-bottom: 17px; color: rgb(88, 88, 88); font-family: \"Droid Arabic Naskh", serif; font-size: 15px; background-color: rgb(255, 255, 255);"]
[*]أن يصبح الانتماء للجماعة الدينيّة علامة مميّزة اجتماعيّة وثقافيّة لمجموعة معيّنة أو لطرف (في حالة صراع مع طرف آخر). كذلك يمكن وصف الانتماء للجماعة الدينيّة بأنّه تقليد اجتماعي، عرقي، قومي، أو ثقافي. ومن المعتاد أن يجري ربط الانتماء للجماعة بالأصل الّذي تنحدر منه، وهنا لا يعود مشروطاً أن يكون الشّخص مؤمناً بذلك الدّين لكي ينتمي للجماعة الدينيّة؛ فالانتماء يحدّد من هو الصَّديق ومن هو العدو.
[*]أن الانتماء للجماعة الدينيّة يشرعن القوَّة أو يطالب بالسّلطة – أكانت مطالبة بسلطة سياسيّة أو بسلطة عسكريّة – ويصبح تبريراً للتّمسك بالسّلطة القائمة. ولدينا تنظيم “داعش” والأسرة الملكيّة الهاشمّية في الأردن مثالان على هذا (في المثال الأردني، التّبرير هو إنّ “هاشم” هو جدّ النّبي محمّد). كذلك تقوم بعض القوى السياسيّة باستدعاء الدّين لدعم معارضتها للسّلطة، ومن أجل الثّورة على الفساد والظّلم، كما حصل في المظاهرات في البلدان العربيّة مثلاً.
[*]حين يجد النّاس أنفسهم في حالة قصوى من عدم الأمان ومن الفوضى (كما في أجزاء معيّنة من الشّرق الأوسط اليوم) فإنّهم يحتاجون، من أجل بقائهم على قيد الحياة، إلى شكل مَّا من أشكال الشّبكة الاجتماعيّة. وعادة تكون الأسرة أو العشيرة هي شبكة الأمان هذه، لكن – غالباً – مع مرجعيّة دينيّة مشتركة كعلامة من العلامات الجامعة لهم. ويتطلّب هذا نوعاً من الولاء التَّام للمجموعة، الّذي هو أهم الشّروط في المعيار العشائري.
[*]في ظروف العوز واليأس يؤدّي الانتماء الديني دوراً مسكّناً. فالأخير يعطي عزاء وأملاً، ويعين على فهم الأشياء الّتي تبدو بلا معنى. إنّه يعطي الأمل بالجنّة، وبنهاية هذه الدنيا. لكن في الفترة الأخيرة صار مرتكبوا العنف يستخدمون اللّغة الدينيّة وهو ما أضعف من دور الدّين كعزاء. إنّ هذا متغيّر مهم في عالم الأديان في السّنوات الأخيرة، وكان من نتائج هذا التّغيّر أن نشط الإلحاد في مناطق عديدة كانت تُحسَب “متديّنة”، وكأن الفرد من النّاس يقول: “لهذا السَّبب أنا غير مؤمن!”.
[/list]
ثمَّة إزدواجيّة في تطوّر الأديان ظلّ العالم يشهدها منذ العصر القديم إلى الآن. فمن زاوية أخلاقيّة، يمكننا رؤية نوعين من التّدين، هما مع الأسف ليسا منفصلين عن بعضهما وإنّما متشابكين مع بعضهما البعض. في النّوع الأوّل، يعني التّدين أن تعيش التّسامي، الروحانيّة، الرَّحمة، المحبّة دون تمييز، الإيثار، المسامحة، المشاركة الوجدانيّة في تطبيقها العملي، اللاّعنف، التبادليّة الّتي عُبِّرَ عنها بما يسمّى “بالقاعدة الذَّهبيّة”. أمّا النّوع الثّاني فعماده السّلطة، التّسلسل الهرمي الّذي يفرض طاعة غير مشروطة، والّذي يخلق تمييزاً بين النّاس (“نحن” و”هم”) بل ويدعو إلى استنجاس “الآخر”. إنّ هذه الازدواجيّة لا تتعلّق بدين دون آخر فهذان النّوعان من التّدين موجودان في جميع الأديان. إنّهما يواجهان بعضهما البعض ولكن قد يكون من الصَّعب التَّفريق بينهما، حيث أنّ الكلمات والطّقوس والقصص هي نفسها في كليهما؛ وكلّ نوع منهما يمكن أن يتحوَّل إلى الآخر.
أخيراً أجد من المهم التّنبيه إلى أنّ الايمان بالرّب ليس نفسه الإيمان بالدّين. إنّ الانسان يؤمن بالرّب بمساعدة الدّين؛ فالدّين هنا أشبه بصندوق العدد اليدويّة. لكن هذا الصندوق كبير جدًّا بحيث لا يستطيع المرء المتديّن أن يستخدمه كلّه؛ فيأخذ حاجته ممّا يوجد لديه في صندوقه، وإلاّ فإنّه يلجأ إلى الاستعارة من صندوق آخر.