11 فبراير 2015 بقلم
محمد برهومة قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يذهب باحثون في الفكر الإسلامي إلى اعتبار أنّ نزعة الجبر تكاد، في عمق حقيقتها وأبعادها وتجلياتها، أن تعلن "موت الإنسان" لشدة حضور الله، وهي فكرة تعيد فتح باب النقاش والجدل المتكرر بشأن ما إذا كانت النظرة إلى الإنسان، بوصفه يحظى بالمكانة المركزية في هذه الحياة أم بوصفه "مكلّفا"، وما ينطوي عليه ذلك التمييز الجوهري من إدراك لقيمة الحرية الإنسانية والإرادة المستقلة والاختيار العقلاني الواعي. هذا التمييز على تماس تام بالإقرار بعدم تطابق دائرتي الدين والأخلاق من حيث إنّ التزام الأمر أو النهي الأخلاقي الديني بوصفه تكليفا شرعيا لا نقاش فيه، مختلف تماما عن وصف أمر أو نهي ما بأنه أخلاقي أو مسوّغ أخلاقيا، وذلك لأنّ انتفاء الحرية الإنسانية والإرادة المستقلة والاختيار العقلاني عن أي فعل أو سلوك يعني انتفاء الأخلاقية عنه.
في كتابه "الأخلاق والعقل" شرح عادل ضاهر الشروط والسمات الضرورية التي ينبغي أن تتوافر في قاعدة أخلاقية ما حتى تكتسب صفة الأخلاقية، مبيّنا أنه ينبغي أن يكون العمل بموجب هذه القاعدة إلزاميا بصورة مطلقة؛ بمعنى ألا تكون الاعتبارات التي تبطل هذا الإلزام، على افتراض وجود اعتبارات كهذه، سوى اعتبارات نابعة من قواعد (أخلاقية) أخرى من نوعها، وأن تتسم القاعدة الأخلاقية بالاتساق الذاتي وعدم التناقض أو الازدواجية وأن تكون موجهة لكل شخص فعليّ وممكن، وأن تكون معنية بتأمين المصالح الأساسية للجميع بالتساوي.
وإذا كانت نقطة قوة الدين، كما يقول عزمي بشارة، هي في رفعها الأخلاق الموضوعية فوق الإرادات بآلية الطاعة الإيمانية، فإن الإشكال الأخلاقي في التفكير الديني هو أن الأوامر والنواهي الدينية ذات طابع خصوصي بفئة معينة من الناس تدين بدين معيّن، وهي بالتالي ليست "موجّهة لكل شخص فعلي وممكن" وربما لا "تكون معنية بتأمين المصالح الأساسية لجميع الناس بالتساوي"، وفوق هذا وذاك، فإن إلزاميتها تنطلق من مفهوم أساسي، وهو التكليف الشرعي والطاعة الإيمانية، وأنها ملزمة، لأنها كذلك وليس لأنها مسوّغة عقليا؛ أي لآنها أخلاقية وفقط لأنها كذلك لا لشيء آخر خارج التسويغ الأخلاقي / العقلاني.
هذا ، بالطبع، لا ينفي عن الدين منابعه الأخلاقية، بل على العكس، فإنه يسعى لتأسيس مقاربة جديدة تقوم على استخراج تلك الينابيع واستثمارها واستثمار مفهوم "الفطرة" و"العقل" كموارد من شأنها تدشين أخلاقية إسلامية منفتحة وحرة وإنسانية. من هنا يسجّل ياسين الحاج صالح بأن عملية إصلاح الإسلام ذاته محصلتها المرغوبة إسلام متمركز حول الأخلاقية والضمير والإقبال على العالم بديلا عن الإسلام المعاصر المتمركز حول الشريعة والفقه والنافي للعالم نفيا مطلقا وعدميا؛ أي بمعنى آخر قيام إسلام أخلاقي يتأسس على الامتناع الطوعي والانضباط الذاتي بدلا من المنع والامتثال. ومثل هذا يدعو لتدشين علم كلام جديد يعيد الاعتبار لتراث أخلاقي تم إقصاؤه وتهميشه بقوة الإكراهات السياسية والفكرية، تراث نظّر في كون الحسن والقبيح "ذاتيان وعقليان".
لقد أهدر الإسلام السياسي طاقة الإسلام الأخلاقية والحضارية، وصار الدين، في الشكل الذي قدمته الحركات الإسلامية على اختلاف أشكالها، أيديولوجيا وحركة معارضة سياسية انشقاقية هدفها الحكم والسلطة بدلا من أن يكون الدين مساحة مشتركة لتنمية الضمير وإثراء الوازع الداخلي وتهذيب النفوس ونشر الصلاح والخيرية والأخوة الإنسانية.
إن الكلام عن أنّ الجبرية تعني "موت الإنسان"، يدفع إلى إثارة التفكير في سبيل إيجاد تبريرات دينية لاهوتية لحرية القرار الأخلاقي ومسؤولية التزام القيم الأخلاقية. ويرى عزمي بشارة أنّ هذا ممكن من خلال القول، مثلا، إن الله قد حدد وقرر كل شيء، ومن ضمن ذلك أنه خلق الإنسان بصفته كائنا أخلاقيا، يمكنه أن يقرر لذاته ويتحمّل مسؤولية قراراته واعتباراته، الأمر الذي يعني، وفق بشارة، أن الله لا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وأنه لم يخلق فقط سلسلة السببية التي أطلقها بالدفعة الأولى، بل أيضا خلق كائنا له عقل، يمكنه التفكير وإنتاج مسارات سببية جديدة بفعله الإرادي الحر.