تنقسم قصص مجموعة مزيدا من الوحشة** إلى قسمين: الأول يحتوي على تسع قصص
قصيرة﴿وهي التي سترتكز عليها هذه الورقة﴾، والثاني يتضمن اثنين وثلاثين قصة
قصيرة جدا، إذ تختار الكاتبة الجمع بين صيغتين لكتابة القصة القصيرة في
كتاب واحد. ترصد فيها صورا وموضوعات تتداخل فيها الذات بالعالم، تزاوج بين
الأحلام والطموحات والرغبات وبين الحزن والفراق والموت، من جهة، ومن جهة
أخرى بين العبث والأمل.
ترصد حالات لشخصيات نسائية
اختارت رفض ومواجهة كل أشكال الخضوع والاستسلام أمام أعراف وتقاليد المجتمع
المتخلفة المكبٍّلة للأذهان. تكشف عن خبرة القاصة بدواخل شخصياتها. تتسلل
إليها عبر منطقة الأحلام والكوابيس والظواهر النفسية المعقدة. ولم يتأت لها
ذلك إلا انطلاقا من خلفية معرفية تتأسس على تبصر بأسس علم النفس وقضاياه.
أول ملاحظة يلمسها قارئ المجموعة هي غياب المقدمات أو التوطئات السردية
المألوفة. إذ يجد نفسه مدعوا إلى الدخول إلى القصة مباشرة بتسليط الضوء على
الشخصية وهي تعيش توترها وأزمتها. لتنقلنا القاصة مباشرة إلى أوضاع
الشخصيات المفارقة والملتبسة وهي نتائج لم تخترها في الغالب الأعم، إذ
استطاعت الكاتبة القبض على الشخصية وهي مورطة في أزمة، بعيدا عن المقدمات
أو التأطيرات السردية الزمانية أو المكانية، انطلاقا من وعي جمالي يراهن
على التكثيف والقبض على الأهم والمثير والملتبس والقلق في حيوات الشخوص.
تعترض شخصيات مجموعة مزيدا
من الوحشة في قسمها الأول، القصة القصيرة، أزمات نفسية وعاطفية تسبب لها
توترا داخليا، ناتجا عن غياب التوافق بين ما تحمله من قيم نيبلة صارت
مفتقدة في واقعها، وبين قيم سلبية سائدة في الواقع، تحاول خلخلتها
ومساءلتها. أو بسبب وضع تريده الشخصية أو تنفرد به عن الآخرين. فيزداد
توترها، لتجد نفسها عرضة لقساوة العزلة والوحدة والعبث والقلق الوجوديين.
تعيش الشخصيات أوضاعا لم تخترها، تؤدي أدوارها مكرهة، مثلا النادل المثقف
في قصة "بين الحين والأخر" تبدو غير راضية بأوضاعها تلك. تدافع عن
العلاقات الإنسانية الطبيعية مثل الزواج من خلال نقد بعض الصور للمرأة
المتحررة، المخادعة لنفسها، وتُحْرٍج بعض الاختيارات التحررية المغلوطة.
مثلا رفض الزواج وإبراز عوائقه ونتائجه السلبية.
تقاوم أزماتها بشتى الوسائل. وتحاول تجاوزها. عبر الإقدام على تصرفات تبدو
غريبة بالنسبة لمن حولها، وهو ما يزيد من حدة توترها وقلقها الوجودي. تواجه
أزماتها بالخيال الذي يضطلع بدور هام داخل قصص المجموعة. ليغدو وسيلة
للمقاومة تستنجد بها الشخصيات لمواجهة توتراتها العاطفية أو الوجودية أو
تردي قيم واقعها. مثلا في قصة "احتيالات" تلجأ الشخصية إلى الخيال
والدواء والرياضة. للتغلب على فراغها ووحدتها ورتابة إيقاع حياتها الذي
يتماس مع القلق ليصل إلى حدود العبث واللاجدوى.
لكن الشخصيات مع ذلك تظل متمسكة بخيط من الأمل عبر إصرارها على الرغبة في
الانعتاق من ربقة وضعها المأزوم. تركز القصص على لحظات الأمل لحظات الفرص
الضائعة الوقت بدل الضائع، تؤمن بالأمل. رغبات اللحظات الأخيرة قصة "مزيدا
من الوحشة." بتصور المستقبل وفق براءة زمن الطفولة وأحلامه، إذ تتضمن
القصص فعل التذكر المنشد غالبا إلى الطفولة زمن البراءة والحلم وتحرير
الخيال. وهو ما أضفى على قصص المجموعة طابعا نوستالجيا إلى لحظات جميلة
وبسيطة وبريئة عاشتها الشخصيات في زمن ولى، تريد استعادتها في المستقبل.
تتأسس قصص مزيدا من الوحشة على الحوار بين قيم مفتقدة، تتراجع يوما عن آخر،
تحاول القاصة التشبت بها وبعثها من جديد، وقيم سلبية تسود كل يوم. لتصير
القصص تسجيلا لتفاصيل اليومي كما هي الحال في قصة "احتيالات". تميل إلى
الفضح ونزع الأقنعة عن ما هو في حكم المزيف في الواقع. تقول في قصة
"التماثل للصحو":"أنتٍ في حقيقة الأمر كاذبة من الدرجة الأولى، لأن
العقد النفسية التي تعانين منها ليست قليلة. كما أنَّك لست حرةً من الداخل؛
بل إن ثمة قيود كثيرة تعيث فسادا في رأسك."﴿ص.34.﴾
جاء بناء القصص منسجما مع
هذه الحمولة القيمية التي ترتكز عليها قصص المجموعة. فالعناوين عبارة عن
مقاطع مقتطفة من القصص خصوصا من نهاياتها "التماثل إلى الصحو" نظرا
لاعتمادها على البناء الفني الدائري، وذلك من خلال تلاحم العناوين بنهاية
القصص. كما تقوم أغلب القصص على تقنية قلب الأدوار على مستوى أوضاع
الشخصيات كما هي الحال في قصة "بين الحين والآخر" حيث ينتقل السارد
الشخصية من وضع نادل مثقف يخدم امرأة مثقفة محيرة له إلى زبون لديها في
مقهى آخر لما يفاجأ بأنها نادلة هناك. وتبرز قصة "مزيدا من الوحشة." كيف
أنصف الموت المرأة العاشقة التي ظلت علاقتها برجل متزوج في العتمة وفي
الظل، ليعيش بدوره العتمة. تخاطبه الشخصية بعد الموت: "ترى، هل أدركت الآن
معنى الإقامة في العتمة، وحيدا، وعاجزا، ومتروكا." ﴿ص.41.﴾
تسرد القصص بالتناوب بين ضمير المتكلم والغائب والمخاطب، وكذلك بين الرجل
والمرأة، انسجاما مع سعي القاصة القبض على الإشكالات النفسية والعاطفية
الإنسانية التي تعيشها شخصيات المجموعة في جميع أوضاعها سواء كانت متكلمة
أوغائبة أو مخاطبة، فالمشكلة تعنيها بشكل أو بآخر، خصوصا لما تستعمل ضمير
المخاطب بهدف إشراك القارئ والتأكيد على أنه معني بالتوتر أو الإشكال
المطروح للنقاش.
انسجاما مع روح المجموعة المراهنة على رصد لحظات التوتر، تتراوح لغة
المجموعة بين العادية الملتقطة للتفاصيل واللغة الشعرية التي تختزن
الأحاسيس والمشاعر، إذ تعمل القصص على التقاط مشاعر المرأة المختلفة لحظة
الزهو، لحظة العشق، لحظة الغيرة، ولحظات الحلم، مثلا أحلام المرأة العاشقة
لرجل متزوج وما تعيشه من مشاعر إنسانية محكوم عليها بالتعتيم والصمت. ولا
يتأتى لها ذلك إلا باستنفار كل الحواس من شم ولمس وذوق ونظر.
يتخذ الحوار في قصص المجموعة صيغة المناجاة حينا والمونولوج حينا آخر بين
الشخصيات يتأسس على المكاشفة والمصارحة وإزالة الأقنعة. التي تصل إلى حدود
الإحراج.
هكذا، تكتب بسمة النسور قصصا قصيرة تبحث عن ذاتها باستمرار بتسليط الضوء
على المتوتر والملتبس والقلق في شخصياتها وبالغوص في نفوسها وقلقها
الوجودي، متمسكة بأمل اللحظات بدل الضائعة. مستنفرة كل الحواس مزاوجة بين
اللغة العادية التلقائية واللغة الشعرية مستندة إلى المناجاة والحنين.
الهوامش
* ألقيت هذه الورقة في اللقاء الذي نظمته الجمعية البيضاوية للكتبيين ونادي
القلم المغربي بتنسيق مع مختبر السرديات مع الكاتبة بفضاء الحرية بعين
الشق، الدار البيضاء، 29-06-2008.
** بسمة النسور، مزيدا من الوحشة، منشورات الشروق، الأردن، 2006.
الثلاثاء أكتوبر 26, 2010 6:18 am من طرف الكرخ