عبد الرزاق الجبران، مفكر ديني عراقي، صاحب مشروع الوجودية الإسلامية، أسس مشروعه على النزعة الإنسانية، وأسس فلسفة الجمال، ثار المؤلف في كتابه "الحل الوجدي للدين: انقلاب المعبد" على الصورة المتزمتة لحالة بعض المتمسكين ببعض صور العبادات، وحمل الناس على هذه الصورة، حتى أصبح الصور تؤدى والمضمون فارغ، وتقدمت الصورة، وهبط الإنسان، ونشتعرض في السطور الأتية إهداء المؤلف، وجزء بسيط من مقدمة كتابه، يقول الجبران:إليه ...
.. كنتُ أتمشى خلف الليل كعادتي .. لم أكتب بعد، كما لم أُصلِّ بعد ..
سمعت بضع كلمات في آخر الذات. لم أعرف حينها؛ أهي للكتابة أم للصلاة؟!
انتبهت، سيخرج الليل مني، ولم يبق إلا وقتا واحدًا .. لم أكتب بعد، لم أصل بعد ..
عرفت حينها؛ عليَّ أن أصلي بالكتابة .. ليس لإنها ضرب من الصلاة كما يقول كافكا، بل لأنَّ الأشياء الجميلة تتوحد عند الله.
لا أريد أن أكتب بصلاتي، فليس لدي صلاة كثيرة. ولكني أُريد أن أكتب ببؤسي، فلدي ما يكفي كتابا للبؤساء .. أكره السعداء؛ لأن السعادة ترف آخر .. أكره الفقهاء؛ لأن الفقيه سلطان آخر .. أكره المعبد؛ لأنه دكان آخر .. أكره المثقف؛ لأنه ارستقراطي آخر .. أكره العقل؛ لأنه كفر آخر .. أعشق الثائر؛ لأنه نبي آخر. لا, بل لأنه إيمان آخر .. بل هو عشق آخر .. أعشق الحزن؛ لأنه جبريل آخر.
إلى من عَشَقَ المحراب فغدره .. إلى من حمى المعبد فنفاه.
.. إلى نبي الفقراء.
إلى من مشى وحده، ومات وحده، وخرج على المعبد وحده .. إلى أبي ذر وحده ... وحيدًا بصدقه ورأيه وعصاه, وخبزته وربذته وصحراه ..
.. إلى أبي ذر في منفاه .. فما زال الوقت منفى.
.......................................................................
بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ .... نبي الإسلام.
أيها الإثينيون، إني مؤمن، ولكن لا ككل أولئك الذين يتهمونيي .... سقراط.
ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ; ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﻻ ﺗﺪﺧﻞ على ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ, ﺇﻻ ﺑﺎﻟﺨﺮﻭﺝ ﻋﻠﻴﻬﺎ .. ﻭ ﻟﻦ ﺗﺼﻠﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺮﻙ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ .. ﻭﻻ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﻜﻔﺮ ﺑﺎﻟﻤﻌﺒﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻓﻊ ﺍﺳﻤﻪ .. ﻭﻟﻦ ﺗﻌﺎﻧﻖ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺨﻠﻰ ﻋﻦ ﻛﺘﺐ ﻓﻼﺳﻔﺘﻬﺎ !
تلك القناعات وصورها، وما يأتي على نسقها، وهو كثير، ليس مزاجًا آخر في الذات، أو تيه عنها. وإنما أُسُّها، أعترف هو ما كتبه تيهي يومًا –الحقيقة ليست بعيدة ... الأسماء تبعدها- فللتيه من الحكمة قدر رِماله ... أُسّا، كان إنجابه إنجابًا لدرب فضح كل الدروب، وقوافلها. كما جعلني واثقًا من قافلتي مهما خرجت بي على طريق آبائي.
"الحقيقة ليست بعيدة .. الأسماء تُبعدها" إذ لكثر ما كان المعبد الذي يرفع لله بالنهار "اسمه" يسرق بالليل "إنسانه"؛ لذا لا أستطيع أن أسميه معبدًا، مهما كثرت مآذنه ونواقيسه.
أعرف أنه حينما نبدأ البحث أكثر فقد نفقد الصواب، كما قال أحدهم. ولكن لا بأس، نستطيع أن نحترز بـــــ (أن نُربي قلبًا جديدًا)[i] كي نبقى. وفي هذا فقط آية: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ" [سورة المؤمنون، من الآية 144]. دعونا من العقل فهو كفر آخر. رغم علمي أن: "الدين هو المشكلة"، ولكن لا بأس سأكرر هنا مُقتنعًا أن: (الدين هو الحل) ... رغم امتعاضي وسخريتي من هذه الكلمة؛ لنسبها السلفي والإسلاموي في حركاته وانتخاباته، بصيغة "الإسلام هو الحل" طالما إنهم أرادوا بالدين معبدهم وترسانته الأيديولوجية بكل عقدها وانحرافاتها. وطالما يقصدون به دينهم المتداول، الذي ينوء برفع نفسه أنملة عن الحضيض ... ولكن ليس المشكلة هنا هي مقولة "الدين هو الحل" المشكلة هي أن تجد "دين" ذلك الحل ... أي ليس المشكلة في "الحل ونسبه"، حل ديني أم علماني. إسلامي أم مسيحي أم بوذي. مشاعي أم رأسمالي ... وإنما المشكلة في "الدين ونسبه" دين الفقيه والسلطان والأحزاب والمثقفين، أم دين الوجود / دين القلب / دين النبي ... المزور في أروقة التاريخ مع أولئك ... دين المعبد الارستقراطي أم دين المعبد الذي يقدم احجاره لدفء الناس ... دين الروح الجائع والثائر إلى الله.
إذن أليس الأولى أن نبحث عن "حلٍّ للدين" أو لا؟ قبل أن يُزعم "حل" مشاكل الناس بالدين الجاهز معبديًا، وهو أصل تلك المشاكل قبل غيره .. تلك هي صفاقة المعبد ... المشكلة الضالة أكثر، هي أننا أفرطنا كثيرًا في الأسماء، كسبنا كثيرًا من الأسماء، وخسرنا كثيرًا من الأشياء .... " كسبنا من الإسلام أشياءنا، وخسرنا منه أشياءه" حتى تاه الإسلام بين أشيائنا، فلم يبق منه إلا اسمه ... يُسمون به، وهم أبعد الناس منه ... كما تنهد يومًا رسول المساكين[ii]. هذه هي مُشكلتنا في العالم، كسبنا المدن وخسرنا الشوارع .... كسبنا المصلين، وخسرنا الصلاة !! ارتفعت المعابد، وهبط الإنسان.
إذن هي المشكلة الأسماء، قبل كل شىء "الحقيقة ليست بعيدة، الأسماء تبعدها" .. لذا علينا أن نبحث عن الحقيقة خارج الأسماء ... قد نجد شيئا منها لدى بوذي، قد نجدها مع صعلوك، مع إنسان دون صلاة خارج معبد ... خارج الفقهاء ... خارج الفلاسفة ... على الأسماء أن لا تجرنا لأي رؤى، سواء أكانت أسماء متعالية أم متدنية، إسلام، صلاة، معبد، فقيه، فيلسوف، مسيحية، كنيسة، قس ... سني، شيعي، بوذي .. اجتهاد، فلسفة ... غانية، لص، سكير، حانة.
[i]- يقول المؤلف: أصبح لاحقًا منحى "نربي قلبا جديدًا" أسا لدي في الوجودية الدينية ... وتصادف مع كثير من المتصوفة في هذا المنطلق، ناهيك أن أهم شىء في هذا الأمر هو أن الأنبياء في أدبياتهم، طلما تتكرر معهم غاية؛ جعل الإنسان جديدًا .. بتجدد قلبه. [ii]- "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيما يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خرابٌ من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود"، [من كلام الإمام عليّ].