طالب علم -(أرشيفية)ذواتمغامرة علمية قام بها الباحث التونسي حمادي الذويب، عندما ارتأى إلقاء بعض الأضواء على إشكالية مشاركة العامّة في الإجماع الأصولي من خلال نصّ للفقيه والأصولي "الزركشي"، وسمه بـ "من المعتبر وفاقهم في الإجماع؟ العلماء أم جميع الأمة"؟، وهي المغامرة التي جاءت مفصلة في دراسة نشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، تحت عنوان "إشكالية مشاركة العامة في الإجماع الأصولي".
يتطرّق النصّ الذي اشتغل عليه الباحث إلى إحدى نقاط الخلاف بين الأصوليين، وتتمثّل في الموقف من مشاركة العامّة في الإجماع، ويقوم النصّ على ثلاثة أقسام أو مقاطع، وهو تقسيم يبرّر بتضمّنه لمواقف ثلاثة:
أوّلاً: من بداية النصّ إلى "وتحريم الفتوى منهم في الدين"، وفيه يبيّن الكاتب في هذا المقطع مستندات الموقف الذي يعتبر الإجماع حكراً على العلماء دون العامّة.
ثانياً: من "وقيل يعتبر قولهم" إلى "فوجب سقوط الاعتبار بقول العامّة"، ويوضّح الكاتب فيه الموقف الثاني الذي ينصّ على تشريك العامّة مع العلماء في الإجماع.
ثالثا: من "هذا كلامه" إلى آخر النصّ: وفيه يتّخذ الكاتب موقفاً توفيقياً وسطاً بين الموقفين السابقين مهوّناً شأن الخلاف بينهما.
وقد ارتأى حمادي الذويب شرح هذا النص من خلال جملة من المحاور، لعل أهمها من وجهة نظرنا، المحور المتعلق بإقصاء العامّة، حيث عبّر الزركشي الشافعي المذهب عند عرضه للموقف الأوّل على انتمائه إلى موقف الأغلبيّة في المدوّنة الأصوليّة السنيّة، وهو ينصّ على حرمان العامّة من الإسهام في الإجماع. وفي مقابل ذلك، لا يعتبر الإجماع إلاّ إذا كان متضمّناً قول الخاصّة من أهل العلم، وهذه العبارة غير واضحة بالشكل الكافي، يضيف الباحث.
علماء أصول الفقه بتكريسهم التفاوت بين الخاصّة والعامّة، إنّما يعكسون الطّابع الأيديولوجي لفكرهم ومنظومتهم الأصوليّة، فهم من فئة المثقّفين المحافظين الساعين إلى تثبيت الأوضاع وصيانة القيم الاجتماعيّة المتوارثة
في المحور الخاص بموقف تشريك العامّة مع العلماء في الإجماع، يورد الزركشي نصّاً يُفصّل موقف الباقلاني اقتطفه من كتاب "التقريب"، وهو كتاب مطبوع وصلتنا منه ثلاثة أجزاء، لكن مباحث الإجماع لا توجد فيها، حيث ينطلق الباقلاني في نصّه هذا ممّا قرّره قبله، وهو أنّ السمع دلّ على صحّة إجماع جميع الأمّة. وهذه النقطة غير واضحة ومفصّلة، إلاّ أنّها تضاء من خلال المصادر الأصوليّة التي نقلت أنّ الباقلاني ومن شاركه في رأيه استدلّوا بالآية "ومن يُشاقِقْ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ"، وبالحديث "لا تجتمع أمّتي على ضلالة". وقد فهم الباقلاني لفظ المؤمنين والأمّة فهماً متّسعاً دون تخصيص الدّلالة وحصرها في فئة قليلة من الأمّة هي العلماء.
وأخيراً، في المحور الخاص بموقف الكاتب، يخلص الباحث إلى أن النص (قيد الدرس) يُعدّ شاهداً جيّداً على الدور المهمّ الذي قام به الزركشي في كتابه، وفي نصّه بالخصوص، وهو دور متعدّد الأبعاد؛ ففي مستوى أوّل سمح لنا هذا النصّ بالتعرّف إلى بعض تفاصيل موقف الباقلاني، وذلك من خلال نصّ اقتطف من مصدر لم يصلنا منه مبحث الإجماع، وهذا ما يضفي قيمة وثائقيّة متميّزة لعمله. وفي مستوى ثان، برز دور الكاتب وموقفه من خلال عمليّات الإضافة والحذف والانتقاء، مثل إضافة الحجج النقليّة لتدعيم موقف الأغلبيّة السنيّة، وحذف حجج الموقف المقابل النقليّة.
وما يستخلصه الباحث في النهاية أنّ موقف الأصوليين الذي أقصى العامّة من الإجماع والاجتهاد يعبّر عن سلوك إنساني قديم، سلكته كلّ فئة تمسك بالسلطة إزاء رعاياها، وأسهم في تكريس هذا السلوك تعاضد أصحاب السلطة من الحكّام أو التجار أو العلماء. ولذلك كان التضامن بين الحكّام والأغنياء والعلماء سمة قارّة في التاريخ، وكانت التناقضات بينهم ثانويّة بإزاء التناقض الرئيس بينهم جميعاً من جهة، وبين سائر أفراد المجتمع وفئاته من جهة أخرى.
وهكذا، يضيف حمادي الذويب، فإنّ علماء أصول الفقه بتكريسهم التفاوت بين الخاصّة والعامّة، إنّما يعكسون الطّابع الأيديولوجي لفكرهم ومنظومتهم الأصوليّة، فهم من فئة المثقّفين المحافظين الساعين إلى تثبيت الأوضاع وصيانة القيم الاجتماعيّة المتوارثة، كما أنّهم يحرصون على استمرار الأفكار التي تدّعي علويّة العلماء على العامّة وسلطة الماضي والسلف على الحاضر والمستقبل. ولعلّ ما يبرز انغماس الخطاب الأصولي في الأيديولوجيا، أنّه يدافع عن فريق اجتماعي مخصوص هو الفقهاء لإزاحة الأصناف الأخرى من العلماء، وهذا التنافس مداره السلطة والسيطرة على الواقع. وهكذا تنتفي مشروعيّة الموقف الأصولي، لأنّها لا تتأسّس على حجج نقليّة قطعيّة ومباشرة وصريحة، كما أنّها لا تستند إلى حجج عقليّة منطقيّة.
لقراءة رابط الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: