ارتبط التحديث الذي طال قانون الأسرة المغربي بالمشروع المجتمعي للدولة تحت حكم الملك محمد السادس الذي ما فتئ يعبّر عن طموحه الحداثي منذ توليه عرش البلاد سنة 1999، وبالتالي يأتي تعديل قانون الأسرة استجابة لـ"رغبة ملكية بامتياز"، وهو ما تختزله دعوة الملك لأعضاء "اللجنة الملكية الاستشارية المكلفة بمراجعة مدوّنة الأحوال الشخصية" التي عيّنها بنفسه سنة 2001، والمشكّلة من ممثلين عن قوى حداثية ومحافظة، إلى "تبني صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمسّ بكرامة وإنسانية المرأة".وقد جاء التعديل جوهرياً، حيث أقرّ: جعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين، مساواة المرأة بالرجل بالنسبة لسن الزواج بتوحيده في ثماني عشرة سنة شمسية، جعل الولاية حقاً للمرأة، تمارسه الراشدة حسب اختيارها ومصلحتها، يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها، ولا تسمح به المحكمة ما لم يثبت لديها "المبرر الموضوعي الاستثنائي" وأهلية طالبه المادية وقدرته على تحقيق "المساواة في جميع أوجه الحياة"، تدبير الممتلكات المتراكمة خلال فترة الزواج بالتنصيص على استقلالية الذمّة المالية لكلا الزوجين مع إمكانية "الاتفاق على استثمارها وتوزيعها" في إطار "وثيقة مستقلة عن عقد الزواج". وفي حال غياب هذا الاتفاق يرجع "للقواعد العامة للإثبات، مع مراعاة عمل كلّ واحد من الزوجين وما قدّمه من مجهودات وما تحمّله من أعباء لتنمية أموال الأسرة"، جعل الطلاق حلاً لميثاق الزوجية يمارس من قبل الزوج والزوجة كلّ حسب شروطه الشرعية وبمراقبة القضاء وطبقاً لأحكام المدوّنة. كما جعل للزوجة حقّ طلب التطليق في ستّ حالات.
وقد كان التناقض، وفق دراسة أعدها الباحث المغربي محمد بوشيخي ونشرت في موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة تحت عنوان "العقل الأصولي أمام اختبار الحداثة قضية المرأة نموذجاً"،مهولاً بين أعضاء اللجنة الملكية المكلفة بتعديل المدوّنة في القضايا الخلافية المتعلقة بالأحكام الشرعية، فغياب الانسجام الإيديولوجي بين التيار المحافظ والتيار الحداثي وافتقار النقاش لأرضية توجيهية تحدّد وظائف الأعضاء بحسب التخصص طرح إشكالية ممارسة الاجتهاد داخل اللجنة وانتهى إلى تعويم مفهومه.
وفي سياق التجربة المغربية لتعديل قانون الأسرة لم يعد الاجتهاد، بحسب الدراسة، حكراً على العلماء كما كان شائعاً، بل أصبح مهمّة يشترك معهم فيها غيرهم من ذوي الثقافة الحديثة كرجال القانون وعلماء الاجتماع.. ويجتمع أنصار التوجّه الحداثي في الاعتراف بميولهم التقدمية الرافضة للنظرة الأرثوذكسية للإسلام والدعوة لاجتهاد يتجاوز الشروط المقررة في الفقه الإسلامي الكلاسيكي. فهم لا ينكرون الإسلام كمرجعية، بل يرفضون هيمنة العلماء على النطق بأحكامه في المسائل الدنيوية، وينهلون هم أيضاً من نصوص الدين لتبرير موقفهم.
وإذا كان العلماء من أمثال مصطفى بنحمزة لا يبدون أي انشغال بخصوص مضامين المطالب النسوية ما دامت لا تتوافق مع القواعد الأصولية مكتفين بالرفض المطلق وحريصين على إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، فإنّ جزءاً آخر من العلماء، محدود العدد، أبدى تفهماً إزاء تلك المطالب وانشغل بهاجس تبيئتها. فهؤلاء لا يرون المشكل في الغاية، أي في مضامين التعديلات بحد ذاتها بل في الوسيلة؛ أي في المنهجيات التي يتيحها علم الأصول باعتباره جملة "القواعد العامة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية". ومن ثمّ صاروا مقتنعين بضرورة فحص المفاهيم الإسلامية وإعادة قراءتها، وهو اقتناع يعكس "حيرتهم" حيال مسألة الاجتهاد التي نقرأ معالمها في كتابات إبراهيم حمادي، أحد أكثر العلماء انفتاحاً وتفهماً للمشروع الحداثي، ويشاركه فيها التيار التجديدي داخل الحركة الإسلامية وخصوصاً مكونها النسوي.
إنّ مأزق الاجتهاد بشقيه؛ الفقهي والتقدمي في التوافق حول مخارج للإشكالات المطروحة قد أدى، وفق الباحث، إلى فسح المجال أمام "الاجتهاد الرسمي" لإعمال ملكته، فبخلاف الملك الحسن الثاني الذي اكتفى بالمصادقة على التوصيات المجمع عليها من طرف علماء لجنة 1993، المشكّلة حينها للنظر في تعديل المدوّنة، رغم الانسجام الإيديولوجي بين أعضائها، دون المساس بمواقع الخلاف، فإنّ وريثه في الحكم الملك محمد السادس قرّر تفعيل "اجتهاد" إمارة المؤمنين، آلية تقليدية بامتياز، للانتصار للخيار الحداثي.
جاء "الاجتهاد الرسمي" لملء الفراغ ومدّ الجسور بين "الاجتهاد التقدمي" و"الاجتهاد الفقهي" عبر إبرام التصالح بينهما، لكن ليس على حسابه، بل كان ذلك في منتهى حسبانه. لقد قدّم مخرجاً لغربة "الاجتهاد التقدّمي" عن الأصول الشرعية وغربة "الاجتهاد الفقهي" عن بيئته الواقعية، اجتهاد انطلق من إمارة المؤمنين بكونه سلطة مرجعية عليا ووحيدة لتأكيد المنطلقات الدينية للإصلاحات الحداثية المعلنة.
أمّا آلياته الشرعية في الاستنباط التي لم تتناولها المادة الإعلامية حينها فيمكن ربطها، بحسب الباحث، بمصادر المذهب المالكي، المذهب الرسمي للمغاربة، لكن ليس من باب المسالك النقلية التي استنزفت مجهودات العلماء قديماً وحديثاً، إنّما من خلال البحث في المصلحة التي هي مدار أحكامه وعماد الرأي فيه، خصوصاً عبر التوسل بأصل المصالح المرسلة لاستثمارها في توسيع هوامش المباح. هذا ما سيتقرر لاحقاً في ردّ علماء المجلس العلمي الأعلى على دعوة الملك، يوم 8 يوليو 2005 بخصوص اعتماد المصالح المرسلة في علاقتها بقضايا الشأن العام وتجديد الاجتهاد الديني، ليقرّوا بأحقية الإمام في ممارسة التشريع في ثلاثة مجالات: "ما لا نصّ فيه من الشرع، ما كان موضع خلاف فقهي تباينت فيه الآراء، ما كان فيه تحقيق مصلحة حقيقية".
هكذا نجح المغرب الذي له وضعه الخاص في العالم العربي، اعتباراً لمكانة إمارة المؤمنين المجسّدة للسلطة الدينية في البلاد، في التعامل مع موضوع المطالب النسوية بشكل مختلف وفريد؛ فهو لم يرهن مصير المرأة بحكم فقهي محرّم لحقوقها، كما كان الشأن في الدول الأخرى، كما أنّه لم يبرر مطالبها بقرار سياسي محض خارج المرجعية الدينية، بل تمّ تفعيل سلطة إمارة المؤمنين لتوفير الغطاء الشرعي للمطالب ذات النَفَس الحداثي.
وبعد دخول قانون الأسرة الجديد حيز التنفيذ، الذي كان بمثابة إعلان فشل للخطاب المحافظ ودخول مؤسسة العلماء لمرحلة جديدة في سياق "سياسة الاحتضان" الرسمية، ستعمل الدولة على "جندرة" الحقل الديني من خلال إدماج العنصر النسوي في المؤسسة الدينية الرسمية. وقد ترافق هذا مع تلبية مطالب حقوقية أخرى سبق لخطة سعيد السعدي أن تضمنتها، دون أن تلقى أيّة مقاومة من الأوساط المحافظة، مثل تمكين الطفل "اللقيط" من التوفر على اسم لوالده ابتداء من سنة 2002 بدل عبارة "مجهول الأب" التي كانت لصيقة به بمقتضى قانون الحالة المدنية، ثم استحداث قضاء مختص بقضايا الأسرة سنة 2004، بموجب قانون خاص، وكذلك حق الأطفال من أمّ مغربية وأب أجنبي، ابتداء من سنة 2007، في الحصول على الجنسية المغربية. وكل ذلك تفعيلاً لجواب العلماء السالف الذكر حول المصلحة المرسلة.
كما سيستمر مسلسل التحديث المرتبط بالتشريع الديني من خلال تنصيص دستور 2011 في تصديره على سمو الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب "على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة"، ثم الإعلان مباشرة بعد ذلك، في فاتح شتنبر من السنة نفسها، عن رفع المغرب لتحفظاته على المادتين 9 و16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) التي انضم لها سنة 1993.
هذه المكتسبات القانونية للمرأة جاءت، كما أوضح الباحث، حصيلة قرارات "اجتهادية" اتخذت بشكل فوقي من طرف السلطة الدينية، سلطة إمارة المؤمنين التي وفّرت لها الشرعية الدينية، دون الرجوع إلى الفقه الذي مازال عاجزاً عن تقديم إجابات منطقية حول إشكالات الواقع المتغير باستمرار. كما أنّه واقع يعكس المفارقة الخفيّة بين الإسلاميين والفقهاء إزاء الفقه عموماً وفقه المرأة خصوصاً، فإذا اقتصر العلماء في غالبيتهم على الصمت إزاء المتغيرات الطارئة فإنّ الإسلاميين، من موقع البرغماتية السياسية، بادروا إلى تبني خطاب تبريري والتماس مخرج شرعي لتسويق مواقفهم الجديدة.