لا ينْفصل التفكير في أزمة الأزمنة الحديثة عند الفيلسوفة حنة آراندت عن الاهتمام بمشكلة الفعل والحرية؛ إذ ظلت هذه الأخيرة واحدة من المفاهيم التي قاربت منها هذه الفيلسوفة مشكلة الشرط الإنساني ووضعية الإنسان في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. فلا غرابة، أن تنظر آراندت إلى الحرية بحسبانها خير تجسيد للشرط السياسي للإنسان، لاسيما أنّ الحرية في نظرها فعل، والفعل يبقى النشاط الأهم، إن هو قورن بغيره من الأنشطة الناظمة للحياة النشيطة.تتضايف، في متن هذه الفيلسوفة، مفاهيم الحرية والسياسة والفعل كلما تعلق الأمر بالحديث عن الشرط السياسي للإنسان، وهذا ما يعني أنّ توصيفها لملامح اندحار الحرية في الأزمنة الحديثة كان في جوهره توصيفاً لما ألمّ بالكينونة الإنسانية من انمحاء بسبب تصاعد الأنظمة الكلانية (التوتاليتارية)، بما نجم عنه من تصاعد لمظاهر العنف التي جثمت على الاجتماع السياسي الحديث من جهة، وتراجع نموذج الإنسان الفاعل بسبب انتصار نموذج الإنسان المشتغل، وما استتبعه ذلك من إبدال للفعل بالشغل، واختفاء هم الاستمرارية في الزمن عند الإنسان الحديث.
نظرية آراندت في الفعل السياسي لم تكن مجرّد نحت لمفهوم فلسفي جديد بقدر ما كانت محاولة لإحداث انقلاب في تصور الفلسفة لنظام الوجود الإنساني نفسه.
بوّأت آراندت مفهوم الفعل مكانةً مركزيةً ضمن تصورها للشرط الإنساني، بأن جعلت منه النشاط المحتكر للدلالة السياسية بامتياز، وذلك بالنظر إلى قدرته على إنتاج الاستمرارية في الزمن، الذي يمثل ماهية الفعل السياسي، إن هو قورن بغيره من أشكال النشاط الإنساني كالشغل والعمل. ومن شأن الوعي بهذه الحقيقة أن يُفهمنا سرّ ارتكاز فلسفة الفعل عند هذه الفيلسوفة على الخروج من دائرة التقليد الفلسفي الذي اختزل الحياة الإنسانية في بعدها التأملي، وهو أمر ألقى بظلاله على تصور الفلسفة لمفهوم الحرية نفسه بأن اختزلها في الحرية الجوّانية تارة، وفي حياة التأمل تارة أخرى، فكانت النتيجة أن صدرت الفلسفة عن رؤية غير سياسية إلى الحرية أتتْ تعضد رؤيتها الوحدوية إلى الحقيقة، وتزيد الفيلسوف غربة عن عالم الحياة الإنسانية والقضايا العمومية.
يلزم من التداخل بين الحرية، والسياسة، والفعل، والتاريخ، أنّ الإنسان عند آراندت، وفق دراسة أعدها الباحث المغربي نبيل فازيو، ونشرت في موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ينهل معناه من قدرته على الفعل وتجسيد حريته، وهذا أمر بَيِّنٌ من قدرته على المبادرة وخلق سبل العيش المشترك داخل الفضاء العمومي. بذلك يكون الفعل السياسي علامة على ما يختصّ به الشرط الإنساني من فرادة وتميّز؛ إذ بمقدار ما يروم الإنسان الفاعل التعبير، بفعله السياسي، عن انتمائه إلى الفضاء العمومي، وبمقدار ما ينهل معنى انتمائه من المواطنة من حيث هي صلة وصلٍ أفقية بين الأفراد المنتمين إلى المدينة، فهو يعبّر كذلك عن قدرته على خلق التمايز والاختلاف داخل الفضاء العمومي، باعتباره شخصاً فريداً ومتميزاً عن أضرابه من المواطنين.
صحيح أنّ آراندت كانت على بيّنة من أمر الصعوبات التي يُمكن أن تتناسل من تشديدها على عفوية الحرية والسياسة وهشاشة الشؤون البشرية، خاصة وأنّ تدبير الشأن العام يستدعي، بالضرورة، قدرةً على الحسم في كثير من الخلافات والقضايا ذات الصلة بمبادئ الاجتماع السياسي الرئيسة، وهو ما يُعارض مبدئياً على الأقل تصورها للسلطة، كما للفعل السياسي، باعتبارهما حرية. إنّنا أمام المفارقة عينها التي ما انفكت تؤرق كلّ الذين تصدّوا لتحديد معنى السلطة الناجمة، من جهة، عن وجود هذه الأخيرة "في مفترق الطرق بين محورين اثنين؛ محور عمودي تمثلُ له الهيمنة، وآخر أفقي يتجلى في إرادة العيش المشترك"، ومن جهة أخرى، عن المفعول السلبي للذاكرة عندما يُلقي الماضي الأليم بظلاله على الاجتماع السياسي، فيحول دون توفر القدر اللازم من الثقة والتوافق لخلق شروط العيش المشترك بين الناس.
وكان من الطبيعي، أن ترفض آراندت، بحسب الدراسة، النظر إلى الفعل السياسي انطلاقاً من مقولة الوسيلة-الغاية، لما لمسته في ذلك من مجافاتها لفكرة العفوية واللاتوقع، وهذا أمرٌ يمكن فهمه متى استحضرنا اعتقادها أنّ اختزال السياسة في مقولة الغاية والوسيلة كان في جملة الأحكام المسبقة التي انتهل منها الوعي الغربي في بلورة تصوره الخاطئ عن السياسة، كما يبقى في جملة المرتكزات التي تأسست عليها نظرة الفكر السياسي الغربي إلى السياسة ومجالها، كما يمكن أن يستشف من تحليل آراندت لتصور ماركس وفيبر للدولة والسياسة.
ويشير الباحث إلى أن نظرية آراندت في الفعل السياسي لم تكن مجرّد نحت لمفهوم فلسفي جديد بقدر ما كانت محاولة لإحداث انقلاب في تصور الفلسفة لنظام الوجود الإنساني نفسه. ما يُعزّز زعمنا هذا أنّها عمدت إلى تأسيس نظريتها تلك على أنقاض التصور الهيدجري للوجود والإنسان، بأن أحلت الحياة والفعل محلّ التناهي في تصورها لأفق الوجود الإنساني. من علامات هذا الانقلاب تشديدها على فرادة الفعل السياسي وقدرته على خلق التميز داخل اجتماع بشري يروم الوحدة والتشابه، فكان أن لجأت إلى وصف الإنسان الفاعل بعبارة Le qui (الــ"من") التي تقف على الطرف النقيض من عبارة le onالتي جرت عادة هيدجر على استعمالها للدلالة على ما يسم المجتمع الحديث من ميول نحو خلق التشابه ونفي الاختلاف والتميز، وما يعيشه الدازاين من عوز أونطولوجي وتيْهٍ في عالم لم يعد قادراً على فهمه، رغم أنّه مدان بالعيش فيه.
العالم سليل الفعل السياسي وتجلٍّ من تجليات الصناعة الإنسانية، وهذا ما يجعله مجالاً يتبدّى فيه تفاعل الإرادات الإنسانية.إنّ إعادة النظر في مفهوم العالم وربطه بالتواجد مع الغير، وبالفعل السياسي، كان من أهمّ ما جاءت به أطروحة آراندت قياساً بتصور هيدجر للعالم؛ لقد كادت فيلسوفتنا أن تُطابق بين العالم والفضاء العمومي، معتبرةً أنّ العالم ليس إطاراً قبلياً ومسبقاً يتحدد فيه معنى الوجود، ولا هو عالم الروح على نحو ما وضّحه في مدخل إلى الميتافيزيقا، بل هو، في ظنّها، سليلُ الفعل السياسي وتجلٍ من تجليات الصناعة الإنسانية، وهذا ما يجعله مجالاً يتبدّى فيه تفاعل الإرادات الإنسانية، وفي ظله فقط يمكن أن نفهم حاجة الإنسان إلى الوعي التاريخي باعتباره صانع التاريخ.
ترى آراندت، وفق الباحث، المعنى العميق لمفهوم العمومي (public)، الذي يتجاوز كلّ ما بتنا نفهمه اليوم من كلمة سياسة (politique)؛ فهذا العنصر الذي يبقى خاصاً بشخص ما دون غيره، لا يتجسّد إلا داخل فضاء الظهور والعمومية. وفيلسوفتنا تأتي، بموقفها هذا، على بيان الأبعاد الروحية للفضاء العمومي؛ إذ تستحضر اعتقاد الرومان أنّ المجال ذاك فضاء ينكشف فيه ما كانوا يصطلحون عليه بلفظ humanitas، الذي كان يشير إلى أرقى السمات الإنسانية المرتبطة بخوض مجازفة الحياة العمومية. يعني ذلك أنّ العزلة لا يمكنها أن تقود صاحبها إلى الظفر بـ humanitas. وذلك سيقودنا بالضرورة إلى القول إنّه وحده من يقبل تعريض حياته لخطر الحياة العمومية يستحقُ أن يوصف بأنّه إنسانٌ حر؛ ممّا يعني أنّ الإنسانية تتجذر في الفعل، وما ضمور القدرة على الفعل في زمن الحداثة إلا علامة على الأزمة التي طالت معنى الإنسانية نفسها وصيّرتها إنسانية منقوصة.
ما يعنينا من تصوّر آراندت لمسار تشكل الأزمنة الحديثة تشديدها على ما طال الشرط الإنساني من تصدّعٍ بسبب إحلال الشغل محل الفعل وتصاعد الإنسان المشتغل كنموذج مهيمن على الوعي الغربي الحديث. وهذا ما يعني أنّ الحداثة الغربية أرست دعائم نزعة ذاتية جديدة تنوء الحالة الإنسانية بحملها.
لقراءة الدراسة كاملة انقر هنا