لا شك بأن المراقب لتطور المجتمعات يدرك جيدا على أنها لا تسير في منحى خطي واحد ومستقر، بل على العكس من ذلك تماما، فهي في تغير مستمر. ولفهم العالم أكثر جدية علينا أن نتجاوز التصورات المادية الحتمية، وإحلال التاريخانية كبديل لها. كما يذهب إلى ذلك إيمانويل كاستلز في كتابه “المجتمع في الشبكات”. أي أن تعريف المجتمع لا يوجد بشكل وظيفي معزول، وإنما في سيرورة تاريخية. بمعنى آخر يوجد شكل المجتمع في تفاعل ثلاثة أبعاد أساسية هي الإنتاج: ويهمّ علاقة المجتمع بالتقنية وهذا الأخير يعطينا تقسيم معين للعمل ولأن التقسيم التقني للعمل يعطينا التقسيم الاجتماعي لهذا الأخير. التجربة: وهي علاقة الإنسان بذاته وهنا نجد كل ما تثيره البيولوجيا والأسرة والقرابة (مجتمع بطريركي، أميسي..) ومن خلاله يستقر المجتمع إلى أفكار معينة.ثم السلطان: وهي كيفية انتظام علاقاتنا بالآخرين وهنا نناقش مسألة الحكم السياسي أو الدولة.وفي نظر إمانويل كاستلز فتفاعل هذه العناصر الثلاثة يعطينا شكل المجتمع، معنى ذلك أنأي شكل مجتمعي لا يكاد يطول إستقراره على معهود معين حتى تتخلله رجات وهزات، تحرك هذا المعهود المستقر، وتؤدي بالمجتمع إلى البحث مجددا عن معهود جديد يتشكل انطلاقا من تفاعل هذه العناصر مع بعضها مرة أخرى.
ويقر كاستلز أننا نعيش تلك اللحظات النادرة في التاريخ حيث يعيش الإستقرار والبراديغم اهتزازات واضطرابات عنيفة. إذن نحن في مرحلة البحث عن براديغما ومعهود جديد. وتاريخيا نحن نعيش مرحلة البحث عن قيم جديدة.
وهنا يمكننا أن نعود إلى سؤال الانطلاق كيف يمكن أن تساهم العلوم الاجتماعية والإنسانية وبالأخص السوسيولوجيا، في فهم العالم الرقمي المعولم في القرن الواحد والعشرين ؟
لا يمكن لأي عاقل اليوم أن يعارض فكرة أن السوسيولوجيا تساهم بشكل كبير في فهم وتفسير عالم اليوم. وإلا فكيف يمكن الوصول إلى خلفيات كل هذه التحولات والانكسارات المستمرة، التي يعرفها المجتمع.هنا لا بد من الاستعانة بالسوسيولوجية كعلم يضع بين أيدينا المبادئ الخفية المتحكمة في سير المجتمع. وإذا اعتبرنا أن مجتمع اليوم؛ – المجتمع المعولم، والذي أخذت فيه التقنية مكانة مركزية. وأصبحت التكنولوجية القطب الذي تدور حولها أغلب العلاقات الاجتماعية-. فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية ونخص بالذكر هنا الانتروبولوجية وعلم النفس والسوسيولوجيا، كان لها الفضل في الغور داخل دهاليز الماضي خلف الحاضر كما يقول ليفي ستراوس لفهم المجتمع وفي بعض الأحيان التنبؤ بمصيره، ومحاولة التدخل في علاج بعض ما يتربص به من مشاكل.
سنأخذ على سبيل المثال لا الحصر كتاب ألان تورين “براديغما جديدة لفهم عالم اليوم” كنموذج من هذه المساهمات الخلاقة في مجال السوسيولوجيا لفهم العالم الرقمي المعولم، هذا دون أن نلغي باقي كتبه هو نفسه أو بعض الكتب لباحثين آخرين كإمانويل كاستلز ويورغن هابرماس..
يقول ألان تورين في مقدمة كتابه ” في كل مرة تتبدل نظرتنا إلى ذواتنا وبيئتنا وتاريخنا، نشعر أن العالم القديم تحول إلى أنقاض وليس في الأفق ما ينبئ بالحلول مكانه، ذلك نشعر به اليوم، لكننا سنحاول، كما فعلنا سابقا إنشاء تصور جديد للحياة الاجتماعية يخول لنا الإفلات من الشعور المتعلق بفقدان كل معنى”1 إن هذا البحث المضني عن المعنى في مجتمع يتلاشى فيه المعنى، ويصبح التنقيب عن هذا الأخير، هو ما يجعلنا في كل مرة في أمس الحاجة للسوسيولوجيا لتنير عنا دروب المجتمعات المتعاقبة والمتحولة بشكل ملفت.
وإذا تأملنا محتوى الكتاب نجده يؤكد فكرة نهاية المجتمع الذي ينسحب تاركا المجال أمام الذات الفاعلة، التي أصبحت عنصرا تفسيريا مهما، أي أن انهيار أغلب المؤسسات الثابتة كالأسرة والقبيلة..وتراجعها عن أداء أدوارها التاريخية، أدى إلى بروز الذات الفاعلة. ويقول في هذا السياق ” ينتج من تفكك الأطر الاجتماعية انتصار الفرد القادر، بالرغم من انفصاله عن المجتمع، على محاربة النظام الاجتماعي القائم، محاربته قوى الموت، على السواء”2كما أكد أننا لم نعد نتكلم عن ذواتنا بمصطلحات اجتماعية كما كان الحال في المجتمعات السابقة بل أصبح الحديث بلغة ثقافية عن الحياة الاجتماعية نفسها. وأعطى مثال موت الحركات الاجتماعية التي تستمد موضوع حراكها من النظريات الكلاسيكية (الماركسية). التي تفترض في نشوء أي حراك اجتماعي، الوعي الجماعي للعمال بالظلم واللاعدالة الاجتماعية، وكذلك الوعي بالاستغلال الطبقي. لكن وكما يؤكد تورين أن الحراك الاجتماعي اليوم يستمد روحه من الجانب الثقافي.وأصبح الجامع في حراك اجتماعي معين، ليس هو المعطى السوسيوإقتصادي المشترك، بل على العكس من ذلك هو الثقافة المشتركة (الإثنية، الدين، اللغة..). هذا دون أن يغفل الوضع الجديد الذي أصبحن النساء يعشنه في مجتمع اليوم وهو الوضع الذي بدأ ينقلب مع مرور الوقت.
“إن الطرح العام لهذا الذي يتمحور حوله هذا الكتاب هو الانتقال من مجتمع يدرك ذاته ويتصرف من منطلق اجتماعي- اقتصادي إلى نمط مجتمعي، سميته ما بعد- اجتماعي لأن جميع المقولات التي تنظم تصورنا وعملنا لم تعد اجتماعية حصرا، بل ثقافية.”3 إننا أمام مجتمع رقمي كما قلنا سالفا. لأن المجتمع الذي نحيا فيه اليوم هو نتاج الثورة التكنولوجية، التي عملت على تحرير وسائل التواصل من وصاية الدولة، وجعلتها تحت وصاية الأفراد، الذين أصبحوا يستغلونها بشكل مختلف.كل هذا خلق هذه الديناميات المختلفة من السلوك. وأنتج لنا عوالم افتراضية نهرب إليها من الواقع المعيش. كما أدت هذه الثورة أيضا على مستوى ماكرو إلى ازدهار التجارة العالمية، وتحرير حركة تنقل رؤوس الأموال، وكذا تشكيل أقطاب جيوإستراتيجية اقتصادية. مع العلم أن هذه التحولات لا يعيشها مجتمع معين، بل هو تحول تلجه الحضارة الإنسانية قاطبة في الألفية الثالثة.
ولم يكن بإمكاننا الحديث عن المجتمع بهذا القدر من الوضوح وفهمه بهذه الصورة لولا إسهامات باحثين ينتمون لحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية ودراساتهم لمختلف تمفصلات الحياة الاجتماعية.