ثقافة
مجموعة من المعتقدات أو القيم التي تعطي معنى لطرق الحياة، وتنتج ويعاد
إنتاجها عبر أشكال مادية ورمزية، فإنها تمثل ضرورة تعليمية للأفراد، تعلمهم
كيفية التصرف في المواقف المختلفة التي يتعرضون لها في حياتهم. إنها تجعل
الفرد قادرا على التفاعل مع الأحداث المختلفة.1 خصوصاً عندما يرحل أو ينتقل
إلى مجتمعات أخرى.
ينطبق هذا الأمر على الرحالة بشكل كبير، الذي ينطلق من ثقافة ليدخل إلى
ثقافة أو ثقافات أخرى، ليُحدث تماساً بين ثقافته وبين الثقافات التي يرحل
إليها.
التماس الذي يكون موسوما بالاندهاش والإعجاب حيناً وبالتوتر حيناً آخر، وفي
أحيان قليلة يتسم بالتفاعل والتداخل.
في هذه الورقة سنتناول واحداً من الرحالين العرب، الذي استطاع أن يتغلغل في
ثقافات مختلفة خلال القرن العاشر الميلادي، لا يربطها بثقافته إلا صِلات
ضيقة. مما جعل رحلته موسومة بالإعجاب والاندهاش المعلن وغير المعلن، وفي
أحيان أخرى الاستنكار والرفض، يتعلق الأمر برحلة ابن فضلان الفقيه الذي
ارتحل إلى بلاد الصقالبة بغية تعليمهم أمور الدين الإسلامي بل كان مشرفاً
على الفقهاء. «لما وصل كتاب المش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين
المقتدر، يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين، ويعرفه شرائع
الإسلام، ويبني له مسجداً، وينصب له منبراً ليقيم عليه الدعوة، [...] فندبت
أنا لقراءة الكتاب عليه، وتسليم ما أهدى إليه، والإشراف على الفقهاء
والمعلمين.»2 منطلقاً من ثقافة إسلامية لها مجموعة من القيم والمبادئ
والتصورات حول المرأة، يمكن أن نعدها أسسا لتقديم صورة ولو ذهنية عن المرأة
العربية الإسلامية، بصفة خاصة، والمرأة بصفة عامة، صورة تتراوح ما بين
المرأة الحرة المسلمة الوقورة والمحتشمة وهي الصورة المثلى وهي التي وجهت
ابن فضلان في نظرته للمرأة، وصورة المرأة الجارية.
إن هاتين الصورتين اللتين يحملهما ابن فضلان لاشك كانتا بمثابة مرجع ومقياس
للنظر إلى أي امرأة صادفها في مسار رحلته وفي كل مشاهداته والمواقف التي
عرضت له.
كيف حصل تفاعل ابن فضلان مع الثقافات التي انتقل إليها؟ ما مدى حضور ثقافته
في ذلك التفاعل؟ كيف تعاملت ثقافته مع الصور التي التقطها للمرأة؟ ما هي
ردود أفعاله تجاهها؟
هذه الأسئلة هي التي ستوجهنا في محاولتنا رصد تعامل ابن فضلان وثقافته مع
ما شاهده من صور للمرأة.
1- تفاعل ابن فضلان مع الصور الملتقطة للمرأة
تباينت تفاعلات ابن فضلان مع الصور التي التقطها للمرأة، وذلك بالقياس إلى
قربها أو بعدها من حمولته الثقافية، ومن حيث اتفاقُها أو عدم اتفاقِها مع
صوره الذهنية. ولقد وجدنا ثلاث تعاملات لابن فضلان مع المرأة:
1-1- الإشارة إلى الظاهرة دون التعليق عليها
إذ يكون الرحالة شبه محايد، وخصوصا عندما تكون الصورة مقبولة من قبل
مرجعيته الثقافية، فيسكت ولا يعلق ولا يبدي أي موقف كصورة المرأة الجارية،
فهذه الصورة تدخل في باب المألوف، لأنه تعود على هذه الصورة في ثقافته
الإسلامية.
1-2- الإشارة إلى الظاهرة والتعليق عليها
ذلك التعليق الذي يقر باختلاف الثقافات، لكن في الحدود التي لا تتعارض فيها
الصورة الملتقطة مع مكونات نسقه الثقافي، فهناك انفتاح مشروط مثلا جلوس
المرأة إلى جانب ملك الصقالبة، أمر لم يعتده ابن فضلان في قصور الخلفاء
العباسيين، فيرجعه إلى اختلاف الثقافات: يقول: «ثم خلعت على امرأته بحضرة
الناس، وكانت جالسة إلى جنبه، وهذه سنتهم وزيهم» ) نفسه، ص 115( فرغم
اختلاف هذا الأمر عما تعوده ابن فضلان، فإنه لا يصل إلى درجة تدفع ابن
فضلان إلى إبداء رد فعل عنيف أو مضاد، كما نلاحظ أن الضمير هم يشير إلى
الاختلاف بين ثقافة الرحالة وثقافة الآخر )الصقالبة(.
وهناك مثال آخر هو عدم بكاء النساء على الميت لدى الصقالبة وبكاء الرجال
عليه )ص 143(، تبدو هذه الصورة غريبة عن ابن فضلان الذي تعود بكاء النساء
على الميت، يتعلق الأمر بالتنشئة الاجتماعية والثقافية التي أفرزت هذه
الظاهرة، فيقر ابن فضلان بالاختلاف، ولا تتخلخل جل قناعاته ومكونات ثقافته،
وإنما يقف تعامله عند حدود الاستغراب والتعجب من الفعل في حد ذاته، وفي
ذلك إشارة إلى اختلاف الثقافات والمجتمعات، فلكل مجتمع وثقافة أنماط ثقافية
وسلوكات تميزه، يتعلق الأمر بثنائية المألوف واللامألوف التي أفرزت التعجب
والاندهاش.
1-3- الإشارة إلى الظاهرة واستنكارها
عندما تتعارض الصورة الملتقطة مع مبادئ وقيم ثقافة الرحالة، يكون رد فعله
موسوما بالاستنكار الذي يخفي الحرج، لأن الصورة المشاهدة تدخل في نطاق
المحرم والممنوع داخل ثقافته، مثلا يقول عن المرأة التركية: «ولقد نزلنا
يوما على رجل منهم فجلسنا، وامرأة الرجل معنا، فبينا هي تحدثنا إذ كشفت
فرجها وحكته، ونحن ننظر إليها فسترنا وجوهنا وقلنا أستغفر الله.» )ص 92(
نلاحظ أن رد فعل ابن فضلان وقف عند حدود الرفض والاستنكار، ولم يكلف نفسه
عناء تغيير الصورة، ولو أنه في داخله يريد ذلك، هذا الحكم ينطبق على المرأة
التركية والروسية، لكن مع المرأة الصقلابية الأمر يختلف.
يتجلى ذلك في موقف ابن فضلان من ظاهرة ثقافية مترسخة لدى الصقالبة وهي
سباحة الرجال والنساء عراة بشكل مختلط، الأمر الذي لم يستسغه ابن فضلان،
وحاول تغييره، انطلاقاً من المهمة الموكولة له )تعليمهم شعائر الإسلام(،
لكنه عجز عن تحقيق مراده، ويعترف بذلك العجز قائلا: «ومازلت أجتهد أن يستتر
النساء من الرجال فما استوى لي ذلك» )ص 134( أي أن تستوي الصورة المرئية
مع الصورة الذهنية وهذا ما لم يتحقق لابن فضلان، وفي ذلك إقرار ضمني
باختلاف الثقافات، فالأمر كان أقوى من ابن فضلان إنها سلطة الثقافة.
يمكن أن نفسر تباين ردود أفعال ابن فضلان تجاه صور المرأة بين التوتر
وعدمه، أمام نفس المشاهد لدى الأتراك والروس والصقالبة، بالمهمة التي كانت
موكولة له وهي تعليم الصقالبة شعائر الإسلام، فلدى الأتراك والروس لم يكلف
نفسه تغيير الصورة المشاهدة، أما لدى الصقالبة فحاول ما أمكنه لكن دون
جدوى.
بصفة عامة ارتبطت صورة المرأة في رحلة ابن فضلان بأمور لم يعهدها في ثقافته
ونسقه الديني. فترتب عن ذلك نوعان من ردود الفعل:
- قد تكون الصورة مقبولة لكنها تثير اندهاش واستغراب الرحالة لدخولها في
باب اللامألوف (عدم بكاء النساء على الميت)
- وقد تكون غير مقبولة بالنسبة لفقيه، بل معلم الفقهاء فتثير حرجه ورفضه
)اغتسال النساء والرجال عراة( لدخولها في باب اللامألوف المستبعد.
نلاحظ أن ابن فضلان نظر إلى المرأة انطلاقا من ثقافته ومعارفه السابقة، ولم
يقدر على أن يكون موضوعيا، نظرا لكون الصور الملتقطة لا تتوافق مع الصورة
الذهنية التي يحملها، فحدثت المفارقة في ردود أفعال الرحالة )الاندهاش،
الحرج، الاحتشام، الرفض...( لكن ذلك يخفي الإقرار بالاختلاف الثقافي.
2- كيف التقط ابن فضلان صور المرأة:
إن الصور التي قدمها ابن فضلان عن المرأة مبنية أساسا على العَيان
والمعاينة والمشاهدة، فهي صور حسية مستمدة من المرئي والواقعي. فالصور هي
التي فرضت نفسَها على ابن فضلان، وذلك وفق مقامين:
الأول: ارتباط المرأة بمشهد يثير الرحالة، مثلا عدم احتشام المرأة التركية
والروسية، فهذه الصور فرضت نفسها على ابن فضلان نظرا لطبيعتها المدهشة،
والرحالة لا ينقل إلا ما هو مدهش ومثير، وما لم يتعود على مشاهدته.
الثاني: يتم الحديث عنها في إطار الاختلاف الثقافي بين ثقافة الرحالة
وثقافات الشعوب التي ارتحل إليها أو مر منها على مستوى الأحوال الشخصية
)الزواج، الأسرة...(وعلى مستوى العادات والتقاليد، يقول: «ورسوم تزويجهم،
وهو أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه إما ابنته وأخته أو بعض من
يملك أمره على كذا وكذا ثوب خوارزمي.» )ص 93(.
عموما لم تشغل المرأة حيزا كبيرا في رحلة ابن فضلان إلا في مشهد واحد، هو
مشهد مراسيم إحراق الميت لدى الروس، إذ أن العادات والتقاليد الروسية هي
التي فرضت حضور المرأة، بل كانت طقوس إحراق الميت تستلزم حضور امرأة كجارية
)القربان( وكملكة الموت )المشرفة على الموت المرأة العجوز( وباقي الجواري.
3- وصف المرأة
نلاحظ أن ابن فضلان لم يهتم بالمظهر الخارجي للنساء اللواتي رآهن أو تحدث
عنهن في رحلته، فركز على وضع المرأة وفعلها ولم يركز على شكلها الخارجي
ربما يرجع ذلك إلى ثقافته التي تحرم النظر إلى المرأة )غض البصر(، وحتى وإن
تطرق إلى المظهر الخارجي لا يكون إلا من أجل الإشارة إلى الاختلاف
الثقافي، كاللباس. يقول مثلا عن المرأة الروسية: «وكل امرأة منهم فعلى
ثديها حُقة مشدودة إما من حديد وإما من فضة، وإما نحاس، وإما ذهب، على قدر
مال زوجها ومقداره. وفي كل حُقة حلقة فيها سكين مشدودة على الثدي أيضا. وفي
أعناقهن أطواق من ذهب وفضة» )ص 150(.
يقدم ابن فضلان، دائما، المرأة انطلاقا من أفعالها وارتباطها بحدث مثير،
فلم يكن وصفها مقصوداً وهذه هي الصورة الوحيدة التي يصف فيها المرأة، لكنه
وصف ذو حمولة ثقافية، لا يصف الجسد وإنما ما يحمله هذا الجسد من ثقافة.
4- المرأة بين الفعل والانفعال
إذا تأملنا في الصور التي التقطها ابن فضلان للمرأة نلاحظ أن المرأة كانت
تابعة وخاضعة، مهانة، كتعدد النساء والجواري لدى ملك الخزر. يقول: «ورسم
ملك الخزر أن يكون له خمس وعشرون امرأة، كل امرأة منهن ابنه ملك من الملوك
الذين يحاذونه، يأخذها طوعا أو كرها. وله من الجواري السراري لفراشه ستون.»
)ص 171(. وقد تكون مصدر نزاعات بين الدول المتجاورة مثلا بين الخزر
والصقالبة.
فالمرأة، عموما، كما قدمها لنا ابن فضلان منفعلة وتابعة، وخاضعة.
هناك صورة وحيدة ظهرت فيها المرأة فاعلة وذلك في مشهد إحراق الميت لدى
الروس، إذ أنيط بالمرأة دور مهم وهو الإشراف الكلي على إحراق الميت، ذلك
الاحتفال الطقوسي الذي أوكل لإمرأة عجوز التي أشرفت على حرق رجل ميت حضر
ابن فضلان مراسيم إحراقه.
يتبين لنا أن المرأة، كما قدمها ابن فضلان، خاضعة للثقافة السائدة، فكانت
الثقافة في الغالب ما تجعلها منفعلة وفي حالات نادرة ما تجعلها فاعلة
)إحراق الميت(.
5- صور المرأة في رحلة ابن فضلان
تنوعت صور المرأة في رحلة ابن فضلان انطلاقاً من انتقالاته، وكذلك من
اختلاف الثقافات التي مر منها.
ويمكن أن نقف عند عدة أوضاع للمرأة:
- الأول: وضع الجارية: وهو وضع مألوف لدى ابن فضلان.
- الثاني: وضع المرأة كقربان: وهو وضع غير مألوف لدى ابن فضلان يثير خوفه
واندهاشه.
- الثالث: وضع المرأة المشرفة على الموت، هو وضع غير مألوف لدى ابن فضلان،
يثير اندهاشه وعجبه. وهو من الأدوار التي كانت تضطلع بها المرأة في
الثقافات القديمة.
- الرابع: المرأة المشاركة للملك في مراسيم الاستقبال لدى الصقالبة.
- الخامس: المرأة المغتصبة: تتمثل في بنات الملوك اللواتي كان ملك الخزر
يأخذهن غصبا.
تركيــب
هكذا قدم لنا ابن فضلان، بدون قصد، عدة صور للمرأة، تراوحت بين المألوف
واللامألوف، بين التصورات الذهنية المسبقة وبين المشاهدات التي التقطها.
كما تردد تفاعله معها بين الاندهاش والقبول، بين الرفض والإقرار بالاختلاف
الثقافي أحيانا أخرى.