زهيـر الخويلدي
استهلالترك الفيلسوف سبينوزا (1632-1677) جدلاً كبيراً في الساحة الفلسفية حوله، بالرغم من قصر عمره والظروف الصعبة التي عاش فيها، نتيجة الاقصاء والمضايقة. فهو شخصية يهودية عاشت داخل فضاء مسيحي غير متسامح. كما أن المؤلفات القليلة التي ألّفها مازالت محل أخذ ورد وظلت محل تأويل وانتقاد متواصل، وذلك للمسائل الجوهرية التي تجرأت عليها والكشوفات الكبيرة وقبل أوانها التي تضمنتها. زد على ذلك صعوبة تصنيفه وفق الاتجاهات الفلسفية لعصره والانخراط الجذري في تجربة التفلسف بشكل مبكر، والاعتزاز بالانتماء إلى تاريخ الفلسفة، واتصاله بالينابيع الأُول للفكر البشري، ووفائه للتقاليد والجذور الروحية والميتافيزيقية الأولى وخاصة الأفلاطونية والأرسطية والرشدية والتوماوية الحديثة والرواقية، وكذلك تأثره الكبير بـ ديكارت إلى درجة أن مؤرخي الفلسفة يعتبرونه مع مالبرانش ولايبنتز من كبار الديكارتيين.
بيت القصيد ليس في هذا الارتباط بتاريخ الأفكار بقدر ما يتعلق بالزلازل التي أحدثها في نظرية العقل وتناوله لإشكالية المعرفة على غير عادة زمانه، وتصوره للكون الموحد ورؤيته الوجودية الثاقبة، وكذلك الرهانات العملية التي تخصّ الحرية والدولة والمسألة الأخلاقية ومفهوم السعادة.
لقد اشتهر سبينوزا على الصعيد العملي بالبحث في العلاقات القائمة والممكنة بين اللاهوت والسياسة وبين الدين والدولة وخاصة تنظيره للمجتمع المدني والدولة الديمقراطية وحرية المعتقد والعقد الاجتماعي والربط بين الموطنة والسيادة، وذاع صيته أيضاًً حينما أكد في كتاب (الأخلاق) على مفهوم الحتمية أو الضرورة الكونية، ونحت مفهوم غريب للحرية وهو
وعي الضرورة. واعتبره البعض الآخر محرر الجسد ومكتشف اللاوعي قبل فرويد حينما كشف عن وجود نوابض لاواعية في الذات الإنسان، واعترف بمستطاع الجسد، وعرّف الروح على أنها فكرة الجسد.
ولكن كل هذا الطرح لا يعني شيئاً أمام أهمية درجات المعرفة الثلاث التي بلّورها، وقوله بوحدة الوجود واكتشافه
الكوناتوس(2) بماهو رغبة لدى الإنسان في المحافظة على بقائه وجودياً ومادياً. فلماذا خلع سبينوزا الكوجيتوا عن عرشه؟ وهل وجد نفسه مجبراً على نقد مفهوم الذات وإحلال مفهوم الفرد مكانها؟ وماهي درجات المعرفة الثلاث التي بلّورها؟ وبأي معنى يعتبر واحداً من القائلين بمذهب وحدة الوجود؟ وماهو تصوره لله؟ هل ينتمي إلى التراث الديني أم لإلٓه الفلاسفة؟ وماهي تبعات هذه الثورة الكبيرة في المنهج والمعرفة والأنطولوجيا على المعايير والقيم العملية؟
ما نراهن عليه ليس تفسير عبقرية سبينوزا من خلال تأثره بالفلسفة العربية الإسلامية التي ازدهرت في بلاد الأندلس وحملها موسى ابن ميمون في (دلائل الحائرين)وألبرت مغنوس المشهور بـ ألبرت الكبير، وإنما بالعودة إلى مؤلفاته وسيرته الذاتية والاستفادة من جهوده النقدية للدين للرد راهناً على موجة التعصب واللاّتسامح التي تجتاح حضارة اقرأ واعتماد رؤيته الفلسفية في الإنسان والكون.
1. اكتشاف الكوناتوس«الرغبة عين ماهية الإنسان من حيث تصورها مدفوعة […] إلى فعل شيء معين».
(3)يرفض سبينوزا النزعة الديكارتية الإثنينية في تعريف ماهية الإنسان بوصفه جوهراً مفكراً. هو نفس وجوهر ممتد. هو الجسم ويحمله مسؤولية تقسيم الكون إلى عالم مادي وعالم روحاني ويدحض فكرة الكوجيتو ولا يستسلم لاستخلاصه الوجود من التفكير ويشكك في جعل الوضوح والتميز معياري الحقيقة، ويعترض على تمييز ديكارت بين الحقيقة الموضوعية واليقين الذاتي. حاول سبينوزا أن يصمت على الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان من طرف ديكارت وعزيمته الكبيرة على تأسيس فلسفة الذاتية، ولكنه في المقابل حرص على تطبيق منهج الفيزياء الرياضي وتناوُل الطبيعة البشرية من زاوية علمية وإعادة تنزيلها ضمن القوانين الصارمة للطبيعة الكونية. وقد ترتب عن ذلك توحيد مفهوم
الإنسان، والاعتماد على مفهوم
الرغبة في تحديد ماهيته، واكتشاف الكوناتوس الخاص وهو مجهود طريف واستثنائي أدى إلى تحطيم الثنائية والأنانة وإعادة المصالحة بين الإنسان وجسده وأعاد الاعتبار إلى الوجود الطبيعي للإنسان والمحايثة التي يتصف بها وعيه بالمقارنة مع الجانب العضوي من كيانه والاعتراف بقدرات هائلة للجسد.
من هذا المنطلق يعتبر سبينوزا الإنسان شيئاً واحداً، ويلغي تناقض النفس والجسم وتحكَّم الأنا المفكر في الآلة العضوية، ويقول باتحادهما وتغير أوامر النفس تبعاً لتغير استعداد نوابض الجسد. «إن النفس والجسد شيء واحد، تارة نتصوره من جهة الفكر وطوراً من جهة الامتداد»
(4)، وبالتالي يوجد تلازم وتوازٍ وتوافق طبيعي بين نظام أفعال النفس وأهوائها ونظام أفعال الجسد وأهوائه. يبرهن سبينوزا على اكتشافه من خلال أمثلة علمية تدحض استعارة علاقة الربان بالسفينة في اشارة لعلاقة النفس بالجسم ويبين من خلال فرضية النائم الماشي وصعوبة التحكم في الكلام وفي النوازع والشهوات والدوافع وإتيان الأخطاء ويبرهن على أن النفس تتعطل اذا ما سكن الجسد، بينما الجسد يواصل الفعل والحركة حتى في ظل قصور النفس عن الفعل واستسلامها إلى النوم. وتبعاً لذلك يتفطن سبينوزا إلى جهل الإنسان بجسده وعدم معرفته بقدراته ويصرح بأن الجسد يأتي بأفعال وفق طبيعته تجعل النفس عينها تصاب بالذهول، ويؤثر أيضاً في عملية التفكير لأن النفس ليس بوسعها التفكير إلا بحسب استعداد الجسد وقدرته على التصور والإحساس والإدراك. في الجملة إن القول بأن الإنسان في الطبيعة هو إمبراطورية داخل إمبراطورية هو قول عبثي وأن الكوناتوس هو الماهية الفعلية والمتحققة للكائن البشري الذي يبحث بكل قوته للبقاء ويبذل كل ما عنده من جهد من أجل الاستمرار في الكينونة ومقاومة كل ما من شأنه أن ينزع منه وجوده. في هذا السياق، «يسعى كل شيء بقدر ما له من كيان إلى الاستمرار في كيانه»
(5)، وبالتالي يمكن القول بأن الكوناتوس هو الرغبة في المحافظة على الكيان في زمن أبدي وبعبارة أخرى «الجهد الذي يبذله كل شيء لكي يستمر في كيانه لا يعدو أن يكون غير ماهية ذلك الشيء الفعلية»
(6).
يترتب عن ذلك الإقرار بوحدة النفس والجسد واعتبار الإنسان كائن الرغبة والاتحاد بين العقل والانفعالات في مستوى المجهود المبذول لحفظ الكيان واتحاد رغبة النفس ورغبة الجسد في اثبات ماهية الكائن البشري على الصعيد الأنطولوجي، وبلوغ درجة الكمال التام بالنسبة للإنسان.
2. درجات المعرفة ومعايير الحقيقة«الإنسان يكون قيما على ذاته بقدر ما تكون حياته على مقتضى العقل».(7)طرح سبينوزا جملة من الإشكاليات نقلته من حيز الأنثربولوجيا ونظرية الإنسان إلى حيز مجال المعرفة ونظرية الأفكار ويمكن أن نذكر منها الأسئلة التالية: ما الفرق بين الأفكار الخاطئة والأفكار الصحيحة؟ وكيف يمكن للعقل أن يدرك العالم الخارجي ويفسر الطبيعة وهو محايث لجسم مادي؟ ومن يمنحه قدرة على معرفة شيء مغاير لجسمه ويتمثله في فكرة واضحة ويقينية؟
يقر سبينوزا بأن تجربة الجسم وحالة الانفعالات وطبيعة البيئة المحيطة بالعقل هي التي تؤثر في قدرته على المعرفة وتغير من مضمون الأفكار والتصورات التي يكونها الموضوعات الخارجية.
إذا كان ديكارت ميز بين الأفكار المختلطة والأفكار الإصطناعية والأفكار الواضحة والمتميزة وآمن بالحقائق الأبدية والطبائع الثابتة، وميز بين نظام الأشياء ونظام الأفكار، فإن سبينوزا جعل الفكرة تحمل معيار يقينها في ذاتها وتختلف عن الفكرة الغامضة والمشوشة الناتجة عن المعرفة الحسية والتخيل والبداهة الخادعة والاعتقادات الزائفة والجهل والخرافة الناتجة عن الخوف، ونقد التعريف التقليدي للحقيقة بوصفها تطابقاً بين الحكم العقلي والواقع الخارجي كما نظر اليها أرسطو، وبيَّن أنها تطابق الفكر مع ذاته، وبالتالي توافق الفكرة مع حقيقتها ومضمونها.
لقد آمن سبينوزا بتضايف النظام الضروري للأفكار وتسلسلها المنطقي مع حقيقة نظام الكون وجعل الفكرة الواضحة والمتميزة متضايفة مع طبيعة العقل ومع ما يقابله في الطبيعة وميز بين الأفكار المطابقة وهي أفكار حقيقية ومكتملة والأفكار غير المطابقة وهي خاطئة وخارجية.
في (رسالة تهذيب العقل)، ميَّز سبينوزا بين أربع درجات من المعرفة يحصلها الإنسان في حياته: الدرجة الأولى هي المعرفة بالسماع والموروث والتقليد وبالنص، والدرجة الثانية تكون بالتجربة الغامضة والعرف والتاريخ والعادة، والدرجة الثالثة هي استنباط ماهية شيء من ادراك ماهية شيء آخر ولكن بشكل غير متكافىء سواء من الجزء إلى الكل أو من الكل إلى الجزء. الدرجة الرابعة من المعرفة هي التي تتحقق الاستنتاج بطريقة متكافئة وذلك عن طريق معرفة الشيء بواسطة علته القريبة أو ادراكه من ماهيته وتعريفه، وهذه الدرجة تبلغها الرياضيات.
(8)بَيْد أن سبينوزا في كتاب (الإتيقا) يختزل هذه الدرجات الأربعة إلى ثلاثة فحسب ويحذف الأولى ويجعل المعرفة من النوع الأول تسمى معرفة
بالرأي والظن والتجربة، حيث يتأثر الإنسان بالخيال أكثر من العقل حينما ينساق وراء النزوع الشهواني ولا يقدر على كبح أهوائه ويعجز في قهر الانفعالات. بينما المعرفة من نوع الثاني فهي المعرفة العلمية وتتضمن أفكاراً متطابقة ومتكافئة وهي مستمدة من العقل وهي معرفة صحيحة، وذلك لأنها تمثل أحوال الامتداد وتصور خصائص الأجسام الطبيعية. في حين المعرفة من النوع الثالث هي المعرفة الحدسية المباشرة ومن غير واسطة ويسميها سبينوزا المعرفة العيانية وهي ليست نتيجة اشراق عرفاني أو وثبة حيوية وانما ارتقاء للعقل وتطور للدرجة الثالثة من المعرفة نحو الاتحاد بالأشياء وبلوغ كنهها دون حواجز بالعيان. وقد ربط سبينوزا بين الدرجة الثالثة من المعرفة ومعرفة الله عن طريق الحب العقلي لله. في هذا الموضوع قال «وفضلا عن هذين النوعين من المعرفة، يوجد أيضاً نوع ثالث العلم الحدسي ويرتقي هذا النوع من المعرفة من الفكرة التامة للماهية الصورية لبعض الصفات إلى المعرفة التامة لماهية الأشياء».
(9)هكذا تتكون الفكرة الحقيقية من ثلاثة خصائص: الخاصية الأولى تتمثل في كون الحقيقة داخلية بالنسبة إلى ذاتها والخاصية الثانية هي أن الحقيقة تحمل علامتها في ذاتها والخاصية الثالثة هي تطابق الحق مع موضوعه وهذه الخصائص مستمدة من الرياضيات وتتميز به من شمول ويقين.