إن ركون الشهيد الصدر للوجدان في تأييد النظرية انتهى به إلى أن يجعل هذا التفسير الذي ينسجم مع تفكير الإنسان الاعتيادي ومعالوجدان هاديا له في دراسته المعمقة للدليل الاستقرائي، فالنتيجة التي انتهى إليها الشهيد الصدر بعد البحوث المعقدة والمعمقة في تفسير الدليل الإستقرائي جاءت منسجمة تماما مع ما توصل إليه التفكير الإعتيادي للإنسان السوي من تفسير للدليل الاستقرائي. انظر إلى ما انتهى إليه الشهيد الصدر في تفسير الدليل الاستقرائي بعد هذه الجولة من البحوث المعقدة والمعمقة، فقد انتهى إلى النتيجة التالية:
((إن المرحلة الإستنباطية من الدليل الاستقرائي يمكنها أن تنمي قيمة التعميم الاستقرائي وترتفع به إلى درجة عالية من درجات التصديق الاحتمالي، مستنبطا ذلك من نفس نظرية الاحتمال – بحسب تفسير المذهب الذاتي لها – وبديهياتها، من دون حاجة إلى إضافة مصادرات إضافية يختص بها الدليل الاستقرائي، أي أن الاستقراء ليس إلا تطبيقا للاحتمال بتعريفه وبديهياته التي عرفناها في ضوء المذهب الذاتي، ويمكن عن طريقه إثبات التعميم الاستقرائي بقيمة احتمالية كبيرة --- إن هذه الطريقة تتطلب افتراض علم إجمالي على نحو يكون عدد كبير من أعضائه وأطرافه مستبطنا أو مستلزما للقضية الإستقرائية، فتصبح القضية الإستقرائية محورا لعدد من القيم الاحتمالية بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطن أو المستلزم للقضية الإستقرائية. ولا بد أن يكون العلم الإجمالي المفترض مرنا بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمن إثبات القضية الاستقرائية، وينمو هذا العدد باستمرار تبعا لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عملية الاستقراء، وبهذا يصبح نمو القيمة الاحتمالية للقضية الاستقرائية مطردا مع نمو الاستقراء وامتداده)). (22)
((إن المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي – رغم عدم احتياجها إلى أي ثبوت مسبق لمصادرات أخرى إضافة إلى مصادرات نظرية الاحتمال – تتوقف على افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي، أي للإعتقاد بعدمها، وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي إثباتا مسبقا؛ لأن الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات، وأما عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرر للرفض. وعلى هذا الأساس نعرف: أن من يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضا كاملا لا يمكنه أبدا أن يفسر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية ويبرر نمو الاحتمال بالقضية الاسيتقرائية. وعن هذا الطريق يمكننا أن نبرهن لكل من يعترف بقيمة حقيقية للدليل الاستقرائي في تنمية الاحتمال، على أنه مضطر إلى التنازل عن المبررات القبلية لرفض علاقات السببية ونفيها . (23)
تنبيه (9): تميز المذهب الذاتي عن غيره من المذاهب في إثبات موضوعية المعرفة وإثبات التطابق والتماثل بين محتوى المعرفة والواقع:
((تكشف المعارف البشرية عن الواقع الخارجي، وتتطابق مع هذا الواقع، وهذه ليست النتيجة الجديدة التي أتى بها المذهب الذاتي، بل هي عين ما ادعته المدرسة العقلية، كما أنها لا تتعارض مع الموقف المبدئي الذي تتبناه كل الإتجاهات الواقعية في تفسير قيمة المعرفة البشرية، بما فيها المادية الجدلية. إنما الجديد في المذهب الذاتي هو أنه اكتشف سبيلا مبتكرا لإثبات موضوعية المعرفة البشرية، والتدليل على الواقع الخارجي، كما استخدم السبيل ذاته في إثبات التطابق والتماثل بين محتوى المعرفة والواقع، وكان سبيل المذهب الذاتي إلى ذلك هو الدليل الاستقرائي ذاته)). (24)
تنبيه (10): حصول العلم بمعن ى الجزم لا بمعن ى اليقي ن المنطقي هو العلم المفترض كمصادرة في ضوء المذهب الذاتي:
وأخيرا – بخصوص الموقف من قيمة المعرفة – لا بد من أن ننبه إلى ما يلي: ((إن المنطق الذاتي عندما يتحدث عن العلم لا يقصد به اليقين بالمصطلح المنطقي، وهو الموصوف هناك بأنه ( مضمون الحقانية )، وإنما يتحدث عن العلم بمعناه اللغوي، وهو الجزم الذي لا لبس فيه ولا شك. فالإنسان عندما يضع الماء على النار، لا يحتمل أن الماء سيبقى على حاله من عدم الغليان حتى لو طال بقاؤه على النار، بل يجزم بأنه سوف يغلي. وجزمه بغليان الماء يستوي مع جزمه بسائر المحسوسات من قبيل جزمه بالنار مثلا.
إذن: حصول العلم – بمعنى الجزم لا بمعنى اليقين المنطقي – يؤخذ في المذهب الذاتي أصلا موضوعيا. ولذلك، لو أتانا من ينكر حصول الجزم لديه بأن النار علة لغليان الماء، مدعيا أن ذلك مرده إلى الصدفة، فعندها لا يمكن للمنطق الذاتي أن يقدم له شيئا أو يزيل هذا الشك من نفسه، إلا أننا مع ذلك نعتقد بأن الشك في هذه الأمور لا يحصل لدى الناس، وإنما كثير منهم اصطنعوه)). (25)
3 – الموقف من توالد المعرفة ونموها:
كنا قد عرفنا في الموقف السابق أن المذهبين العقلي والذاتي رغم الاختلاف بينهما حول مقدار وحجم المعارف العقلية القبلية هما بالتالي يؤمنان بوجود معارف عقلية قبلية.
والسؤال الأساسي هنا: إن هذه المعارف العقلية القبلية – التي يتفق على وجودها كلا المذهبين – كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكل الأساس الأول للمعرفة قضايا أخرى، وهكذا حتى يتكامل البناء؟
وإزاء الإجابة عن هذا السؤال يختلف المذهب الذاتي مع المذهب العقلي اختلافا أساسيا: فالمذهب العقلي لا يعترف عادة إلا بطريقة واحدة لنمو المعرفة، وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يرى المذهب الذاتي: أن في الفكر طريقتين لنمو المعرفة، إحداهما: التوالد الموضوعي، والأخرى: التوالد الذاتي. ويعتقد المذهب الذاتي بأن الجزء الكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي.
[ الفرق بين التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي ]
ولكي نتصور محتوى هذا الخلاف بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي، يجب أن نوضح ما نقصده بالتوالد الموضوعي والتوالد الذاتي:
إن في كل معرفة جانبا ذاتيا وجانبا موضوعيا، فنحن حين نعرف: أن الشمس طالعة، أو أن المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر أيضا، نميز بين عنصرين: أحدهما: الإدراك، وهو الجانب الذاتي من المعرفة، والآخر: القضية التي أدركناها، ولها – بحكم تصديقنا بها – واقع ثابت بصورة مستقلة عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة.
والتوالد الموضوعي يعني: أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا ب (أن خالدا إنسان، وأن كل إنسان فان) تتولد منها معرفة ب (أن خالدا فان). وهذا التوالد موضوعي؛ لأنه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة.
وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي؛ لأن النتيجة في القياس دائما ملازمة للمقدمات التي يتكون منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل ببعضها البعض الآخر بصورة قياسية .
والتوالد الذاتي يعني أن بالإمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى، دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين، وإنما يقوم التوالد الذاتي على أساس التلازم بين نفس المعرفتين. فبينما كان المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى في حالة التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبين الموضوعيين للمعرفة، وكان التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعيين، نجد في حالات التوالد الذاتي: أن المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة، وأن هذا التلازم ليس تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعيين .
والمذهب العقلي – الذي يمثله المنطق الأرسطي – يؤمن بأن الطريقة الوحيدة الصحيحة من الناحية المنطقية هي: طريقة التوالد الموضوعي، وأما طريقة التوالد الذاتي فهي تعبر عن خطأ من الناحية المنطقية؛ لأنها تحاول استنتاج قضية من قضية أخرى دون أي تلازم بين القضيتين. وتورط الفكر البشري في الخطأ له شكلان رئيسيان، أحدهما: استعماله لطريقة التوالد الذاتي، أي استنتاج نتيجة من مقدمات صادقة لا تستلزم تلك النتيجة، والشكل الآخر: استعماله لطريقة التوالد الموضوعي باستنتاج نتيجة من مقدمات تستلزم تلك النتيجة، ولكن المقدمات كاذبة .
فلكي يكون الاستدلال صحيحا في رأي المذهب العقلي لا بد أن تكون طريقة التوالد فيه موضوعية لا ذاتية، وأن تكون القضايا أو المقدمات المولدة صادقة. وعلى هذا الأساس اضطر المنطق الأرسطي – نتيجة لإيمانه بالدليل الاستقرائي – إلى القول بأن طريقة التوالد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية، وأن كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية قبلية تقول: إن الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار على خط طويل، وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية تقول: إن (أ) و (ب) اقترنا باستمرار على خط طويل. وأكد المنطق الأرسطي بهذا الصدد: أن الأمثلة المستمدة من الاستقراء والخبرة الحسية – التي تكون الصغرى في القياس – لا تكفي وحدها لاستنتاج أي تعميم استقرائي؛ إذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعيا، فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعية ما لم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى العقلية القبلية التي تنفي تكرر الصدفة النسبية على الخط الطويل .
وبكلمة مختصرة: إن المذهب العقلي الذي يمثله المنطق الأرسطي حاول أن يفسر جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحتها من الناحية المنطقية بأنها: إما أن تكون معارف أولية تعبر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشرية، وإما أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طريقة التوالد الموضوعي .
الأربعاء مارس 23, 2016 9:20 am من طرف نابغة