نعيش في واقع سيريالي يقع في مكان ما بين الحقيقة والخيال. لقد مضى على الحرب على الإرهاب عقد ونصف ولازال العنف ينتشر في اتجاهات متناقضة. لقد اختلط كل شيء على المواطن العربي، وهو في هذا لم يعد يفرق بين أنواع الإرهاب التي تحيط بحياته، فهناك إرهاب الجماعات الغير رسمية، وهناك أيضا إرهاب الدول الذي نختبره عبر الانتهاكات الفاضحة والتعديات وسياسات العزل والاستثناء. إن غلق الطريق السلمي للتغير والإصلاح في ظل سلوكيات ” الدولة الأمنية“ الغامضة والمفتوحة الصلاحيات هو السبب الأهم في الإقليم العربي لنشوء الإرهاب وتحوله لحالة شائعة تخترق كل الفئات. فنحن أقل الأقاليم في العالم ديمقراطية وأقلها في ممارسة التقاليد السياسية الوسطية وأقلها مسائلة وشفافية، لكننا أكثرها ضعفا أمام الغرب وأكثرها سعيا بنفس الوقت لاقتلاع المعارضين الديمقراطيين عبر السجن والاغتيال السياسي وغلق وسائل الإعلام. ولهذا أصبحنا من أكثر الأقاليم فسادا. في إقليم هذه حالته ليس غريبا أن ينتشر الإرهاب وتتعرض الدول والمجتمعات بفضل دولتها الأمنية الخفية لمحنة الانهيار. نحن نحتاج للحريات والديمقراطية قبل أن نحتاج حرب جديدة على الإرهاب نفشل في مواجهتها وتدمر ما تبقى من عالمنا العربي.
وعندما نتعرض لمسألة الإرهاب يحب أن تكون ”الدولة المطلقة والأمنية“ حاضرة، وذلك لان ”الدولة المطلقة والأمنية“ بطبيعتها ومهما سعت لتخفيف تعدياتها وانحرافاتها ستنتج أشكال من الإرهاب الذي يزداد عمقا مع الوقت. تماما كما أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يجب أن تكون حاضرة عند التحدث عن الإرهاب الإسلامي وذلك نسبة للسياسات الأمريكية في الإقليم وفي فلسطين التي تسهم في حالة الإرهاب. ”الحكم المطلق“ ينتج إرهابا خاصة في ظل ارتفاع نسب التعليم وتراجع الانجازات واختفاء الفرص أمام الشباب وتموضع الهويات. و ينتج عن ”الحكم المطلق“ بصفته مالك لأدوات لا تقع تحت مراقبة مؤسسات منتخبة وبرلمانات شعبية وجهات تمثيلية، نزاعات الغد وحروب أهلية جديدة . فكم من دولة عربية عميقة مولت جماعات عنيفة نجدها وقد تحولت للقتال ضد من مولها فيما بعد، وكم من دولة عربية أيدت جماعات من أجل تصفية حساب ضد دولة أخرى؟
وتمارس الدولة العربية الأمنية في كل الحالات سياسة ”الاستثناء“( أطروحة الاستثناء للمفكر الايطالي المتميز Giorgio_Agamben) تجاه فئات محددة في المجتمع، قد تكون هذه الفئات من الطائفة الشيعية أو قبائل محددة في إقليم محدد أو من الطائفة السنية أو من الريف أو من المثقفين، أم من الأغلبية أو الأقلية أو فئة لا تعترف الدولة بمواطنتها بعد مرور عدة أجيال، أو من شرائح محددة تعيش على أطراف المدن. العنف الذي تمارسه الدولة ضد شرائح وفئات منتقاة يجعله غير محسوس وغير ملموس لدى الشرائح التي لا تشعر به.
إن حالة الاستثناء عندما تستهدف طائفة أو قبيلة أو فئة تجعل الكثير من أفرادها مكسورين فاقدين لقيمة الحياة والوجود، وهذا يدفع بعضهم نحو فكر يبرر الخلاص من الحياة ( العمليات الانتحارية). إن العنف الصادر من قبل بعض أبناء وبنات الفئات التي يقع عليها نظام ”الاستثناء“ تتجه لممارسة غضبها وربما انتحارها العلني ضد الدولة كما و ضد المجتمع الأوسع. من هنا سريالية المشهد.
و سترد الدولة الأمنية على الإرهاب بقوة وعنف، لكن في ردها وأسلوبه ومداه سيزداد العنف في المدى المتوسط والبعيد، وسوف تقع الدولة الأمنية في أخطاء وتجاوزات، وستمارس عنفا مضاعفا عندما تسمح للأمن بدخول المنازل والقرى والمناطق بينما تهدم المنازل والأحياء( أنظر سيناء )، بل سيتطور العنف ويأخذ أشكال أكثر شمولية وحدة عندما توسع الدولة من أهدافها في مواجهة الحاضنة الاجتماعية التي تشعر بالتهميش والاستثناء المؤيدة لبعض الجماعات( العراق وسوريا وغيرهما مثلا) . إن السعي للانتصار على الإرهاب بواسطة الحل العسكري يتحول لوسيلة لاستنزاف وإضعاف الدولة والمجتمع.
من جهة أخرى إن قتل أعداد كبيرة من قادة العنف كقادة القاعدة وبن لادن مثلا و قادة الطالبان أو قادة داعش والنصرة وغيرهم يحول القوة والسيطرة للقيادات الصغيرة الغير معروفة في هذه المنظمات. تلك القيادات ستكون أكثر عنفا وراديكالية بل وأكثر تحررا من ضوابط قياداتها التي صاغتها التجربة. وطالما أن المشكلات مستمرة في ظل البطالة والاقتصاد السلبي والانقضاض علي الحريات والإهانة والتعذيب والعنف ستزداد حالة الإرهاب تماديا.
ويلاحظ أن تجاوزات الدولة الأمنية وتشددها وطرحها لقوانين جديدة ضد الإرهاب و ضد الحقوق والحريات والديمقراطية سيكشف وجها لم تكن فئات المجتمع الأخرى المناصرة للدولة والمؤيدة للحرب على الإرهاب لتراه، وهذا بدوره سيخلق معارضات جديدة بين فئات لم تكن في صفوف المعارضة في السابق، كما ستتكاثر جماعات تنضم لمشروع العنف والإرهاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي أن دخلتها دولة ومعها مجتمع لا مخرج منها، إنها الدائرة التي دخلتها المنطقة العربية والتي لا مخرج عسكري أو أمني لها قبل تأمين المخرج السياسي الشفاف والديمقراطي.
إن الدول العربية هي من أقوى دول العالم في التنسيق الأمني وفي ملاحقة الناقدين والرافضين بل وحتى الشعراء والكتاب والروائيين، لكنها من أضعف الدول في بناء الحجة ومخاطبة المعارضين بالإنجاز والتفوق. وتلاحق الدول العربية الإرهابيين والمسلحين ومفجري المساجد بنفس الدرجة التي تلاحق النقاد والمعارضين السلميين، وهذا يخلق التباس في وضع الإرهاب، مما يؤكد أن الدول العربية بصورتها المطلقة هشة في التعامل مع التغير. فملاحقة الأنظمة للناقدين والمعارضين السلميين والمدنيين الذين لا يشكلون خطرا على النظام السياسي هو شكل من أشكال العنف الذي يعود ويخلق البيئات الحاضنة لمدرسة العنف.
ولو حاولنا أن نفهم طبيعة الظاهرة العنيفة بجذورها الغير رسمية سنجد أن داعش ليست القاعدة وهناك قتال بين الاثنين في سوريا، والخلاف الإيديولوجي الذي تطرحه جبهة النصرة تجاه داعش يتطرق للموقف من قتل مسلمين وغير مسلمين بطرق وحشية لا تجيزها النصرة( راجع بعض المنشورات الصادرة عن القاعدة في آسيا ومقالة النصرة في الواشنطن بوست الأخيرة)، بل تعتبر جبهة النصرة السورية أكثر اعتدالا رغم علاقتها بالقاعدة، في هذا هناك تناقض بين الدولة الإسلامية( داعش) وجبهة النصرة وفئات جهادية إسلامية أخرى. وسنجد أن إرهاب العراق مرتبط بظروف العراق في ظل صراع النفوذ الذي أخذ طابعا طائفيا بين السنة والشيعة، وهذا يعني بالإمكان رؤية الدولة الإسلامية {داعش} في العراق كحركة تمرد تتواجه مع الإطار الجديد للدولة العراقية في ظل تهميشها للحاضنة السنية، لكننا نستطيع رؤية بعد الدولة الإسلامية الأكثر عنفا وإرهابا في مناطق أخرى كما حصل في الكويت منذ أيام. كما يمكن رؤية جماعة الحشد الشعبي بصفتها ميليشيا تمارس العنف والإرهاب على المكون السني في العراق. أما عنف اليمن فهو أكثر ارتباطا بأوضاع اليمن وصراع القبائل ودور الرئيس السابق علي صالح في ظل التنافس الإقليمي، بينما عنف مصر مرتبط بتطورات ما بعد الحكم العسكري عام ٢٠١٣ وتداعيات ذلك حتى الآن على كتل سياسية كبرى. وفي ليبيا يمثل العنف حالة من حالات صراع النفوذ المتداخل مع الصراع القبلي. فهناك على أرض الواقع حروب تحرير وحروب أهلية وصراع ضد أنظمة متسلطة وظالمة وصراع بين قبائل وفئات وصراع ضد جنرالات وضد ثورة مضادة وصراع طائفي وصراع عرقي وعنف وغضب وحقد وألم وقتل لمدنيين أبرياء وإرهاب: كل هذا ضمن مسمى الإرهاب؟
للخروج من حالة العنف و الإرهاب يجب أن تتوقف الدولة العربية من سعيها الدائم لقتل الخيار الديمقراطي العربي، فقتل هذه الخيار هو الذي أدى للمشهد الملتبس الذي يسيطر على أحد أطرافه الإرهاب بينما يتحكم بطرفه الآخر سياسات الدولة القمعية من جهة أخرى. إن السعي نحو مشاريع سياسية توافقية، ودعوة الشبان المعارضين والثوريين الناقدين والمسلحين المختبئين للخروج من المخابئ والانضمام لمسيرة سياسية تفكك أسس السيطرة السياسية وتحول الدول نحو صيغ أكثر حرية وديمقراطية هو المخرج الوحيد من هذه الحالة المرعبة. إن عدم فتح المساحة السياسية في ظل قيام الدولة الأمنية العربية بتدمير فرص الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية هو جوهر المشكلة العربية إلا ولعقد أو عقدين قادمين من الزمان. الانتقال السياسي هو الطريق الوحيد لعزل الجماعات الأكثر تطرفا، بل الطريقة الوحيدة لضم الفئات الأكثر مرونة منهم للعملية السلمية. بلا هذا البعد سيبقى السلاح منتشرا وسيدمر العنف القادم ما تبقى من النظام العربي.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
منبر الحرية، 31 غشت/أغسطس 2015
© مشروع منبر الحرية