الفصل الأول
مقدمة في الأنتربولوجية
المعرفية العربية التاريخية:
ليست الحضارة العربية قفزات في فراغ متقطع وليس علم الأناسة العربي، لصاقات لتطورٍ عشوائي يرتطم بجدران حضارات محيطية أحياناً، وبنفسه وتركيبته أحياناً أخرى، لينطوي على أحاديةٍ في الرؤية أو النمو... إنَّ الأناسة العربية " الأنتربولوجية" المعرفية، والحضارة العربية، كلُّ متكامل متواشج متصاعد، حلزوني متواصل، يستند على عمق الأرض والجغرافية، ويصعد بهامته إلى السماء. لقد كان إنساننا في هذه المنطقة ثمرة التعاضد بين جهوده التطورية وتفجير الطبيعة عن قدرة خلاّقة وقاسية، فصبَّ الاثنان ماءهما في فسحة المكان التي فتحت صدرها لقلق الانسان وهو يلتقط السنين تجترّ بعضها فَنَحَتَها على المكان الخالد، في قلب الكهوف وعلى ضفاف الأنهار. وعندما انتقل تحدي الزمن إلى عتبات الحضارات الجليلة، بدأ الإنسان ينقل قلقة ذاك، إلى جدران الزقوّرات، والأهرام وأعمدة المعابد في بعلبك وتدمر والكرنك.. كل ذلك في وحدة أناسية متكاملة مترابطة، لاتعروها سمة لفصام أو لانفصال أو لتصدع.
ولم يكن ذلك القلق معزولاً عن السمو الروحي، بل شكَّلا وجهين متداخلين لسيرورة الانسان الراقي، عندما حطَّ في مقدمة الإنسانية النمو التالي للديانة الأتونية التوحيدية في ارتقاءٍ صعب لأخناتون، كان من نتيجته تلك الرؤية الشفافة لما في الكون كله..
من ثم تصاعدت تلك الرؤية في المسيحية التي لم تكن في قوامها الأولى، وقبل التغريب بها إلاّ ارتقاء للأناسة المعرفية العربية كما قال ستاندال في " الحوليّات الإيطالية ": إن دين المسيح هو دين الفلاسفة العرب معاصريه" (1).
وبالضرورة الأكيدة، كان لابد للمشرق العربي أن يدافع عن ذلك البناء السباق والعظيم، ولامتلاكه للمعرفة الأولى والقدرة الخارقة أن يسمو بتلك الحضارات عبر مظاهر أكثر شفافية ومتانة فكان الإسلام المظهر الأناسي المعرفي التالي للعروبة، والذي، شكلَّ مع اللغة العربية تكويناً بنائياً أناسياً احتوى في صلب ارتقائه الأطر العامة لما سبقه من تكوينات ميثولوجية وثيولوجية ومظاهر توحيدية بحيثيّاتٍ أرقى.
لذلك لم تكن الرؤى الاستشراقية التي نظر إليها كتكوين مقدّس إلاَّ منظومة أيدلوجية هدفت بالضرورة إلى مسخ الشخصية العربية في وجهٍ صحراويٍّ جاف، خرج للتاريخ منذ ألف ونيفٍ من السنين فقط، وتشوَّهت سلسلة تاريخية ودفعته بعبثية مرعبة هادفة إلى خلخلة وحدة البنية الثقافية المعرفية العربية وتشويه جذروها التاريخية العميقة في تقسيم للشعب العربي لايستند إلى تأسيس علمي، وغير قابل للخضوع للبحث العلمي أصلاً.
ولقد بدأ ذلك بالتعبير عن منظومته الأيديولوجية في فكر شلوتسر عندما صاغ صفة " السامي" في مؤلفه المعروف والموسوم بـ" فهرس الأدب الشرقي والتوراتي" عام 1781. فقسم العرب إلى ساميين وحاميين، ووضع خطوطاً خاصة لدخول اليافثيين " الآريين" بطريقة أو أخرى إلى نسيج المنطقة ليخلخل بنيتها الاناسية الواحدة بهدف التأسيس اللاحق والسافر لعقد الانتماءات الثقافية " بل والعرقية" لشعوب " المنطقة العربية، وصولاً للتبرير الايدلوجي التالي في المشاريع السايكس بيكويه وزرع الكيان الصهيوني لاحقاً.
وهكذا استقبلنا وتقبلنا تاريخنا كما كتبه الآخرون، بدون أدنى شك بما قدمه لنا المستشرقون، حتى بعد المكتشفات الأركيولوجية التي تكثَّفت في القرن التاسع عشر وبشكل خاص في نهاية القرن العشرين، والتي لم تخضع حتى الآن لدراسة أكاديمية مقارنة تعيد إظهار الحقيقة كما هي، وتزيل ما تراكم عليها من غبار الاستشراق والزمن، وتعتيم الايديولوجية المركزية الأوربية، والتي قدمت لنا تاريخينا كما تشتهي هي، وليس كما هو في واقع الحال.
فقدَّم لنا أرنست رينان بأن الأشوريين كانوا بالتأكيد ساميين، أما الكلدانيون فمن المستحيل معرفة من هم ومن أين أتوا!!!! أما المصريون فيقدمهم أحباشاً أو أنصاف ساميين أو مهجّنين عن الحاميين أو الأفارقة البيض، ويذهب بعضهم إلى اعتبار أن القبائل السامية/ بعد الاعتراف البدهي من وجهة نظرهم بصحة التسمية/ قد هاجرت إلى آسيا الغربية" ويقصدون الشرق العربي وكأن هذه المنطقة كانت خالية من الشعب العربي!!!!!
" وإنَّها لميزة يمتاز بها جميع هؤلاء الخبراء الذين لا يتفقون فيما بينهم، على شيء، إلا على أمر واحد- وياللغرابة- إنه هو التعبير " سامي" الذي يتفقوا أبداً على محتواه. إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي، متفق عليه. وأن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمَّنا بدلاً عن الساميين، الأبطال المختلقين من أصلٍ خيالي،... لو أننا تكلّمنا عن العرب، ذلكم الشعب الحقيقي والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً، وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين.. إن لغة واحدة مكتوبة ومتخاطب بها قد انتهت إلى فرض نفسها وتغطية هذا المجموع الكبير: إنها اللغة الآرامية " والإغريقية تابعتها" والملحقة بها.. ثم تطورت الآرامية منذئذٍ طبيعياً، ودون معارضة، إلى اللغة العربية التي وجدت نفسها منذ ذلك الحين وارثة الماضي المصري والكنعاني... والبابلي. هاهوذا المعيار الدقيق للثقافة العربية أمُّ الثقافة الهيلينستية والموحية بها والتي شكَّلت عقلها وقوانينها(2).
فما هي المعطيات الأناسية التي من الواجب مقاربتها بمنطقية وحيادية، تأسيساً علمياً دقيقاً لكشف التزييف الأيديولوجي الذي يركب صهوته الاستشراق، الذي كان من أهم مهماته زرع البنية التركيبية لثقافتنا كبديهة تقتضي بالضرورة تناول الأيديولوجيا اليهودية- الصهيونية بنصوصها التلفيقية كإحدى العلامات الملازمة لتاريخنا العربي؟
لذلك سنبدأ بحثنا في التاريخ الأناسي " الانتروبولوجي" للوطن العربي منذ عصر الباليوليث الأدنى وحتى فجر التاريخ مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. ثم سننطلق لبحث الوحدة اللغوية للبناء الأناسي العربي عبر قراءة مقارنة تأسيسية للهجات اللغة العربية التي كانت سائدة على كامل مساحة الوطن العربي. نعرِّجُ بعد ذلك على المفاصل المفقودة" أيديولوجياً" في التأصل التاريخي والأناسي للمظاهر الحضارية للوحدة المعرفية التاريخية العربية.
وبالضرورة لابد أن تدرس البنية الميثولوجية الواحدة في تطورها التاريخي منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الرسالة الإسلامية في تسلسل تاريخي ثيولوجي- ثقافي علمي.قاصدين بذلك كشف التأسيس الأناسي لوحدتنا التاريخية عبر وحدة الخيال والذاكرة الجمعيين العربية، ووحدة التاريخ الجغرافي، والجغرافية التاريخية، وبالتالي وحدة اللغة، والسيكولوجيا الجمعية، وصولاً للتأسيس التلقائي التالي للهوية القومية العربية الناجزة تاريخياً، بما يقدمه ذلك من ارتكاز متين لانجاز المشروع النهضوي العربي عبر طموحه للوصول إلى الدولة الوطنية العربية الواحدة على كامل التراب العربي.
لذلك قمنا بتقسيم التاريخ العربي إلى مجموعة مترابطة متواشجة من المراحل، يظهر فيها التاريخ اشتراطياً لأن عملية الفصل بين مرحلة وأخرى مستحيلة خصوصاً عندما نستند في قراءتنا على التأسيس المعرفي بمعناه الشمولي بما يملك من علاقة وطيدة بمفهوم التأسيس الأناسي الثقافي.
فاللغة لا يمكن أن تخلق للتو، في لحظة معينة، إنها منظومة سيرورية اجتماعية تاريخية ... كما أن البنى الحضارية متداخلة، لدرجة لا يمكن أن نفصل أو نميز في البناء الميتولوجي أو الحضاري أو غيره للبابليين عن الآشوريين أو عن الكنعانيين أو عن الليبيين أو عن اليمانيين أو الحبشيين أو المصريين... الخ كما أننا لانستطيع إيجاد تحديد معين لمفهوم المخيال الجمعي في مراحل السلالات الأولى ونفصله عما سبقه أو تلاه.مثله مثل الحالة الفينيقية/ الكنعانية/ التي لا يمكن دراسة منظومة الذاكرة الجمعية والميثولوجية فيها بمعزل عن البنية الأناسية العامة المعرفية والثقافية " لشقيقاتها العروبيات في زمن معين وواقع تاريخي وجغرافي معزول، فكيف بنا باللغة وبعلاقتها بالبنية الأناسية المعرفية العامة!!؟
وقبل أن يستعجل القارئ بحكمه على العمل، لابدَّ من المتابعة، لابهذا الجزء فقط، بل بما سيتلوه من دراسات متتابعة ومكمِّلة تشكل قراءة معرفية مقارنة حيادية لتاريخنا العربي. فالمتابع لهذا التاريخ يدرك عناصر التواصل والتداخل والتواشج المكونة لبنية واحدة غير منقطعة لابالمفهوم" أو بالقياس" الشاقولي، ولا بالقياس الأفقي. وأعني بالشاقولي البنية الهرمية الحلزونية الشاملة للأناسة العربية معرفياً وحضارياً وثقافياً، قياساً تناسبياً مع الحلزون الزمني بمفهوميه الفيزيائي، والاجتماعي. وأما الأفقي فلقد قصدت به الرافعة الجغرافية- التاريخية لامتداد، وسعة رقعة الانتشار العروبي- العربي. وهذا التكامل بين الأبعاد يجعل من المستحيل بمكان لأي باحث أو قارئٍ، ولما سيكتشفه من وحدة مترابطة العناصر، أن يجزئ هذه البنية إلاَّ عبر المنهج الاشتراطي. أي الذي يستطيع أن يحدّد من خلاله الفواصل المحددة بين نشوء المظهر الأكدي والبابلي والآشوري، وبين كلٍ منهم والأوغاريتي أو العبلاوي " الايبلاوي" أو المصري أو الليبي أو اليماني أو القرطاجوي أو غيرها، إلاّ عبر الاشتراط المحدد لتأريخية معينة. وهنا لا نلجأ عادة لقراءة التاريخ الذي يرسم بخطوط هندسية " أو حسابية" معينة بحدث ما، بل نستخدم القراءة التاريخية المعرفية التي تعني المقاربة الداخلية للبنائية المجتمعية" بارتكازاتها الأناسية " الانتربولوجية" المعرفية، والتي يتعذّر من خلالها تقسيم الحلزون التطوري الصاعد للبناء العروبي- العربي إلى مراحل متمفصلة بتأريخية اشتراطية. لكن، ونظراً لعوامل هامة سنذكرها لاحقاً، حافظت وبصيغة اشتراطية على بعض التسميات الكلاسيكية، ريثما يقتنع معنا القارئ بأهمية منهجها وحياديته في المقاربة.
ومن المهم التذكير بأهم العوامل التي تدفع تلك القراءة للوصول إلى الحقائق التاريخية، بحيث تبدو عناصر الفصل في جوانب منها، محَّددة بمعنى الافتراض لاأكثر:
1- التاريخية المقارنة، والتي تعني ضرورة اتباع منهج المقارنة بين بنى تاريخية متوازية أو متماثلة أو متشابهة أو متطابقة، للدلالة على الأوليِّ، والتالي، وعلى المصدر الخلاق للمعرفة كنتاج أولي، وعلى التبني التمثلي، أو المنمذج كنتاج الأولي، وهذا لا يمكن أن يتم إن لم نربطه بالبناء المعرفي، بسبب ضرورة وضعه في سياقه التاريخي الطبيعي، بما يعنيه ذلك من رسم الخارطة المعرفية لاحداثيات تطور الفكر أو اللغة أو المظهر الحضاري.. ولا أقصد بالتاريخية المقارنة، المعنى الحرفي، بل، المعنى الدلالي، لعلاقته المباشرة بعلم الأناسة المعرفي " الأنتربولوجيا المعرفية" كحالة من المنظومة، التي نتناول فيها وعبر علم الاناسة الثقافي العروبي- العربي دراسة التطور التاريخي المعرفي للغة العربية البدئية " الأولية" ومن ثم لآلية تطور لهجاتها وعلاقة ذلك بالبنية الثقافية العامة، وهذا ما يحمل في جوانبه مجالين آخرين، هما الاثنولوجيا التاريخية المعرفية للشعب العربي، والتي نعني بها الدراسة التحليلية المقارنة للكم والنوع الاثنوغرافي بهدف الوصول إلى التصورات النظرية والتطبيقية والتعميمات المختلفة بما يخص النظم الاجتماعية العروبية من حيث وصولها وتطورها النوعي، والمجال الآخر هو الاثنوغرافيا المعرفية والتي تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والبنى الميتولوجية " بمظاهر انتشارها" والعادات والقيم والتقاليد والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية وعلاقتها بالتكوين الثقافي المعرفي العروبي- العربي.
وانطلاقاً من تعريف مارغريت ميد M.Mead 1890-1979" للانتروبولوجيا" نحن نصف الخصائص الانسانية، البيولوجية، والثقافية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية، كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة. كما نهتم بوصف وتحليل النظم الاجتماعية والتكنولوجيا، ونعنى أيضاً ببحث الإدراك العقلي للإنسان، وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة، نحن نسعى لربط وتفسير نتائج الدراسات في إطار نظريات التطور أو مفهوم الوحدة النفسية.." (3) يمكننا أن نؤسس على ذلك تصوّرنا المعرفي للخصائص التاريخية" القومية" / العروبية- كمرحلة أولى- والعربية، كمرحلة ثانية/ والمرتبطة بالإحداثيات المعرفية " الذاكرة الجمعية والمخيال الاجتماعي، والسيكيولوجيا الجمعية، والإدراك، والاختزان، والاستقبال والمعالجة والتشفير.).الخاصة واللغة، وتطور تلك الخصائص عبر المراحل التاريخية ببعديها التأريخي والاجتماعي، وفي الانتشار الجغرافي البيئي" من ثم تحليل تلك السمات بعلاقاتها المؤسسة، كما قلنا، بأنساق لها إحداثيات الوقائع المعرفية الاجتماعية. وهذا يرتبط بدوره بمفهوم المنظومة الاجتماعية العروبية- العربية، وكيفية الانطلاق لتحديد التالي من انتقال الفكر من حالة التراكم الموضوعي- الوصفي- إلى التجريد فالفلسفة، وهذا أعطى منظومة معتقدية ميثولوجية متطورة ذات سمات خاصة ومميزة ترتبط بالبناء المعرفي الأناسي الذي نحلله ونفككه من خلال الهرمية البنائية الخاصة به، وعلاقتها باللغة.. وهذا لا يعني أن علم الاناسة " الانتروبولوجيا" وكما عرفه الدكتور شاكر سليم في قاموس الانتروبولوجيا " إن الانتروبولوجيا هي علم دراسة الانسان طبيعياً، واجتماعياً وحضارياً" (4) يفسر الاستناد الذي اتبعناه في دراستنا، لأن هذه القراءة تعميمية، ونحن نحدد قراءتنا بالتخصصية، بمفهوم تطور الأناسة المعرفية العربية، لنبتعد، عن مفهوم التطور العرقي، البعيد تماماً عن الأبعاد الإنسانية لقراءة تطور الجماعات البشرية بما حملت أثناء سيرورتها، من تأثر وتأثير وتداخل وتمازج وتفاعل ومعالجة مع جماعات قريبة وبعيدة خصوصاً ما يعنيه ذلك من بنية تشريحية ومورفولوجية لا تمتُّ للبحث الدقيق الموضوعي بصلة أساسية إلا بما يخدم البناء المعرفي العام في إحداثياته الزمانية.
لذلك، نؤكد أن القراءة التاريخية المعرفية في محور الأناسة المعرفية يعني دراسة الظاهرة الثقافية بآلية تطورها الإنساني بخصائصها القومية. وهذا يتعارض مع الاتجاه البنائي الوظيفي الذي يغفل الجانب الديناميكي التطوري. في حين ندرس معرفياً منظومة إدراك الجماعة البشرية وأسلوبه، للأشياء والمبادئ وما يكمن وراء هذا التفكير من منظومات معرفية متداخلة تخلق هوية الجماعة التي تعرف من خلالها وتتعامل مع العالم المحيط بواسطة منهجها الخاص. لذلك كانت رؤيتنا للمفهوم التطوري من زمن لآخر" اجتماعياً " وما يفرضه ذلك من قراءة معرفية خاصة لعلاقة اللغة بالثقافة. وما تعنيه الأولى من منظومة مفتوحة، لأنها تعتمد على آليات استقبال الواقع في المنظومة الفكرية، وعلاقة هذه المنظومة باللغة ذاتها.
لقد أجرى ليفي ستروس دراسات على أساس الافتراض القائل بأن لدى العقل الإنساني طريقة تسمح له بتصنيف الأشياء في ألفاظ أو معانٍ متقابلة، الأمر الذي جعل الإنسان يميز بين نفسه وغيره، أو بين الحيوان والذات الإنسانية، وبين الطبيعة والثقافة. هذه القدرة على التمييز تمثل في نظر ليفي ستروس جوهر الاختلاف بين الإنسان والحيوان، كما أنها سهلت قيام الإنسان بالتفاهم والتخاطب عن طريق استخدام مجموعة من التجريدات والرموز، التي ساهمت في بلورة تشكيل نمط الثقافة السائدة وتمييزها عن غيرها من الثقافات الإنسانية. وأياً كان طابع أو طبيعة الثقافة، فإن اللغة تمثل العمود الفقري فيها. فالمجتمع- وبالتالي الثقافة- على حد تعبير رومان ياكوبسون مؤلف كتاب علم اللغة- ما هو إلاَّ " شبكة محكمة جداً من التفاهم الجزئي أو الكلي بين أعضاء الجماعات" واللغة بطبيعة الحال تمثل الأداة الأساسية بيد الإنسان لتحقيق أشكال الاتصال والإعلام والتفاهم كافة. ولقد حدد ليفي ستروس ثلاثة أنواع من أنظمة الاتصال بين الأفراد والجماعات وهي: تواصل الوسائل " اللغة" وتواصل المنافع " الاقتصاد" والتواصل الجنسي" الزواج" (5) لكن تلك الدراسات وما بني عليها من مدارس أخرى للقراءات الأنترولوجية، لم تعنِ الجوانب الأخرى المتعددة التي تحملها المنظومة الثقافية في سيرورتها. وإن كان قد أشار إلى ثلاثة عناصر هامة" اللغة، الاقتصاد، القرابة" رغم ارتباطها أيضاً فيما بينها، فاللغة وإن كانت ذات علاقة هامة، بالميتولوجيا، والمعتقدات، والبناء الديني مثلاً، وتحمل في داخل تكوينها الكثيرَ المعبِّرَ عن ذلك، إلاَّ أن لهذه العناصر الأخيرة بنى تبدو علاقة اللغة فيها محدودة بشكل أو بآخر. وللمخيال الاجتماعي أيضاً كمنظومة حجمية جماعية لتصورات الجماعات البشرية عن سيرورية الأحداث وتخيلها وتحميلها الجمالي، خصائص معرفية رغم ارتباطها الوثيق بآلية التواصل اللغوي، إلا أنها تحمل جوانب تخيلية خاصة، تتحدَّد فيها علاقة اللغة ومثل ذلك أيضاً الذاكرة الجمعية في آلية الاختزان والمعالجة والتشفير والاستحضار والاكتساب والتأصيل والتحديث. وأيضاً تبدو علاقة السيكيولوجيا الجمعية بآليات الحراك الجماعي، تجاه الظواهر الاجتماعية والبيئية والطبيعية والقلق والخوف والولادة والموت والحرب.. ذات ملامح خاصة أبعد من قدرة اللغة على تحميلها. لذلك لا تحمل مقاربتنا في هذا البحث جوانب طاغية معرفياً وأخرى مقهورة بمقدار ما تحمل من تداخل هذه المكونات التي تحدثنا عنها أعلاه جوانب الترابط والتداخل في المنظومة الأناسية المعرفية العربية على مدى تطورها التاريخي. وإن كنا قد خصصنا فصلاً موسعاً وهاماً في هذا الكتاب لدراسة البنية اللغوية الأناسية المعرفية العربية وذلك لما تحمله هذه البنية من تقاطعات هامة ورئيسية بين كل العناصر المكونة للمنظومة الانتروبولوجية التطورية( التاريخ الأناسي، الذاكرة الجمعية، المخيال الاجتماعي، السيكيولوجيا الجمعية، الميتولوجيا والمعتقدات، البنية الاقتصادية والنمطية، وتطور وسائل الإنتاج الجماعي والفردي..) حملت آلية التعبير الخاصة بها عبر أنساق لغوية ذات دلالات هامة.
وانطلاقاً من تلك المقاربة حددنا المراحل التاريخية المعرفية " اشتراطياً" لتطور اللغة العربية:
1- اللغة العروبية البدئية، وهي شفاهية، تركت بعض رموزها وعناصرها في المراحل الأخيرة من أزمنة ما قبل التاريخ. وهي الأمُّ للهجات الكتابية العروبية التي ظهرت لاحقاً.
2- اللهجات العروبية، وهي كتابية، ويمكن تحديدها تأريخياً في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد مع ظهور المسمارية والهيروغليفية، وهي لهجات فرعية بقيت متمحورة حول لغةٍ أمٍّ- أساس وتمتد حتى النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
3- اللغة العربية ويبدأ تاريخها مع ظهور الأبجدية العربية الفينيقية" أبجد، هوز، حطي، كلمن سعفص، قرشت" والسنياوية " نسبة إلى سيناء" والمسند.
4- العربية المعاصرة: والتي تمتد بتاريخها منذ الرسالة المحمدية العظيمة وحتى الآن.
أما ما يخض العروبيّ، والعربيَّ، فلنا في ذلك وجهة نظر محددة، نتمنى من القارئ أن يعيرنا شيئاً من صبره لمواصلة الحوار:
فالعروبة: اسم يُرادُ به خصائص الجنس العربي ومزاياه " المعجم الوسيط" وهذا يعني منظومة البناء المعرفي الأناسي التي تحمل في مكوناتها جملة المواصفات المتمحورة حول أساس لغوي واحد وبنية ميتولوجية ومعتقدية واحدة، وجغرافية تاريخية واحدة، وتاريخ جغرافي واحد، وسيكيولوجيا جمعية واحدة، وتأسيس حضاري واحد، وتمحور تقني واحد، ومرتكزات منظومة بدورها عقلية واحدة.. تتعدد مظاهر حركيتها وتتنوع، لكنها تبقى متمحورة حول بنية مركزية واحدة متطورة بدورها تماماً كما تتعدد مظاهر الخيال الاجتماعي الواحد أو أشكال الذاكرة الجمعية الواحدة " وسنأتي على كل واحدة من تلك، بالتفصيل في حينه".ومنها" العروبي"
أما" العربي" : فهو من يحمل سمات المبادئ والمعاهد وجملة الأنساق الناظمة للخصائص المميزة للجنس العربي. أي يختلف عن " العروبي" بتوفر العناصر الناظمة للخصائص، التي تكون متوفرة في التاريخ القبلي ولكنها لم تصل إلى درجة التعقيد للمنظومة التي تصوغ السيرورة التالية لتطوّر عناصرها.
فمثلاً كان هناك في المرحلة اللغوية الثانية مجموعة لهجات" عروبية" تتمتع بنفس الخصائص والمواصفات وتتقاطع فيما بينها بمعظم مفرداتها، لكنها لم تكن قد انتقلت بعد إلى مرحلة التعقيد في أبجديات متطورة. فاللهجات تلك كانت تتمحور حول خصائص واسمة للغة العروبية، أينما كان ذلك التموضع الجغرافي لتلك اللهجات. فالخصائص التي تتمتع بها اللهجة الليبية " الجبالية" والحبشية، والمسندية والأكدية هي واحدة لكنها لم تحمل اشتراط التعقيد في أبجدية ناظمة لحركيتها. وهذا ما فرضه التطور التاريخي التالي. لكن ذلك بقي في كل مراحل تطوره( كما سيمر معنا بالتفصيل وبالأمثلة التطبيقية في الفصول الموافقة) يحمل الصفات التي أصبحت واسمة للغة العربية فيما بعد. من هنا كان التعريف المعرفي، بأنه فعل سيروري. أي لا يمكن أن نسمي شيئاً قبل وجوده باحداثيات ومواصفات معينة. فهل كان من الواجب على العرب أن يطلقوا على أنفسهم هذه التسمية منذ عشرات السنين ثم يصوغون تطورهم بما يتناسب مع هذه التسمية. والتاريخ المعرفي لايعنى بالواقع البعدي إلاَّ عبر قراءته السيرورية.
أيضاً يمكن مناقشة البنية التطورية الشاقولية في الحلزون الاجتماعي، بنفس المنهج. فالمسمارية والهيروغليفية سُبقت بنظام كلامي تطوَّر عبر آلاف السنين، ولم تخترع الجماعة البشرية العروبية تلك الكتابات قبل أن تعرف اللغة الشفاهية. فأتت لتحدد مواصفات معينة تواصلية للغةٍ ما سابقةٍ عليها. لكن اختراع الأبجدية الذي أتى أيضاً على نفس الأرضية الناظمة، حدَّد المسار التالي وبشكل مبادئ ومعاهد وقواعد ونظم، وأعطى تلك الميزات تسمياتها. وعندما تحدثنا عن الأبجدية باعتبارها الفاصل بين العروبية، فلأن دراستنا المقارنة للأبجديات الثلاث خرجت بنتيجة مفادها ( أن اللغة المحورية لتلك اللهجات هي واحدة/ كما سيلاحظ القارئ في الفصل المخصص لذلك/). وهو مارُسِّخ أكثر مع ظهور أبجدية اللغة العربية المعاصرة التي حملها القرآن الكريم إلى أقاليم الانتشار العروبي السابق والعربي اللاحق. وهذا يفسِّره عدم انتشار اللغة العربية المعاصرة ( التي كانت لغة الدولة الإسلامية في كيانها السياسي من الصين شرقاً وحتى جبال الألب غرباً) خارج الانتشار الجغرافي التاريخي للجماعات البشرية العروبية في رقعة الوطن العربي بامتداده المعاصر.
" أو بالحري أن اللغة العربية قد أعطت، دون انقطاع منذ أصولها النيوليتيكية والرافدية حتى يومنا هذا وفي جميع أشكالها وصورها، دون استثناء.. أعطت تديناً صاغ منه مجتمعنا، جميع التأملات والفلسفات، والجماليات، والعلوم الخفية( الخاصة) أو العامة. فلقد كان كاهن بعل يتكلم العربية، و بها كذلك يتعبّد التقيُّ المؤمن بـ" إيزيس" أو موسى المصري، وبالعربية يتكلم من ثم عيسى المسيح عندما يتحادث مع قيافا أو مع شعب فلسطين،ولعلها بديهة أن نسجل هنا أن محمداً قد بشَّر بالعربية، وبها نشر رسالته. وأن الخط المستقيم لثقافتنا لم يكن منحرفاً يوماً ما أدنى انحراف. وإنها في الحقيقة، لعبة أطفال بالنسبة لعالم لغة، أن يجد في أصول اللهجات المصرية والكنعانية والأناضولية أو الآشورية البابلية العناصر الأساسية للغة العربية، فلقد نقلت الكلمة أحياناً بكليتها خلال العصور بحيث تلخصها في كلمة مقصورة مدهشة. فإذا ما أردتم أمثلة قدمنا بعضها فيما يلي/ سنعار في النصوص السومرية والآرامية والرافدية نسميها في العربية المعاصرة شنعار. والإله" شمش" يطابق في العربية الحديثة شمس. و" بعل" يعني بالعربية " المعلم والسيد"، ورب " وهي كلمة من مابين النهرين" تعني " أب " ورب البيت" هو سيد المنزل"، ويُسمى إله الصاعقة البابلي" براك" وعربية القرن العشرين تسميه " برقا" الإله تموز أعطى اسمه لشهر تموز العربي. الإله السوري الفلسطيني للجحيم يسمى" موت" والتعبير نفسه في العربية يعني الموت. العيد الطقسي في لغة ما بين النهرين" هاج" وهي" الحج" بالعربية، الفريضة المعروفة. أما سبت، فمرادف مباشر لكلمة " سباتو " البابلية، وهي تحدد عيد القمر عندما يصير بدراً (6). وهناك آلاف الأمثلة " سترد في حينها". والرأي السابق ليس لباحث عربي، إنه لصاحب مدينة إيزيس- التاريخ الحقيقي للعرب- /بييروسي، والذي يتابع قائلاً:" وإذا كنِّا عازمين على ألا نستعير شيئاً من أحلامنا، فيجب علينا عندئذٍ أن نعرّف العروبة كثقافة الشرق الوحيدة" (7) والتي امتدت عبر مساحة جغرافية ذات تاريخية خاصة ميزتها عبر آلاف السنين" وكانت شعوبها، المصرية والكنعانية والأناضولية والسورية والبابلية تنتمي للأسرة العربية نفسها"(8) فهذه الأرض الشرقية قد عاشت من خلال إيقاعٍ وحيد النغمة لخمس امبراطوريات: مصرية وبابلية وبيزنطية وفارسية وإسلامية... بحيث أنه منذ حكم أول فرعون في الألف الخامس قبل الميلاد وحتى سقوط آخر خلافة، مروراً بالاسكندر.. كان الأمر استمراراً لا انقطاع فيه قد تركّز في الشرق، استمراراً للقوى، استمراراً للفكر، استمراراً للاقتصاد(9)" و أننا عندما نؤكد من خلال نظرة شاملة، أن الشرق يتعين من خلال ثقافة عربية في مساحة عربية فإننا لا نخترع شيئاً، إننا لانفعل شيئاً جديداً سوى جمع وإحكام العناصر الجغرافية والثقافية الموطِّدة الواحد للأخر"(10).
ومن خلال الكلمات القليلة السابقة نكتشف مباشرةً العلاقة الحية بين الميثولوجيا والمعتقدات، والدين والمثيولوجيا، فاللغة ليست أدوات تواصل، وتفكير فقط، إنها الشكل المتحرك من الفكر في " الفضاء" الاجتماعي. إنها النموذج الأرقى" الحركي" لمنظومة الفكر. وهذا ما نجد نموذجه في كل أركان" الدولة العروبية في الشرق. تلك الدولة التي ما عرفت صيغة الدولة بالمفهوم السياسي قبل الرسالة الإسلامية، ولكنها كانت قائمة على الأرض، في الواقع وإن عرفت بعض التكوينات السياسية الضخمة التي شملت مناطق واسعة من الوطن العربي وخصوصاً بين وادي النيل وبلاد الرافدين شاملة البلاد السورية ما بينهما،" لأننا نلاحظ دون أن ندخل في التفاصيل أو نضيع في ضباب سمير أميس الأسطوري أو فينوس، إلى أي حدٍّ كان تاريخا مصر وما بين النهرين متطابقين، وإلى أي درجة تكون طيبة وبابل قطبي عالم ملتحم(11)" واحد مُؤسَّس في عمق التاريخ ويشكِّل وحدة متوازنة واحدة. فلقد أعادت الرسالة الاسلامية الشرق العربي إلى نفسه، إلى ذاته أعادت الشرق بامتداده الجغرافي من بحر الظلمات " المحيط الأطلسي" إلى الخليج العربي" البحر الأسفل" ومن شمال هضبة الأناضول إلى بحر العرب وعمق الصحراء العربية في لغة عربية واحدة، حملت حداثتها مع الاسلام لأن القرآن حمل الكمال الجمالي والصوتي والدلالي والقواعدي والديني للغة شعب مصري- رافدي قديمة محكية(12). فإذا ما كانت سياسة الاسلام قد مركزت الدولة بمفهومها السياسي فإنها لم توحد (القوميات) لأن القومية الوحيدة التي كانت منتشرة في رقعة الوطن العربي في حينه، هي العروبة، انتشاراً جغرافياً وتاريخياً مثله وحدة البناء المعرفي الفرعوني والبابلي والكنعاني واليماني والفينيقي.. الخ.
إن الاسلام وقد خرج من الصحراء لم يعد إلى الصحراء، بل توجَّه إلى الجماهير الكبيرة في لغتها وعقليتها، وفي مدنها البحرية والنهرية، لأن الدين الموحى إلى النبي كان متلائماً مع فهم تلك الجماهير، ذلك أنّه ليس بدعة ولا ثورة، إنّه يكمّل بصورة عالية بسيطة التراثات العروبية السابقة،وإن عقليات الشرق العربي المركبة المتنوعة ظاهرياً، قد كانت واحدة في جوهرها(13)، الذي يلخصها في إيمان واحد حول وحدانية الله. فالقرآن يجمع ولا يفرّق، ويقرر ذلك ولا يناقشه، لأنه موجود على ساحة الواقع الموضوعي" إنه يقرر الخضوع لله الخالد الأزلي- الحاضر في الماضي كما هو في المستقبل، الواحد الثابت الدائم غير المخلوق، الموجود في كل مكان من الكون. وليس هذا بالتأكيد مفهوماً مولوداً في صدىً، في زاوية صحراء، ولكن من زبدة تأمل المخلوقات الكنعاني، والبعث المصري أو المسيحي، والأمل في رؤية مستقبلية، فالإسلام لم يفاجئ أحداً أبداً من شعوب الشرق، بل أنار من حولها، ما هو متغاير ومتمايز. ولم يكن هناك حاجة لسيف ولا لاضطهاد من أجل أن تعتنق هذه الشعوب دين الإسلام. لقد اقتادهم إلى الإسلام الميل إلى الإيمان المتوارث عن الأجداد. إن الإسلام لم يكن بحاجة إلى احتلال الشرق والمتوسط عسكرياً، حيث كانوا في وطنهم منذ أماد بعيدة" (14) فلتأتهم الأوامر من ممفيس أو صور أو بابل أو آشور أو دمشق أو بغداد أو القيروان أو مكة، لقد كانوا يعبّرون عمّا في نفوسهم باللغة نفسها، ويعبدون الآلهة نفسها، ويحكمهم موظفون من المقاطعات نفسها" (15).
وقد يقودنا الحوار حول هذه النقطة إلى اعتبار ظهور الديانة الأتونية" ديانة أخناتون" التوحيدية حلقة نوعية هامة في التطور المعتقدي العربي، مما يعني إيجاد التطابق الهام بين ظهور الأبجديات العروبية" الأوغاريتية والمسندية والسيناوية" وظهور الأتونية كديانة توحيدية، وهذا ما يعني الإعلان عن الانتقال من العروبي ليس فقط على المستوى اللغوي كما تحدثنا أعلاه، بل على المستوى المعتقدي/ المعرفي / وهنا، لابد من الإشارة إلى أهمية التماثل بين البنية المعتقدية والانتشار الجغرافي التاريخي. هذا من جانب. أما الجانب الآخر، فإن ظهور المسيحية لاحقاً ضمن المسار التطوري للبنية المعرفية العربية كان أهم من سابقتها، لكن التغريب الذي حصل لاحقاً بالمسيحية بعيداً عن انتشارها وجذورها العربية غطي في جانبٍ هام بما فعلته السلطات السياسية اللاحقة حتى ظهور الإسلام، ومعظمها كان رومانياً أو بيزنطياً. لم يوجد حلقات الترابط المعروفة بين البنية المعتقدية المعرفية والتكوين التاريخي الجغرافي بشكل عام، بما ينعكس كما لاحظنا لاحقاً على بنية التكوين الشمولي العروبي بعد ظهور الإسلام،" فعندما صرخ يسوع المسيح على الصليب صرخته الكبرى": الهي، إلهي، لماذا شبقتني" فإنما بالعربية كان يصرخ، وكل عربيّ يفهم معنى هذه الصرخة"(16)، كما أن رؤيا القديس يوحنا الانجيلي، والتي هي رسالة وحي في نهاية القرن الأول، وجهت إلى سبع كنائس عربية في آسيا، وهي نفسها بالذات التي كانت تظل عقائد إيزيس وبعل(17).
لكننا، وإن كنا قد خصصنا جزءاً هاماً لدراسة وحدة الميثولوجيا والبنية المعتقدية بمرحلتيها العروبية والعربية، إلا أننا ولإيضاح وجهة نظرنا عبرنا على بعض المفاصل ذات العلاقة بالتأسيس التاريخي المعرفي لقراءتنا" فإن نفتش على طريق جدلي يقود إلى تفسير المسيحية باستناداتها على الديانة المصرية التوحيدية، فذاك أمر مشروع، فالأناجيل تقدم لنا فرصة مثالية مع رحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثم أليس هناك دليل الصليب ذي العروة، إشارة الحياة التي يتكرر فيها الموضوع على امتداد قبور وادي الملوك؟ أليس هنا الصليب الكلداني الذي استعادته مصر أيضاً، والذي يمثل صليباً محاطاً بدائرة رمزاً لنصر الآفاق الأربعة وكمالها والتي تمسك خطاً مقوساً سماوياً؟ (18) والمسيحية والاسلام لم يأخذا طريق عاصمة بركليس، لكنهما أخذا طريق دمشق والمدينة وبيت المقدس(19).
لذلك كان لابد من العبور في هذه المقدمة على نقاط هامة توضح مفهوم المخيال الاجتماعي والذاكرة الجمعية وعلاقتهما بالتاريخ الجغرافي/ والمعرفي/ العروبي وعناصر ارتسامهما وتطورهما الأولي واللاحق- فحين قراءة هذه المعاني لابدَّ أن نتذكر علاقة الثالوث المسيحي بالثالوث الفرعوني، ولابدَّ أن نتذكر أن مفهوم" البعث" هو منظومة عربية مشرقية، وبأن عقلية التصوف العربية المعاصرة تعود إلى جلجاش وبأن الأعمال الإثنا عشر التي أتمها البطل الطيبي والتي تطابق الاثني عشر قسماً لفلك البروج البابلي هذا من مكونات المنظومة المعرفية العربية...
لذلك، سيكون لدينا الكثير مما نتذكره، وتطلب منّا متابعته.. لذلك قمنا ببحثنا اللاحق بتقسيم الميثولوجيا العربية إلى المراحل التالية:
1- الميثولوجيا العروبية البدئية، وتشكل المراحل المتأخرة من عصر الباليوليت والميزوليت وتتضمن المرحلة النباتية والطوطمية وتتقابل مع منظومة الفكر الأولية في خلق التصورات الموضوعية الواقعية واندغام الحلم بالواقع...
2- الميثولوجيا العربية الفلسفية الأولى- وفيها بدأ الإنسان العروبى يجيب عن أسئلة الحياة الأولى، وآلية علاقته بالطبيعة وبالجماعة البشرية وآلية الإنتاج الاجتماعي، وحلَّ إشكاليات رؤيته للزمان والمكان والخلق والموت والحياة والبعث والفرح والحزن. وانطلق بمنظومته ليجيب عن أسئلة السماء والأرض، وارتفع بمكانه عبر الزقورات والأهرام وغيرها، لأنه لا يستطيع التأثير بفعل السماء فبدأ محاولاً الارتقاء بجسده نحو السماء، فعندما اكتشف عجزه، بدأ بالتفكير التجريدي الأولي وطوره لاحقاً عبر منظومة ميثولوجية تطورت بانتظام.
3- الديانات التوحيدية العروبية الأولى وتمثلها الديانة الأتونية والمسيحية والصابئة والأحناف
4- الإسلام، وقد أعطيناه مجموعته المستقلة لأنه كان الشكل الأرقى بمفاهيم الإجابة عن التطور التاريخي لعلاقة الفكر العربي بأسئلة الحياة والمجتمع والموت والحياة.. الخ.
وهكذا نلاحظ أن التاريخ العربي يشكل ببنائه الشاقولي تراكماً كميا متواصلاً صاعداً مع ارتقاءات نوعية هامة.
فعلى الجانب اللغوي قدّمنا تصنيفنا الخاص بذلك، وعلى الجانب المعتقدي أيضاً، ويمكننا من الناحية الحقوقية اعتبار شريعة حمورابي صعوداً نوعياً خاصاً، عندما نحاول دراسة الفكر العروبي من جانب تطوره القانوني باعتباره قفزة نوعية استندت على تراكمات كمية هامة تاريخياً وذلك ضمن السياق التالي:
أ- المنظومة الحقوقية العروبية البدئية حددَّت علاقة الإنسان بذاته وبمن حوله في سيرورة التطور المجتمعي، كما حدَّدت علاقته بالهرمية الميثولوجية الملازمة لآليات الملكية والتوزيع وغيرها/( المشاعية العروبية البدئية).
ب- المنظومة الحقوقية العروبية الاجتماعية، وظهرت مع شريعة حمورابي بتنظيم علاقات مجتمعية معقدة." فلقد شكلت قوانين حمورابي ملك بابل الذي حكم ما بين 1792- 1750 ق.م أول مجموعة شاملة من النصوص القانونية التي وصلتنا من الشرق العربي، لكنها ليست أقدم قوانين باقية. إذ من المعروف أنه حتى في الفترة التي سبقت أيام حمورابي، استن ملوك عديدون من الملوك الرافديين الذين حكموا المدينة " الدولة " قوانين مماثلة. وكمثال على ذلك ما تبقى من قوانين عهد أوركاجينا في لغش " لغش تللو" عام 2360 ق.م والامبراطور سرغون الأكدي 2300 ق.م وأورنامو في مدينة أور/ 2100/ق.م بالإضافة إلى قوانين لبث عشتار ملك إي سين عام 1930ق.م والتي كانت نوعاً ما أكثر شمولية والتي وصلنا منها ثمان وثلاثون قانوناً، ومجموعة مدينة إشنونا التي تحتوي ستين قانوناً (20)، ومجموعة قوانين إيبلا " تل مرديخ" وغيرها/ (المشاعية العروبية المقوننة).
إنّ شريعة حمورابي " تشكل بالإضافة إلى كونها منظومة حقوقية قانونية شاملة، مظهراً آخر من مظاهر الحكمة العروبية بمظهرها البابلي لأنها تنطلق بقيمها المعنوية من عقيدة عامة في سلطة المعرفة الإنسانية " (21) والتي تجلت حقوقياً بتلك الشرائع والقوانين.
"128" لو اتخذ رجل امرأة ولم يعقد عليها، هي ليست زوجه.
"138" لو رغب إنسان في طلاق زوجته الأولى التي لم تحمل منه، يعطيها مالاً بقيمة هدية زواجها ويرد لها المهر الذي أحضرته معها من بيت أبيها ويطلقها.
"186" لو تبنّى رجل طفلاً ثم أصر الولد بعد ذلك أن يبحث عن والديه الحقيقيين، يعود الطفل إلى والده.
"14" لو اختطف رجل ابناً رضيعاً لرجلٍ حر يقتل.
"21" لو نقب رجلٌ " بقصد السرقة" يُقتل، يشنق أمام النقب الذي نقبه.
"265" لو غيَّر راعٍ- أؤتمن لرعي قطيعٍ من الأبقار والأغنام، علامة القطيع خبثاً ثم باعه يُدان، وعليه تعويض المالك عشرة أضعاف ما سرق غنماً كان أم بقراً.
" 33" لو أن ضابط تجنيد أو مساعداً في الجيش ساق رجالاً معفيين من الخدمة الإلزامية، أو قبل وساق بديلاً مستأجراً في مهمة لصالح الملك، يُقتل الضابط أو المساعد.
"1" إذا اتّهم رجلٌ آخر بجريمة قتل ثم لم يثبت ذلك" ضده" يُحكم على المتهم بالموت.
"45" لو أجَّر سيد حقله لمستأجر واستلم أجرة الحقل ثم أغرق آداد حقله أو دمره طوفان تكون الخسارة خسارة المستأجر فقط.
"48/M" لو أن رجلاً اقترض قرضاً ولم يكن ما يردّه فضة بل كان عنده حب، يأخذ التاجر المقرض حباً فائدة" بنسبة تتفق ومراسيم الملك". لكن لو رفع التاجر فائدته إلى أكثر من" 100" سيل من الحبوب على كل جور" أو" إلى ما يزيد عن1/6 الوحدة النقدية وست قمحات وطالب بها ويغرّم بكل ما استرده "فوق القرض".
"48/ 4" لو أعطى رجلٌ آخر فضة شراكة في تجارة، عليهما أن يقسما الأرباح أو الخسائر بينهما بشكل متناسب وأمام إله.
55- لو تقاعس " تكاسل" رجلٌ أثناء شق ترعة للري " في حقله" بحيث ترك المياه تتلف محصول حقل مجاور لحقله، يزن لجاره حباً بمقدار ما كان في أرض جاره من حب.
129- لو ضُبطت زوجة رجل تضاجع رجلاً آخر، يُربط الاثنان ويُلقيان في النهر، أمّا إن رغب زوج المرأة مسامحة زوجته والعفو عنها، فللملك الحق في العفو عن مواطنه الآخر.
136- إن دخلت زوجة رجل، هرب من مدينته وغادرها، بيت رجل آخر" بعد هروب الزوج" لا تعود إلى زوجها الهارب إن عاد ورغب في استرداد زوجته، لأنهّ حقر مدينته وهجرها.
153- لو تسببت امرأة في مقتل زوجها بسبب رجل آخر توضع على الخارق.
168- لو قرر رجل أن يحرم ابنه من الإرث فقال للقضاة" أرغب في حرمان ابني" يبحث القضاة عن ماضي الابن، فإن وجدوا أنه لم يجترح ذنباً جسيماً يبيح حرمانه لا يحق للأب أن يحرمه.
197- لو كسر رجل عظم رجل آخر يكسرون عظماً له.
200- لو حطّم رجلٌ سنَّ رجل آخر من طبقته- يحطمون سنّه" _22).
إن القراءة للمختارات العشوائية السابقة تقودنا إلى وضع تصور أوليّ لواقع البنية" المدنية " المعيشة مع أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، ليس فقط في بلاد الرافدين، بل وفي البلاد الشامية بداخلها وبسواحلها، وفي بلاد النيل والشمال العربي الإفريقي " الليبي" وتوضح أن السيرورة المجتمعية ببنيتها المعرفية هي كل متكامل، مترابط في البنية المعتقدية " الميثولوجية" وتتداخل مع الواقع الاجتماعي واللغة والآداب وغيرها، لكن هذا الاكتمال لم يبلغ ذروة نموّه إلاَّ مع القرن السادس للميلاد وظهور الرسالة المحمدية.
لذلك كانت مقاربتنا وتصنيفنا للمراحل التاريخية قد أخذت بالاعتبار تداخل كل المكونات البنائية في السيرورة المجتمعية. والمتابع لنا في الفصول القادمة سيجد نفسه بصورة أو بأخرى مقتنعاً معنا بأن التاريخ العربي ببعديه الشاقولي والأفقي يشكل ببيانه الحلزوني الصاعد بناءً متماسكاً لايمكن عزل أو فصل ع
الأحد مارس 13, 2016 6:48 am من طرف حمادي