13 نوفمبر 2013 بقلم
محمد الغيلاني قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:السياق السوسيو ثقافي لنشأة الإعلام الديني المرئي:
التنافس على الدين ظاهرة تشمل كل المجتمعات؛ لأنه يستجلب الشرعية ويمنح المتنافسين حق التصرف والمبادرة. بدأ التنافس سياسيا، وعندما استنفد بعضا من طاقاته تحول إلى تنافس إعلامي بخلفيات سياسية وعقائدية ومذهبية. الفكرة الدينية نفسها موصولة بالوجدان الإنساني، لذلك يستطيع الفاعلون باستمرار أن يجدوا من خلالها مبررا لتوظيفها طالما تزيد من منسوب الحظوة وتوسع من قاعدة الروابط في النسيج الاجتماعي.
هناك طلب على التدين وعلى رموزه، لكنَ هناك أيضا فراغا وعجزا تاما عن الاستجابة لهذا الطلب، فهل بمقدور الإعلام الديني في الفضائيات العربية أن يمثل بديلا عن أنماط التدين المهيمنة، أم أنه جزء من استراتيجية السياسات الدينية؟
مع هذه الفضائيات تحول التدين إلى منتوج إعلامي يخضع لمقتضيات المنافسة في سوق الإعلام والإشهار، كما يخضع لمقتضيات توجهات السياسات الدينية. ولذلك نجد هذه القنوات تعتمد على "منشطين دينيين"، ليس فقط على فقهاء أوعلماء متخصصين؛ حيث يقوم هؤلاء باستخدام القرآن والموعظة الدينية والسير استخداما براغماتيا يعتني بالاستقطاب أكثر مما يعتني بالمضمون، ولأن الاستقطاب يفترض الإعجاب، فإن المضمون يغلب عليه طابع انفعالي، لا يخاطب العقول بقدر ما يخاطب الوجدان الديني، ويُستثمر في الموروث العقدي من خلال نَفَس تعبوي وشحن متواصل. وهنا تكمن استراتيجية هذا الخطاب وفعاليته، لأنه يشتغل على "اللاوعي الديني"، ويربط المؤمن بحالة نوستالجية وجدانية لا تساعده على المساءلة أو النقد أو التحفظ. فبنية الخطاب يخترقها المقدس، ومن ثم تستمد شرعيتها التي لا يجوز الطعن فيها أو ردها.
هذا الخطاب تهيمن عليه متطلبات التدين لا ضرورات الدين، لكن المتدين في العالم العربي لا يقيم تمييزا ولا فصلا بين الدين والتدين، مع أن الفارق بينهما كبير، بل إن المنشط الديني نفسه لا يدرك القيمة الجوهرية لهذا التمييز؛ فهو متحرر من المساءلة، لأن الموقع الرمزي الذي يحتله يخول له سلطة الكلام والوعظ، ولأن المتدينين، من وجهة نظره، إما زبائن أو مريدين. ولذلك، فلا مانع من أن يكرس إرشاده الديني علمنة الخطاب الديني من خلال فصل الجوانب الروحية عن مقتضيات السياسة والمجتمع، والتركيز على خطاب وعظي إرشادي نوستالجي عاطفي تعبوي، يتورط في مذهبية مفرطة في الانغلاق تسد الحاجة الدينية بوصفها حاجة غريزية أكثر من كونها حاجة روحية.
وجد هذا النمط من الخطاب جمهورا لديه استعداد معنوي، وسوسيولوجي ومعرفي، لأنه يستجيب لحاجة التدين لديه، ويوافق نمط التدين العميق في وجدان هذا الجمهور الذي يريد أجوبة جاهزة منقذة من دون تكلفة معنوية أو مادية. فقد أصبح الطريق إلى الجنة ممكنا من دون تبني نمط تدين يستعمل قاموسا دينيا يستلهم روحيته من الخطاب الديني الحركي مثلا، والذي يركز في بعض توجهاته على مفردات: "الجهاد"، و"التضحية"، أو"المفاصلة" وإنكار الحياة الاجتماعية المعاصرة...، كما سهل عليه التعاطي مع إكراهات الاقتصاد الرأسمالي من دون الحرج من الوقوع في المعاملات الربوية؛ فمع هذا النمط من التدين أصبح ممكنا للمتدين أن يعيش تدينه بطمأنينة، وأن يستفيد في الوقت نفسه من متع الحياة الاستهلاكية، مهما كان النمط الاقتصادي للمجتمع الذي يعيش فيه. إن هذا التكييف (الخَضْعَنَةُ الدينية) هو نوع من عمليات العلمنة التي يمارسها الدعاة والمنشطون الدينيون باسم (الفقه) و(الشريعة) معولين في ذلك على ارتفاع الصبيب الوعظي الذي توفره الفضائيات.
لا تقدم هذه القنوات خطابا دينيا علميا مؤصلا، لأن هناك ضعفا شديدا لدى الرموز الإعلامية المتحدثة على الهواء. كما أن التمكن من المعرفة العلمية ليس من شواغل مشغلي هذه القنوات، لأن هاجسها الرئيس هو ترويج خطاب تنافسي يجلب جمهورا ومستشهرين. إذن، هناك رغبة في استقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين كاستجابة لقواعد السوق والأسهم، والذي ينشط ضمنه الخطاب الإعلامي الديني.
تحويل الدين إلى مادة إعلامية خاضعة للمنافسة، وبالتالي الرهان على جلب أكبر عدد من المشاهدين، أمر يستدعي نجوما وليس مجرد دعاة. وبهذا المعنى، فإن هذه الظاهرة حملت معها منظومة قيم استهلاكية مرتبطة بسوق دينية تعتمد على أنماط لباس وزينة، ولغة خاصة، وأفق مغاير. كما حملت معها تدينا هجينا يمتلك سيولة نفسية متدفقة لتبرير المواقف والسلوكات، وعيا من القائمين على الشأن الإعلامي الديني، ومن خلفهم مهندسو السياسات الدينية، أن الدين لم يعد المرجعية الوحيدة التي تنتج منظومة القيم والسلوك والمواقف؛ فإكراهات الحياة المعاصرة تفرض نفسها على أشد المجتمعات تدينا.
التدين الأكثر ملاءمة لنمط الاستهلاك المعاصر، هو ذلك الرصيد من المعارف الدينية التي تخلط بين المرجعيات وتؤسس مبانيها الشرعية على منهجين مفارقين:
أولا : التشدد والمبالغة في استخدام النصوص الدينية.
ثانيا : الشطط في توظيفها طالما يساعد ذلك على تبرير موقف ما.
وأما الحصيلة، فهي على القدر نفسه من التناقض؛ فنحن إزاء متدين يحمل في ضميره قيما دينية متناقضة، تتقاسم وجدانه، ويتوزع سلوكه بين منظومتي قيم مفارقتين: تدعوه الأولى إلى منطق ديني استهلاكي، وتدعوه الثانية إلى منطق ديني يقطع مع الحياة المعاصرة.
تعدد الخطاب الديني وتعدد المرجعيات يعكس تجديدا في التقنيات وانغلاقا في المضمون؛ أي أنه لا يعكس انفتاحا عقائديا بقدر ما ينتج قراءات أرثوذكسية ولاهوتية، تتورط في الانغلاق، والوثوقية، والقطعية، وتنعكس على المتلقي الذي يتوغل في متاهات الخلاص الفردي، والانزواء الاجتماعي، والتكتل حول جماعات، وتضامنات هامشية. يعتقد المتدينون أن بإمكانهم أن يكونوا كاملي التدين إن هم امتثلوا للإرشاد الديني الذي يستهلكونه على مدار الساعات الطوال التي يقضونها أمام التلفاز؛ فهم راضون عن تلك الحصة التي تكون من نصيبهم، كما أن الخطاب الإعلامي الديني نفسه راض عن عروضه مطمئن لمسلماته.
مواصفات الخطاب الإعلامي الديني:
هذا الخطاب لا يصنع رأيا دينيا عاما، إنه ينتج عقلا فوضويا كميا؛ لأن الجمهور في هذه الحالة واقع تحت التأثير، معجب وليس ناقدا.
خطاب غير متماسك يعتمد استمالة الأذواق في بناء وتشكيل تدين الجمهور، وهو لذلك لا يصنع متدينين، بل زبائن مستهلكين ومدمنين.
خطاب يقتات على التسيب السائد في المعارف الدينية؛ فالدين في مجتمعاتنا لا يعلم، بل يورث.
خطاب هاجسه الرئيس كيف يصنع متدينا قابلا للسيطرة عليه، عاجزا عن اتخاذ القرار والمساهمة في تغيير مجتمعه. صناعة إعلامية تعامل الدين بحسبانه صفقة مالية تستثمر في جمهور متلق معجب يستقبل الخطاب الديني بوصفه خطابا مقدسا غير قابل للتشكيك.
خطاب يضفي على جزء من التدين طابعا خروقا فيما يلغي الجزء المتبقي منه، لأنه يتناقض مع الأهداف الكبرى للسياسات الدينية.
خطاب يخلق الرضا عن النفس ويجلب الطمأنينة الداخلية، من خلال الانتماء إلى لحظة تاريخية مليئة بالأمجاد والبطولات والتفوق. فهذا الخطاب يطور ويغذي نوستالجيا دينية تعويضية من الناحية السيكولوجية على المستوى الفردي كما الجماعي.
لذلك يتم تغييب قضايا المجتمع والسياسة من اهتماماته، ويحول المتدين إلى ناسك أناني.
كما يغلب على هذا الخطاب استحضار مكثف للنصوص والسير والأحداث والروايات من دون ذكر لمصادرها أو التدقيق في صحتها، مما يترك المجال لسرد كل الأحداث الحقيقية والمزيفة على السواء، بل أحيانا يتم الاعتراف بضعف بعض الروايات، ولكن بدعوى أن مضمونها تربوي، فإن ذلك يبرر الاستشهاد بها.
ولذلك تحتل الخطابة وفنونها أهم أسلوب في الإقناع أو بالأحرى استجلاب الإعجاب، ومع الإعجاب يتوقف العقل عن التفكير أو التحليل أو المساءلة.
ولذلك، لم ينجح هذا الخطاب في تعويض الجمهور عن الفراغ الروحي بدليل تناسل هذه الفضائيات وتنافسها على استجلاب أكبر قدر ممكن من المشاهدين، مما أسهم في توسيع رقعة فوضى التدين التي أسس لها الخطاب الديني الرسمي.
يوجه هذا الخطاب التعميمي إلى جمهور لا يتساءل عن نوعية الخطاب أو مرجعياته (سلفي/ صوفي...)، وهو جمهور متنوع، ينتمي لمختلف الشرائح الاجتماعية، وليس صحيحا أن جمهوره من الطبقة الوسطى، لأن هذه الطبقة بالمعنى السوسيولوجي الدقيق لا وجود لها في العالم العربي.
ولذلك تغلب على هذا الخطاب ازدواجية؛ إذ يعد الفقراء ويطمئن الأغنياء.
هذه الفضائيات تقوم بنوع من استدراج الجمهور، ليس فقط للموعظة ولكن أيضا للمتعة والاسترخاء السيكولوجي من خلال الإلقاء بالإنسان العربي في وهم وجودي، ومن خلال التركيز على حياة الرسول الأخلاقية والأسرية، وعلى صفات زوجات الرسول وسيرة الصحابة...إلخ. التركيز على المثل وتقديم التاريخ كسيرة طاهرة واعتبار المجتمع الأول مجتمعا فاضلا.
اختلاف مرجعيات الخطاب الديني يجد له صدى في الفضائيات العربية، ولذلك ليس هناك خطاب ديني بالمعنى الدقيق... وإنما هناك تدفق (صبيب ديني عالي الوتيرة) غير متحكم به لمجموعة من المفارقات الدينية، المبنية على توجه عقائدي يستعيد الدين كمنتوج قابل للتسويق والاستهلاك، نظرا لمفعوله المباشر على المتدين الذي يعامل كما لو أنه زبون.
فضائيات تنتج خطابا دينيا جاهزا للاستهلاك، خطاب يستطيع أن يستجيب لمعايير الاستقطاب الإعلامي ولمقاييس المشاهدة، ولذلك يغلب على الموعظة الدينية أسلوب الإثارة والتشويق وملامسة الوجدان. بهذا المعنى، يتحول التدين إلى شكل من أشكال الترويح عن النفس، كما لو أن المشاهد يخضع لحصة علاج نفسي واسترضاء وجداني.
يتم كل ذلك من خلال قصص وحكايات هي أقرب إلى مثل مجتمع يوتوبي منها إلى واقع التجربة الدينية التاريخية. هذا الانزواء في التاريخ مغلف بأخلاقيات مجتمع تاريخي مليء بالرموز وبالكاريزمات، تُعَوِّد المتدين في العالم العربي على الاستمتاع الروحي ببطولاته للتعويض عن انكسارات الحاضر.
هناك إمعان في تصريف هذا الخطاب الذي لا يعترف بمشاكل العصر، بل يكتفي بالتحايل عليها، مما يعمق لدى جمهور المتدينين شعورا بالإحباط الفردي والجماعي،لأن التقديس الذي يشحن به متن الخطاب الديني يولد تعجيزا سيكولوجيا. وبهذا المعنى، فإن مفاعيل هذا الخطاب تزيد من منسوب الإعجاب بالماضي، والإحساس بالعجز أمام مشكلات العصر.
تحليل استراتيجية الإعلام الديني:
ظاهرة القنوات الفضائية الدينية جاءت لتقوم بوظيفتين أساسيتين:
أولا : التركيز على التدين الفردي، ومن ثم نشر قيم الخلاص الفردي باسم الدين، وترسيخ تقليد ديني تاريخي يلقي بالمتدينين في عوالم لاهوتية تضفي على سلوكه الاجتماعي غربة وجودية تنزع عنه الإرادة، وتشل حركته، وترهن مصيره بيد السلطات الدنيوية التي تشجع على تدين أناني.
ثانيا : التركيز على الخلافات الإسلامية الإسلامية، (السنية الشيعية على الخصوص). وإن كان هذا التركيز لا يتم دائما بشكل مباشر، إذ يعمد المنشطون الدينيون إلى تقديم منظومة من المقولات التمجيدية لشخصيات دينية تاريخية، كرد ضمني على ما يروج، لدى المخالفين مذهبيا، حول مواقفها وممارساتها التي يعتقد الطرف الآخر أنها لعبت أدوارا تآمرية على مسيرة الإسلام التاريخية. يأخذ هذا التركيز طابعا مذهبيا صرفا يبرئ الذات ويُنَمْذِجُ التاريخ، ويَذُم الخصوم المذهبيين ذما لسد الطريق على كل انفتاح أو تعاط متحرر من الموقف المذهبي.
الوظيفتان معا جزء من استراتيجية لإعادة صياغة التدين في العالم العربي والإسلامي وفق منهج يصور الدين كقضية فردية، تتسم بنزعة روحية مفارقة، تدعو حينا إلى التسامح والانفتاح والتأقلم، فيما تدعو حينا آخر إلى القطيعة والانغلاق ورفض الآخر. خطاب يدين الحداثة ويتسامح مع مكتسباتها، يدين الأغيار ويطالب بالحوار معهم، يتشدد مع المخالفين مذهبيا ويدعو إلى التسامح الديني.
وفي الوقت نفسه هناك توجيه ديني للتشدد إزاء المخالفين من داخل الدائرة الدينية نفسها، حيث تعمد السياسات الإعلامية إلى تصريف خطاب مذهبي منغلق وغير متسامح.
إذن، هناك مفارقة أساسية تدعو المتدين لأن يكون منفتحا ومتسامحا، وفي الوقت نفسه منغلقا ومتشددا.
تقوم فلسفة هذه القنوات على توصيات السياسات الدينية التي خطط لها في دوائر القرار السياسي، وكاستجابة لتقديم الدين الإسلامي للعالم بوصفه دينا مرنا، وتوافقيا، واندماجيا، لا تتجاوز سلطته الروحية تربية الفرد الصالح المنشغل باستمرار بخلاصه الفردي. والمتدين متسامح مع السياسات الرسمية، مندمج فيها لا يتردد في إعلان الولاء غير المشروط لمقتضياتها.
ظهرت القنوات الفضائية الدينية في العالم العربي كاستجابة مفتعلة للطلب المتزايد على التدين الذي أصبحت تتسع قاعدته في العقد الأخير من القرن العشرين. وقد ووجه هذا الطلب بقلق وتوتر كبيرين من الناحية السياسية، فبدأ التفكير داخل مراكز القرار في صيغ احتوائه وتوجيهه، بل توظيفه كذلك لمصلحة التوازنات السياسية، وهذا يفسر بعضا من العوامل التي أدت إلى انتشار القنوات الفضائية الدينية وتعدد نسخها. ولعل تعددها يفسر حجم الفوضى الدينية التي تقع المجتمعات العربية تحت سطوتها.
بهذا المعنى، أصبح الدين رهانا إعلاميا تسويقيا تتجاذب الصراع والتنافس حوله قوى اجتماعية، وسياسية، ودينية أيضا. فتعاظم حضور الدين في الفضاء العام، وتحوله إلى مطلب له علاقة بتنافس الهويات، والصراع على تفسير النص الديني، وتأويله وارتباط التدين بالمشاريع الدينية الحركية، أظهر أن للدين طاقة تعبوية ونفسا سياسيا ممانعا، مما لم يعد مسموحا ترك هذا الرصيد الروحي دون مراقبة وتوجيه وترويض، كما لم يعد مسموحا أن يُستعمل الدين من قبل قوى غير متحكم بها.
لقد أصبحت القنوات الفضائية الدينية هوية بصرية (لمسجد افتراضي أو دار فتوى افتراضية) لمنتوج ديني يُشرف على تشكيل عقل المتدينين وإعادة صياغة المفاهيم الدينية، والتحكم في التحولات الدينية، والاجتماعية، ومنظومة إنتاج القيم من خلال التحكم في منسوب التدين لبناء مجتمع متدين على المقاس. ومع ذلك، تمثل هذه القنوات مصدرا أساسيا من مصادر المعرفة الدينية للمتدينين؛ لأن المواطن العربي وجد فيها ملجأ اضطراريا جراء اختناق الفضاء الديني العام (أو بالأحرى انعدام هذا الفضاء)، ولأن قيم المجتمع الاستهلاكي قذفت به في زوايا التهميش ورسخت لديه الشعور بالعجز، مما عزز لدى شريحة اجتماعية واسعة نزعة الخلاص الفردي/الأناني.
من الناحية السوسيولوجية، لا تعكس هذه الفضائيات مؤشرات دالة على تحول في أنماط التدين أو في القيم الدينية، بقدر ما تمثل محاولة للتحكم بالشروط الاجتماعية للتدين والإمساك بعوامل إنتاجه وإعادة تسويقه، وترتيب القيم الدينية وفق سياسات الحفاظ على البنى الاجتماعية ومحددات الانتماء الاجتماعي، أو اللعب بالتوازنات الدينية التقليدية داخل هذه البنى، لأن هناك تصورا يؤمن بفكرة مفادها أن نمط التدين مؤشر لفهم التحولات الاجتماعية ومآلاتها، وبأهمية دور هذه القيم في بناء الروابط داخل المجتمع وتحكمها في سيرورات التحول الاجتماعي، وفي تشكيل شرائح اجتماعية متضامنة على أساس تلك القيم الروحية.
ولذلك، لا يمكننا من الناحية السوسيولوجية تحليل الخطاب الديني في هذه الفضائيات من دون فهم وتحليل السياسات الدينية الرسمية، والمرجعيات الرمزية والأخلاقية، وأنماط التدين المهيمنة، ومن دون اعتبار وظائف هذه القيم، وأدوارها في صوغ نمط جديد من التضامنات والتحالفات التي يسعى الخطاب الإعلامي الديني إلى تهشيم سيرورتها. ومن ثم، فكل مفردات هذا الخطاب يتم تكثيفها للهيمنة على التضامنات الاجتماعية والضمير الديني والروحي للمتدينين، إن لم يكن يسعى إلى تفكيكها وبعثرة توازناتها الراسخة على أساس أن السيطرة على التضامنات الدينية مدخل للسيطرة على الدينامية الاجتماعية برمتها.
في الختام:
تعكس القنوات الفضائية جزءا من أزمة الفراغ التي تركها انعدام وجود مؤسسة دينية قادرة على إنتاج خطاب ديني له صدقية. ليس هناك إجماع حول المسألة الدينية وحول المشروعية الدينية. الخطاب الديني يُفترض فيه أن يقدم بدائل روحية ومعنوية وهذا تحديدا ما عجزت المجتمعات العربية عن الحسم فيه؛ فدور العلماء أصبح غائبا وغير ذي مصداقية؛ لأن المؤسسات الرسمية استنزفت قواه، ولذلك تتعرض الطاقة الدينية لهذه المجتمعات إلى نوع من الاستغلال العشوائي الذي يلحق بها تشوهات أصبح التدين ساحة تمظهرها وتجليها. أضف إلى ذلك تخلي النخب عن القيام بأدوارها في إعادة بناء وصياغة رؤى فكرية ومعرفية تستلهم من الدين مرجعياتها لتطوير حركة الاجتهاد والإبداع، وتحويل هذه الحركة إلى تيار اجتماعي تنتقل فيه الأفكار الدينية بوصفها إنتاجا بشريا خاضعا باستمرار لإعادة النظر والتأويل. هذه الحركة تنتظر من يتصدى لتفعيلها في إطار مشروع مجتمعي منفتح على الدين، ومتمثل لمقاصده العليا، باعتباره مشروعا إنسانيا كونيا.