لم أكن سريع الحفظ، ولا سريع الفهم، كنت أعتصر ذاكرتي وأشرع خلاياها علّها تحفظ بعضا مما كان يمليه علينا “الفْقِيهْ”.. كنا ثلاثين طفلا في غرفة بالكاد تتسع لعشرة أفراد، قال “الفقيه” يوما: “الزحام يُسهّل عملية الحفظ”
لعله كان يقصد : “الزحام يسهل عملية الضّرب”
كانت له عصا سمّيناها “يـد الله”، كانت تلحقنا أينما كنّا، من مكانه كان يهوي بها على أي أحد أينما كان في الغرفة، فكانت تقع على رأسه أو ظهره إذا ما حاول تفاديها، كانت عصاً طويلة، أطول من سورة البقرة، رغم ذلك حفظنا وقعها علينا ولم نحفظ سورة البقرة .
كنا لا نجلس جلسة غير القرفصاء، لأننا لو جلسنا غيرها لما وسعتنا الغرفة، بينما “الفقيه” كان يجلس فوق كنبة رطبة ممتلئة بحجم هيكله البض الضخم، كانت الكنبة تعادل ثلث الغرفة والفقيه فوقها بنفس الحجم، كنا، إذا ضرَبَنا، نُوَاسي أنفسنا – في قرارة نفسنا – بالضحك عليه ونقول أن لا فرق بين الفقيه والكنبة، كنبة فوق كنبة أو “فقيه” فوق “فقيه”
كانت له غرفة أخرى، أكبر من الغرفة التي كنا نقتعد فيها القرفصاء، لكنه لم يكن يسمح لأحد بدخولها، إلا الذين لم يحفظوا القرآن، كانوا يدخلون هناك، الفقيه والطفل الذي لم يحفظ والعصا، كانت العصا هي أسرع وسيلة لدينا للحفظ .. العصا وغرفة الفقيه
في أحد الأيام – وكان آخر يوم لي في “المسيد”، نَسِي “المختار” آية بينما كان يرتل على الفقيه ما حفظه من إملاء الفقيه علينا يومها، كانت عيناه تنظران إلى الأرض – كلنا كنا ننظر إلى الأرض ونحن نرتل ما حفظناه – بدأ يتلعثم، صار يكرر آخر آية وقف عندها: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”.. “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”.. “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”...
كررها إحدى عشرة مرة، اختلس النظرَ إلى “الفقيه”، رآه يمد يده ليمسك العصا، بدأت الدموع تُذرف من عينيه، دموع أخرى أُذرفت من بين قدميه، عندما رأى الفقيه ’’دموع’’ المختار وقد امتزجت أسفَله حتى بللت كنبته، ترك العصا من يديه، ابتسم في وجه “المختار”.. سحبه برفق من يده ودخلا معا إلى الغرفة.
ساد الصمت بيننا نحن الأطفال.. لم نقدر على الكلام ولا على رفع أعيننا عن الأرض، كنا بين الفينة والأخرى نسترق نظرة إلى البقعة الصفراء التي خلّفها خوف “المختار”، بعد أقل من دقيقة بدأنا نسمع صرخات “المختار”، لم تكن صراخا، كانت تأوها، تخيّلت حينها “الفقيه” يسدّ على فاه “المختار” يريد خنقه، دعوت الله ألا يقتله.. كان التأوه يزداد، مرّت بذاكرتي كل اللحظات التي قضيناها معا أنا و“المختار”، كل السور التي كنت قد نسيتها استرجعتها آنذاك، تذكرت حتى الآية التي نسيها “المختار” لينال بسببها كل هذا التعذيب، فكرت أن آخذ عصا “الفقيه” وأضربه بها إلى أن يفقد وعيه وأخلّص “المختار” من بطشه، كرهت “الفُقْهَا” يومها.. كل “الفقها”.. كل “الفقها”
انقطع صوت المختار منذ دقيقتين، خرج “الفقيه” ويده داخل جيوب جلبابه، فكرت أنه يسد حزامه بعدما خنق به المختار، مرت ببالي فكرة الهرب من “المسيد”، قبل أن تختمر الفكرة في رأسي رأيت “المختار” يخرج من الغرفة، كان بالكاد يقدر على المشي، استغربت من مشيته، كان يمشي منفرج القدمين، خطا نحونا خطوتين والدم يقطر منه، عندما وصل قرب الفقيه، سقط فوق بقعة “الدمع” التي خلّفها، كان سرواله مثقوبا من الخلف، رأيت “مخرجه” الخلفي واسع القُطر، كان الدم يسيل منه بغزارة مختلطا بسائل أبيض – يبدو أنه دمع الفقيه، نظرنا جميعا إلى المختار، سحبنا شهقة بصمت شديد، جففنا دموعنا وعدنا نرتل بصوت واحد ومسموع الآية التي وقف عندها “المختار” : وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ...
* المسيد : هو الكُتّاب حيث يدرس القرآن