لواقعة شارلي إيبدو أكثر من قراءة خاصة وأنها ككرة ثلج انزلقت على منحدر العلاقة بين المسلمين (الذين تأخروا حسب شكيب أرسلان من مطلع القرن الماضي ـ “لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟”) وبين غيرهم (الذين تقدّموا). بل تستدعي ردود الفعل العربية تحديدا على الواقعة وقفة جدية سيما أن من ردود الفعل ما التمس الأعذار لمنفّذي المقتلة في مقرّ الصحيفة ومنهم من ردّ الأمر أصلا إلى غرب جامح في تعميم الإسلامافوبيا وعولمتها. وشعوري هو أن سِجالاتنا العربية ـ العربية والعربية ـ الغربية صارت عقيمة نوعا ما وتدور في دائرة مغلقة.
أحد المحاور التي دارت عليها السجالات هي حرية التعبير أو قُل حدود حرية التعبير. وأبدأ بما أعتبره نقطة الاختلاف الجوهرية في هذا السجال. فالصحيفة أقدمت على نشر رسم للنبيّ باسم حرية التعبير اعتبره مسلمون إساءة لا تُغتفر وتوجب العقاب. وقد رأيناه ومن هنا بدأ العدّ العكسي لتنفيذ المقتلة بحقّ طاقمها. ومِن جُملة ما سمعناه ضمن النقاش الذي أعقب المقتلة أنّ لحرية التعبير حدودا في إشارة إلى أنّ الصحيفة قد تكون تجاوزت هذه الحدود فدفعت الثمن أو استحقت ما أنزله الإرهابيان بطاقمها، وعبره بحرية الرأي التي اتسعت أكثر مما ينبغي أو أكثر مما يتحمّله المسلم أو العربي! حتى عندما قرأت مواقف مثقفين وأكاديميين عرب أعرفهم وأعزّهم صُدمت من لهجتهم التبريرية ومن ادعاءاتهم أن الصحيفة تجاوزت حدود هذه الحرية وأنها لم تراعِ مشاعر المسلمين بل أصابتهم في صميم إيمانهم.
مسألة الحريات هي مسألة إنسانية شمولية عكسها تاريخ كل الشعوب والمجتمعات في كل العصور. بل إن العلاقة بالسلطة، أي سلطة، محور يدور عليه كم هائل من الكتابات التاريخية والأنتروبولوجية والعلم ـ اجتماعية والعلم سياسية والنفسية إلى آخر القائمة. وعليه، فهي ليست حكرا على المجتمعات الغربية منذ العهد الإغريقي ولا العهد الذي تلاه ـ الروماني ولا مسألة خاصة بالعهد الوسيط. فهي بارزة كعين الشمس في قصة الخلق حسب التوراة ـ آدم والمعرفة والمعصية ـ وهي واضحة في الشرائع الفرعونية والحمورابية. بل نراها بصيغ مختلفة في الكونفوشيوسية القديمة. بمعنى أن لها تاريخا طويلا ممتدّا منذ وجود الاجتماع نفسه والانتقال من الصّيد والتقاط الكلأ إلى التجمعات الزراعية الثابتة، والحاجة إلى سلطة تنظم هذا الاجتماع وتصونه.
تأرجحت علاقة السلطة بالناس على مرّ التاريخ بين توفّر الحريات وبين فرض الطاعة المُطلقة لا سيما عندما كان الحاكم “إلها” وكان الملك “ربّا”. أو في حال كانت السلطة مُطلقة في التحكّم بمصائر الرعايا أو منفتحة على حقوق نسبية لهم (بعد الماجناكارتا مثلا). في كل هذه الحالات وصولا إلى الدولة الدستورية الحديثة وإلى هذه اللحظة بالذات ـ أفضى الصراع مع السلطة حول الحريات بما فيها التعبير بأشكاله إلى شلالات من الدماء وإلى أهرامات من الجماجم. فلاسفة ومثقفون وتنويريون ورجال دين وعلماء ومقاتلون من كل المجتمعات والعصور راحوا ضحايا الكلمة والفكرة والفعل الساعي إلى الحريات. فهي إذن حرّيات ثمينة للغاية ووديعة أودعها هؤلاء بين أيدينا كبشر ـ عربا كنّا او غير عرب، متدينين أو علمانيين. وهي الحريات نفسها التي تضمنتها المواثيق الدولية والدساتير الحديثة ووسّعتها لتشمل حرية المعتقد والتدين والشعائر الدينية. ومن هنا التزام الفكر الغربي الأوروبي بها ضمن ما سماه حقوق المواطنة وضمن ما سماه حقوق الإنسان. وهي الحرية التي جاءت المحكمة الأوروبية الاتحادية لتتحدّى دول الاتحاد الأوربي بها ليس فقط بالنسبة للأوروبيين فحسب بل لأولئك الذين يهاجرون إليها وبالتحديد أولئك المهاجرين غير الشرعيين. ومن بين هؤلاء أفواج من المسلمين المتدينين الذين تحميهم حرية التعبير الأوروبية حتى عندما يطالبون بتحويل الدانمارك إلى خلافة أو عندما يخطبون في مساجد لندن عن توقهِم إلى تحويل لندن عاصمة من عواصم الخلافة!
مفهوم الحريات في الغرب الأوروبي “الكافر” يتسع حتى لخطاب إسلاميّ تكفيريّ عنصريّ ينطلق من مساجد ومنصات يقف عليها المستفيدون من مخصصات اللاجئين السياسيين من النرويج شمالا حتى نيس جنوبا! بمعنى أنّ الإسلام السياسي على مدارسه في أوروبا ينهل من صلب هذه الحريات وينعم بامتيازاتها المنصوص عليها في كل دولة وفي القارة الأوروبية. لكن أجزاء منه في أوروبا وخارجها تحاول أن تمنع هذه الحريات عن مؤسسات إعلامية ومبدعين ومنتجين للثقافة في أوروبا نفسها ـ بل تُبادر إلى قمع هذه الحريات باسم مشاعر المسلمين أو مقدّساتهم ـ أنظر ما حلّ بالمخرج الهولندي فان ـ جوخ! أرجّح أنّ قوى واسعة في الإسلام السياسي والثقافيّ لم تُدرك حتى يومنا هذا ما تعنيه حرية التعبير على أشكالها بالنسبة للشعوب الأوروبية وخاصة بالنسبة للفرنسيين الذي يُفاخرون العالم بمنجزات ثورتهم وقِيَمها المشعّة. أو أنه، من فرط القمع وضيق الحريات في الثقافة العربية، لا سيما بصيغتها الإسلامية المعتدلة منها والتكفيرية يصعب تخيّل إمكانية أن تكون الحريات في أوروبا ولقطاعات واسعة في كل أقطارها هي بمثابة شيء مقدّس وفي منزلة قداسة النصوص والمرسلين عند العرب! أو ـ أن المتدينين الإسلاميين لا يفقهون ما معنى الحريات للعلماني في فرنسا أو غيرها! وهم يعتقدون أن للمتدين المسلم مشاعره بينما هي غير قائمة بالنسبة للعلماني أو للصحفي أو للمُبدع الأوروبي!
يُمكننا تفسير سلوك قطاعات من المسلمين حيال حرية التعبير على وجوه عدة ومنها: هو تكريس حالة المركزية العمانية الأوروبية المُطالبة بأن تتسع، وهي المنتصرة والمهيمنة والمتفوّقة، لمشاعر المسلمين فتراعيها، فلا تبيّن مثالب هويتهم و“البُقع السوداء” في تاريخهم ورموزهم! وإذا صحّ، ففي هذا تكريس لدونية الإسلام دينا وثقافة مقابل التفوّق الأوروبي المُطالَب بالمراعاة! لكن قد يكون الموقف من حرية التعبير على مظاهرها الناقدة موقفا من مبنى فكري قِيَمي هو مرايا عاكسة لبؤس الثقافة الإسلامية وجمودها وانغلاق نصوصها على العقل وتخلّفها التام عن ركب الحضارة ومُنجزاتها! ومن هنا يصير الطريق قصيرا إلى كسر المرايا وتحطيمها فوق رؤوس أصحابها بما يعنيه هذا من ممارسة قمع لهذه الحريات يطال الأوروبيين والعرب على السواء ممن يفتحون عقولهم لشمس الحريات وهوائها. هذا بدل الاشتغال على الذات والهوية تصحيحا وتقويما وحفرا وحذفا وليس بالعودة إلى مكان لا عودة إليه إلا في الحلم/الكابوس. ما دام العرب المسلمون أخفقوا في مسيرة العقل البشري على مختلف الجبهات ـ يقول مسلمون عقائديون ـ فلينقضّ الإسلام على هذه المسيرة ويُعيدها خرابا! إن الحريات على مستوياتها ومنها حرية التفكير والتعبير والبحث والعقيدة والتجريب هي المحرّك الذي أطلق البشر في رحلة المكتشفات الفلكية والمنجزات العلمية. لقد دفع كثير من العلماء والمفكرين والباحثين حيواتهم أثمانا لمكتشفاتهم وأفكارهم المناهضة لكل سلطة بما فيها سلطة الدين من كنيسة وبابا وأنبياء ورُسل ونصوص مقدسة. وهذا عكس ما يذهب إليه التكفيريون السلفيون من مسلمين عنيفين يناهضون هذه الحرية ويناصبونها العداء لأنها تشكّل مهدّة قوية الضربات لتكوينهم وذهنيتهم وخطابهم. الحريات عدوة السلطة التي أنشؤوها ويريدون تكريسها. ومن هنا انقضاضهم عليها بهذه الشراسة!
لقد أنشأ الإسلاميون التكفيريون لأنفسهم هوية ميتافيزيقية غير موجودة (وكل هوية متخيّلة حسب أندرسون) مُطلقة وخالصة معمّدة بقداسة النص وتفويض من الإله أو النبي. إنها فكرة تحاول إخضاع الواقع بزمانه ومكانه المختلفين لميثولوجيا هذه الهوية (الأمر حصل في العقائد العلمانية أيضا ـ أنظر الخمر روج). ومِن هنا وُلد إرهاب هذه القوى وخروجها على كل عُرف إنساني وكل قِيمة حتى ولو تأتت بأثمان باهظة كالحريات. والحريات كما صاغها العصر الحديث هي حريات التدين والعقائد الدينية والشعائر بيد أننا سنجد الميتافيزيقيين الإسلاميين وقد استلوا سيوفهم وخناجرهم ونارهم للقضاء على هذه الحريات بوصفها مبنى ذهنيا لقِيَم ومنظومات وترتيبات الدولة الحديثة التي يستعدونها لأنها “الغرب” ولأنها مؤسسة على العقل المفكّر وعلى فكرة الأرض التي يُمكن أن تتحول إلى جنة! بمعنى، إن في هذا الهجوم المحموم على الحريات مكوّن هويتي إشكالي يتجسّد في تيه يدور فيه المسلم التكفيريّ ـ وأحيانا غير التكفيريّ ـ كأنه يطوف في الجنة متشاوفا مستعليا على غيره من أشكال الكيانات الأرضية من دول ودساتير وقِيَم وأعراف. فهو القريب من الله حد التماهي كيف يقبل لنفسه أحكاما من صنع البشر وكيف يرضى عن غير قول الله بديلا!
عند هذه النقطة تحديدا تنقلب الأدوار أو هكذا يُخيّل للمسلم العالق في دوامة الطواف في جنته/هويته. فإذ به يُريد أن يزفّ بشراه للعالم يعلّمه ويربّيه ويوبّخه ويعاقبه ويُعذّبه ويقتله إذا لزم الأمر في إطار إعادته إلى جادّة الصواب ورفعه إلى مستوى المؤهّلين لرؤية الله في الجنة. هنا ترى بعض المثقفين العرب ينافحون عن الإسلام ويُسبغون عليه المديح كما لو أنه ليس في العالم بشر غيرهم ولا نص غير الحديث والقرآن ولا أنبياء ولا قداسة سوى تلك التي يمثّلها الإسلام. أما، فيما يتصل بالعلمانية الأوروبية والدولة الحديثة فإنّها عندهم الشرّ المستطير الذي لا يُقوّم إلا بالسيف وإذا تعذّر فبالنار!
المشكلة هنا مزدوجة. فهي مشكلة الذي يرفض أي اقتراح لرؤية الثقوب السوداء في هويته وثقافته ويُصرّ أنها كاملة وهي منارة الخلق والخليقة. وهي في شقها الثاني متبجّحة مكابرة تريد أن تتماهى الهويات الأخرى فيها وتذوب لأنها هوية الله في صيغة ناسوتية ولأنها منتهى ما بلغه الله في عليائه من قدر وقيمة ـ آخر الأنبياء وآخر الأديان! في مثل هذه الحالة ستأتي حرية التعبير ذاتها ـ هذه التي ما من متكبّر وما من نيرون قديم أو حديث استطاع أن يُخمد نارها لتقول كلمتها في هذا التيه وهذه الميتافيزيقا العصابية المتغطرسة. وهي الحرية ذاتها التي يستعملها هؤلاء في ممارسة شططهم والتعبير عن عصابهم وهوسهم. فلماذا يعجب المسلمون المعتدلون في تدينهم والتكفيريون على السواء لموجات من النقد الموجّه إلى هذه الثقافة المستعلية رغم انغلاقها ونقائصها؟ لماذا يريدون للعالم الغربي وأولئك الذين يهجسون بالحريات أن يسكتوا حيال ألف داعية وألف شيخ ينشدون الخلافة في أوروبا أو يعظون العالم أن يُسلم وإلاّ ناله الويل والموت! ولماذا يتوقعون من مجتمعات أصابها الإسلام السياسي في دولها وناسها ومؤسساتها وقيمها ألا تنتقد وتحفر في الثقافة الإسلامية مُبرزة عوراتها وإن اعتُبرت مقدّسة عند المسلمين؟ ولماذا يطالبون الغرب أو الشرق الذين يشاهدان يوميا العنف الأصوليّ الإرهابيّ باسم الإسلام وبوحي من شيوخ وفتاوى أن يصمتا عن نقد أصول هذه الثقافة ونصوصها ورموزها؟
إن حرية التعبير في كل الدول غير مُطلقة وإن كان البعض يريدها كذلك. وهي متفاوتة في الثقافات وفي الدول الحديثة الأوروبية، أيضا. بل هي غير مضمونة إلا بشكل نسبيّ ومحدود في بعض الدول. لكن أساسها هو في الاستئناف على العقد الاجتماعي بصيغته المبكرة الذي قلّص من الحريات مقابل ضمان السلامة والأمن الشخصي للأفراد والجماعات. إلا أنّ الصيغة الحديثة وما بعد الحديثة رأت أن تضمن الحريات بمدى كبير جدا كسلاح في أيدي المواطن مقابل عسف الدولة واحتكارها العنف وحق إنزال العقاب. أي إنها حريات للجم قوة الدولة والسلطة ومحاسبتهما. والحريات في إحدى وظائفها هي أداة فاعلة للدفاع عن حقوق المستضعفين والأقليات بما فيها الدينية وضمان إمكانيات تحولها إلى أكثرية. وهي في الليبرالية وسيلة هامة لتحقيق أقصى حدّ من سعادة الإنسان وتحقيق ذاته. وهي تصير حرية اعتقاد وممارسة المهنة والتعلّم وتحقيق الذات الكاملة. الحريات في أساسها مبنية على فرضية أن الإنسان مخلوق عاقل ومفكّر ويعرف ما يُريد وما هو صالحه. وهذه نقطة صدام حتمية أخرى مع الفكر الأصولي الإسلامي الذي يسعى إلى الهيمنة على الفرد في كل شيء وصولا إلى لحظة جِماعه أو كيفية هذا الجِماع مع شريكه/ته.
الحريات بمفهومها الغربيّ تضمن التصدّي للسلطة والحاكم بشتّى الأشكال. وهي واسعة بحيث يُمكن أن يستعملها، أيضا، معادو الجانب والإسلامافوبيون والعنصريون. وهذا صحيح بشكل عام لكنه لا ينطبق على كل حالة إبداع وتعبير. بل إن الغالبية الساحقة من حالات التعبير الحرّ فنا وكتابة التي تناولت الإسلام ثقافة وخطابة وسلوكيات وموروثا كان هاجسها التعبير والنقد. وهو حقّ أساسيّ لهم لا الإساءة أو التحقير كما فسّر ذلك مسلمون تحشّدت وراءهم دول ومؤسسات وأناس غير متدينين. ردود فعل تجاوزت حدود حرية التعبير باتجاه معاكس إذا فرضنا جدلا ـ وجدلا فقط ـ أن هذه الحالات تجاوزت الحدود ناحية الثقافة الإسلامية! على أي حال لقد رأينا أن رزمة الحريات في الدولة الحديثة وفي نظام القانون الدولي ضمن الحريات الدينية والشعائر وممارساتها وضمن بالمقابل الحريات من الدين ومن الشعائر. وهو ما لم يحصل في الدول العربية التي تأرجحت بين دستور حديث وبين الشريعة. لكنها سرعان ما فضّلت الشريعة كجزء من محاولات صد الإسلام السياسي وأسانيده القائمة في نصوص الموروث الإسلامي على تعددها. ومن هنا فإن الإسلام الذي رأيناه يصور نفسه ضحية مقابل غرب عنصري بالفرضية يُتيح لنفسه أن يصير مصادرًا للحريات وأكبر صخرة يُمكن أن توضع على باب الحريات كي لا ينفتح ـ كل الحريات الشخصية والسياسية والمدنية.
انظر وضع النساء في العالم الإسلامي ـ وليس فقط النساء ـ لنُدرك أي سلطة قامعة للحريات تُشكّلها أحكام الثقافة الإسلامية حتى المعتدلة منها! بمعنى ـ أن الثقافة التي تُطالب الغرب بإنصافها أو عدم الإساءة إليها هي ذات الثقافة التي تجثم كالجبل فوق روح الأفراد والمجموعات تحاول أن تهندسهم. ومن هنا رأينا كيف أن الثقافة الإسلامية في صورتها التكفيرية الأصولية العنيفة تزهق الأرواح كمقصلة لا تتوقف عن العمل وتدمّر الحاضرة العربية والغربية باسم الإسلام وأحكامه بينما لم نرَ حرية التعبير أو مناصريها يقتلون أحدا لأنه أساء للغرب وثقافته في خطبته أو فتواه! لم أرَ حتى الآن أحدا قُتِل باسم حرية التعبير ـ بل أنصارُها هم الذين يُقتلون كل يوم وعبر التاريخ.
تلخيص ما لا يُلخّص
مشهد الطيار الأردني الأسير وهو يحترق يسيء للإسلام تاريخا وثقافة وتراثا أكثر من أي شيء حصل في السجال مع الغرب من قبل. وكذلك مشهد الداعشيين يعدمون امرأة أو يجزّون عنق أسير ارتهنوه لمجرّد أنه غير مسلم! وهكذا، مشهد المقتلة في شارلي إيبدو وقبلها مشهد الطائرة التي أسقطت مبنى التجارة العالمية في نيويورك. ما تصنعه هذه المشاهد وضعت الإسلام في دائرة المساءلة عن طبيعته وهويته وتاريخه ورسالته مثلما وضعت النازية الحداثة في قفص الاتهام ومثلما وضع الاستعمار أوروبا في مرمى النار من خارجها ومن داخلها. هكذا كلّ إخفاق أخلاقيّ مدوٍّ لثقافة ما عبر التاريخ الحديث. ولا يُمكن لأيّ مسلم أو عربيّ أن يفرّ من وابل الأسئلة الراهنة. يبدو لي أن لا ملاذ له ولا شفيع في عالم ترسخت فيه حريات التعبير واشتدّ عودها وتعددت وسائلها. لا مفرّ للجمود العقائديّ في الإسلام دينا وثقافة إلا أن يواجه صورته في مرايا العالم مثلما واجهت كل فظائع المجتمعات والثقافات وتواجه صورتها في المرايا ذاتها. وما يصحّ على التجربة الأمريكية في فيتنام يصحّ على الداعشية وشاكلاتها من كيانات وتمثيلات ومشاهد ووقائع على الأرض. إنه العقل البشري المفكّر على خطوط العرض والطول ومدار الجدي والسرطان يواجه الميتافيزيقا الداعشية التكفيرية كما واجه الستالينية والتوتاليتارية وسواهما من فظائع لا تقلّ هولا. العقل ذاته الممثل بحريات التعبير والتفكير والإبداع هو العقل الذي يقف للاستعلاء معكوسا والعنف معكوسا والأصولية معكوسة بالمرصاد.
إن إضرام النار في الطيار الأردني وهو حيّ بأيدي داعش يفتح سيلا من أسئلة العقل تبدأ بدور عدسة فضائية الجزيرة وتنتهي إلى النصوص المقدّسة التي تشرعن فعلا همجيا كهذا وإلى أرضية الأديان والنصوص وبشرية النبيين جميعا. إنه العقل الكلي الذي يفيض عن النصوص ويحفر فيها وحولها وتحتها فلا يبقي فيها حرفا على حرف ولا تاريخ على تاريخ. أما مشكلة المأسورين في قمقم هوياتهم وثقافاتهم فهي في أنهم أقالوا العقل أو اغتالوه أو أغلقوا النصوص عليه وأحكموا الإغلاق لئلا يتضح لهم أنهم بشر كباقي البشر وأنّ عقيدتهم كباقي العقائد لا أقلّ ولا أكثر، وأنّ كلّ ما قاله فرويد ولوبان وفيريري ينسحب على كل واحد منهم منفردا وعليهم مجتمعين.
الجمعة يوليو 10, 2015 10:45 am من طرف amooon